حد الرجم .. بين إجماع السابقين، وأقوال المتأخرين

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

كل من تكلم في نفي حد الرجم من الأسماء الشهيرة من العلماء وطلبة العلم ممن انتقل إلى جوار ربه أو لا يزال على قيد الحياة؛ هم جميعا من طبقة 150 سنة الأخيرة وربما أقل أو أكثر بقليل. لم يحصل جدل بين الأمة قبل ذلك حول حد الرجم ولم يتم تناول تلك الأدلة التي لخصها الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى على النحو الذي تم تناوله عند هؤلاء الأفاضل.

وما من عالم إلا وله زلة، وما من قرن خلا من مسألة افتتن بها كثير من أهل العلم.

تعليقات بسيطة تكشف ابتعاد أولئك العلماء عن الحق في هذه المسألة بسبب افتتانهم بالغزو الحضاري الغربي حرصا منهم - بلا شك - على نصاعة الدعوة وإدخال الناس في دين الإسلام، دين الخلاص والنجاة يوم الدين، فأقول مستعينا بالله:

1. لا يجوز أن تنقضي قرون في مسألة شهيرة بأدلتها واجتماع كلمة العلماء عليها، دون وجود ولو واحد من أهل العلم - على الأقل - في كل قرن يخالف في حد الرجم، وهذا غير ممكن شرعا، ولا قدرا وسنةً كونية أن يترك الله الناس قرناً أو قروناً دون أن يكون هناك من يبين ويجلي القول المخالف وإن كان اختيار القلة لا الكثرة، فإن الحق لا يعرف بكثرة رجاله والقائلين به، بل بالحجة والبيان.

2. أن العلة الحقيقية في بحث أولئك الأفاضل واختيارهم رفض حد الرجم؛ واضح أنه ذو منشأ تفكري عاطفي مقاصدي - وإن أغرق في المقاصدية بما لا يحقق مصلحة ولا يدرأ مفسدة إلا عاطفة أولئك الأفاضل تجاه ما ينسب للدين من العنف والقسوة - وأبدى ذلك الشيخ أبو زهرة حين قال للشيخ القرضاوي "يا يوسف، هل معقول أن محمدا بن عبد الله الرحمة المهداة يرمي الناس بالحجارة حتى الموت". اه.

وهي الحجة الأمضى والسبب الأقوى عند أولئك الأفاضل في اختيارهم، وله يحشدون ويكيفون ما يعتري النصوص من ظنية الثبوت وظنية الدلالة، رغم أنها لا تسعفهم مع تضافرها وتعاضدها وتتابع القرون على اعتماد دلالة ما مضى عليه أهل الإسلام قرونا من ثبوت الرجم للزاني المحصن بشروطه المعلومة.

3 . إن أكثر ما يقع فيه العلماء من خطأ لدى الخوض في مثل هذه المسألة، هو قضية الناسخ والمنسوخ، وأنصح بالدراسة والاحتفاف بتفسير العلامة السعدي من أئمة الدعوة النجدية الكبار، ومن مقدمي الشافعية في جزيرة العرب، فقد انتهج في تفسيره طريقة بديعة يثبت فيها الأحكام الجلية في الإسلام سواء قال القائل بحصول النسخ في موضع تلك المسألة من نصوص الوحي أو لم يقل بحصوله.

4. إن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، بأبي هو وأمي، لكنه وحي يوحى ... 

ولذلك أشاح بوجهه عن الغامدية ...

وأمر المسلمين بالستر على المذنب وعدم إيصال فعله إلى القضاء ... 

ولما أراد أحد من كان له الحق في الحد أن يتنازل عن حقه في تطبيقه، فقال له صلى الله عليه وسلم "هلا كان قبل أن يبلغني؟" أو كما قال بأبي هو وأمي، ورفض إلغاء الحد وأقامه ...

وكان يغضب إذا انتهكت محارم الله ولا تأخذه في الله لومة لائم، فمع رحمته لا يخالف ما جاء الشرع به.

5. أن الغاية من ابتداع مثل هذه الأقوال من أولئك الأفاضل، كما في مسألتنا هنا "الرجم" هو تحقيق مصلحة إقبال الناس على الإسلام، ودرء مفسدة صدودهم عنه، لكن هذه الغاية لن تتحقق بمثل هذا المسلك، لأن أحكام الشريعة فيها من الحزم والإغلاظ في الحكم في مسائل كثيرة معلومة مجمع عليها ثابتة، كقطع يد السارق وأحكام الحرابة وحادثة العرنيين وسمل أعينهم وإماتتهم صبرا تحت الشمس، وهي لأمور شنيعة تفعل من قبل أولئك اقتضت أن ينالوا الجزاء الرادع لهم ولأمثالهم.

6. أن المتناولين لقضايا كقضايا حد الرجم لا يتناولونها بصورتها التي توجب الحكم عليها بهذا الحد، بل يكتفون بالقول بحد الرجم على الزاني المحصن، وهذا فيه افتراء لمن تعمد وزلل وخلل فيمن تناولها كذلك بلا تعمد، والبيان بمقدمة ثم نتيجة، على النحو الآتي:

المقدمة:

إن إثبات القضاء يكون بشاهدين عدلين، غير أنه في جرم الزنى نلاحظ ما يلي:

أولا: الأصل في الزنى ألا يثبت قضاء لا في حق المحصن ولا غير المحصن إلا باعتبارات، الأولى في العدد بأربعة شهود عدول يرون الجرم معا، والثاني في كيفية ثبوت الجرم بشهود الأربعة، وهو أن يكون برؤية الميل في المكحل لا مجرد الخلوة ولا المفاخذة ولا المداعبة بما دون الجماع، فإن رأى ثلاثة الميل في المكحل ولم ير الرابع فلا يثبت قضاء، وهذا من أصعب ما يمكن كشفه برؤية أربعة شهود عدول لفعل جرم لا يفعل عادة إلا في تخف وحرص من الجاني ألا يراه أحد.

ثانيا: أن حكم الرجم لا يكون إلا في الزاني المحصن والزانية المحصنة

ثالثا: أن حكم الرجم في الزاني المحصن إنما يكون لعظم أثره في نسبة ولد الزنى إلى الفراش فتختلط الأنساب وهي من الضرورات الخمس، في حين أن الزانية غير المحصنة لا تستطيع أن تنسبه إلى فراش فهي ليست تحت فراش رجل بعد.

النتيجة:

مما سبق، نعلم أن صورة حكم الرجم لا تقع فقط على اعتبار مجرد فعل الزنى بل معه اعتبارات تستنبطها من الصورة التي شرحناها سابقا في حكم من يستحق الرجم، فيكون حكم الرجم بشروط كالآتي:

1. أن يكون الزاني محصنا، فهو بذلك يتسبب بخلط الأنساب إن تخفى بفعلته ونجا "وهذا خطير".

2. أن يكون مجاهرا أو في حكم المجاهر، وغير مبال ومجترئا يفعل الفعل دون خوف أو تخف أو استتار، ذلك أنه يرتكب الجرم بما يمكن شهوده بأربعة من الشهود العدول، وبوضعية يتمكن بها الشهود رؤية الميل في المكحل!!

ومثل هذا أشبه بالمجترئ على حدود الله زاد على زناه الاجتراء فيه. فإن لم يتم ردع هذه النوعية من الزناة فسينتشر الزنى في الطرقات ودون تخف، وقد ورد في بعض الأثر أن من علامات آخر الزمان أن يزني الناس على قارعة الطرقات فأي جرم أبشع من ذلك.

وما دون هذا الاجتراء والوقاحة في ارتكاب الجرم، لا يمكن في الأحوال الطبيعية رصد الجرم بأربعة شهود إلا نادرا جدا، بل ربما لا تحصل في مجتمع بحالة التخفي، وإن حصلت فمرة في جيل من أجيال مجتمع ما.

فيتبين أن قسوة الحكم من عظم أثر الجرم فعلا وكيفية ثبوته قضاء تبين ذلك وتوضحه.

ومثل ذلك في قطع يد السارق حين تشترط السرقة من حرز، فمن قصر في حق ماله ولم يحرزه، حتى لو قبض على الجاني لا يحكم بقطع يده لأنه سرقه في غير حرز. فيشعر أن ثمة مقاصد لهذا الحكم القاسي بقطع يد السارق من حرز أبعد من مجرد أخذ مال الناس خلسة فهو يحفظ حرمات البيوت وأعراضها أن تنتهك من المقتحم عليها للسرقة من الحرز "المقصود بالحرز أي حماية، فيكون في صندوق أو في مكان مخبأ داخل بيت أو دكان أو بناء"، كما أن في السرقة من حرز مع مظنة كشف ستر البيوت وحرماتها، مظنة أن يعمد السارق إن كُشف إلى ارتكاب جرم القتل مثلا حتى لا يلقى القبض عليه.

وجميع ما سبق لا يحصل في السرقة من مال غير محروز، ويرجع الحكم فيه إلى التعزير بما هو مناسب.

وترك مثل ذلك دون عقوبة رادعة قاسية ستجعل الناس تأكل مال بعضها بل وتتهارج ويقتل بعضها بعضا مما يؤدي إلى فوضى المجتمع وخطورته بما يفضي إلى تفككه وهجرة الناس منه خوفا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.

تناول حد الرجم بشروطه وصورته وضوابطه تزيل أوهاما تقع في نفس من يرى أن الحد فيه ما يضاد الرحمة، والله تعالى أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين