حديث في التعليم

وددت لو فرض كتاب (الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم) للعلامة المحدث عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله على جميع المراكز والمدارس والجامعات التي تخرج رجال التعليم، وكم رجوت أن ينهل منه كل من يتصدى للتعليم، لما له من قيمة علمية متميزة، في بيان شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية، والكشف عن أساليبه الراقية في التعليم، والإحاطة بمنهجيته الحضارية في التلقين والتوجيه والإرشاد. ولله در الصحابي الجليل معاوية بن عبد الحكم السلمي رضي الله عنه، فقد أوقفنا على براعة وحسن تعليمه صلى الله عليه وسلم، بعبارته الرشيقة، وألفاظه البديعة، وأسلوبه العربي الراقي. وهي شهادة تاريخية تصدر ممن عاين وشاهد تعليمه صلى الله عليه وسلم عن قرب، قال رضي الله عنه: "فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني..." (والحديث بتمامه موجود عند مسلم).

ولقد كان أسلوبه ومنهجيته صلى الله عليه وسلم في التعليم التيسير، والرفق والرحمة بالمتعلم، في تواضع جم، وخفض جناح، لا يوجد عند غيره البتة، ممن تصدى للتربية والتعليم، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا." (رواه مسلم). وفي كلمة جامعة لأمنا عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم، قالت: "كان خلقه القرآن" فقد جمع فضائل ومكارم أخلاق القرآن كلها، مما جعل له مكانة سامية، ومنزلة عالية. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "وإنما كان عليه الصلاة والسلام خلقه القرآن، لِأَنَّهُ حَكَّم الْوَحْيَ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى صَارَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى وَفْقِهِ، فَكَانَ للْوَحْي موافقا قائلا مُذْعِنًا مُلَبِّيًا نِدَاءَهُ، وَاقِفًا عِنْدَ حُكْمِهِ." (الاعتصام 2/339).

ومع الأسف أين تعليمنا من أساليبه، ومنهجيته، وأخلاقه في التعليم والتلقين صلى الله عليه وسلم؟، فكم رأينا من المنتسبين إلى العلماء، والأساتذة، والمربين قد غشيتهم الفظاظة والغلظة، واستحكم فيهم التنفخ والتعالي، وهيمن عليهم الكبر والبطر، فلا يرضون من المتعلم حتى أن يبدي رأيا، أو ينطق قولا وسؤالا، ولو فعل ذلك للحقته زمجرة الأستاذ العالم، ولربما لعناته، ثم من بعدها صباغته الحمراء، التي لم يرقب فيه عدلا ولا إنصافا.

فنحن في الحقيقة أمام أزمة أخلاقية في تعليمنا، تعليم –في مجمله- مبني على الاستبداد والفساد، والذل والهوان، فلا ينتج إلا جيلا مشوها، منكسر الجناح، محسا بالدونية والهزيمة، لا يستطيع أن يسأل أستاذه، وهو أقرب الناس إليه، يراه يوميا، بله أن يسأل ويطالب الحاكم بحقوقه وواجباته، وفي الوقت ذاته يؤدي ما عليه. 

ولله در أستاذنا طه جابر فياض العلواني رحمه الله، فقد كان طرازا فريدا في الحوار والنقاش مع طلبة العلم، فقد حكى لي قصته مع أحد المشايخ في العراق، أيام كان طالبا في الثانوي، قال عنه: "لو فقد أو اندثر فقه أبي حنيفة من الأرض، لرواه من حفظه"، كان معه في تجوال لعله بجانب الوادي، وهما يتحدثان في قضايا ومسائل من العلم، فلما أبدى التلميذ طه رأيه، زجره وغضب. فقد كان كما قال أستاذنا طه –بالرغم من كونه رجلا عالما فاضلا تقيا- لا يقبل النقاش، ولا إبداء الرأي من الطلبة. ولهذا كان أستاذنا طه يوصي الأساتذة والعلماء –وقد سمعت ذلك منه في إحدى الندوات بالرباط- بفسح مجال حرية المناقشة، والاستماع إلى الطلبة، وتربيتهم على ذلك، بأدب واحترام. لذا أقول: الحرية هي التي تنشئ التفكير، والتفكير الحر هو الذي يبني المجتمع، أما القمع والاستبداد فينشئ جيلا مرعوبا منكمشا على نفسه، لا ينظر إلى المعالي، فلا عمران أقام، ولا إنسانا حرر.

العالم هو المتواضع

وعندي أن المنتسب إلى العلماء، لا يصدق عليه هذا الوصف، حتى يكون متواضعا خلوقا، لأنه لا جرم أن العالم لا يؤثر في المتعلم بمجرد العلم الذي يبثه فيه، ويغرسه في ذهنه، وإنما التأثير الذي يبقى عالقا في ذهن المتعلم، ويؤثر في نفسيته وسلوكه، هو التأثير الأخلاقي، فكم من عالم حظه من العلم الحفظ وجمع الكتب لا غير، مع قلة الفهم، لكن أخلاقه عالية، وتواضعه جم، يؤثر في تلاميذته وجلسائه.

إذا لم تكن حافظا واعيا=فجمعك للكتب لا ينفع

وفي هذا السياق أود أن أحكي قصة، كان العلماء الراسخون، والمربون الناجحون، يحكونها لطلابهم، يعلمونهم من خلالها خلق التواضع في العلم، حفظتها سماعا من شيخنا الداعية عبد الحفيظ العيساوي رحمه الله. يحكى أن شيخا أصيب بداء الغرور، فأصبح يحسب نفسه قد أدرك ولايتين: ولاية من علم، وولاية من تصوف وزهد. ذات يوم ركب البحر في جماعة من مريديه وطلابه، فماج البحر بهم، فقال الشيخ المغرور: أسكن يا بحر، فإن فوقك بحران، بحر من ولاية، وبحر من علم، فأخرج الله له دابة من الماء فكلمته، فقالت: يا شيخ زوج مسخ زوجها، أتعتد عدة الوفاة أم عدة الطلاق؟ فبهت الشيخ المغرور المتكبر؟ ولم يدر بما يجيب. فقالت له: أتتخذني شيخا وأعلمك، فلم يجد بدا من قبول عرضها، وهي بذلك تكسر داء الكبر في قلبه، فقالت: إن مسخ جمادا تعتد عدة الوفاة، وإن مسخ حيوانا تعتد عدة الطلاق.

والمهم من هذا كله أننا في حاجة إلى امتثال أخلاق النبوة، فنتجمل بها، في سلوكنا وفي تعليمنا، وفي واقعنا، والمسؤولية على العلماء والدعاة والمربين جسيمة لا شك في ذلك، وفي الوقت الذي نطلب فيه الزيادة من العلم "وقل ربي زدني علما"، فإنه ينبغي أن نضع أمامها "وفوق كل ذي علم عليم".

عود على بدء

وبما أننا ألمعنا إلى كتاب العلامة أبي غدة في مطلع هذه المقالة، فإنه رحمه الله جمل كتابه، وختم فصوله وشطريه، بعنوان نفيس المبنى، غزير المعنى، عميق الفائدة، يجمل بكل عالم أن يقف عنده، ويتحلى به، فيزين به نفسه ومجلسه، نجعله خاتمة ما سبق.

التعليم بذاتيته الشريفة صلى الله عليه وسلم

"لقد كان رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم معلما اختاره الله تعالى لتعليم البشرية دين الله وشريعته الخاتمة والخالدة...وكان هذا المعلم المصطفى من الله تعالى لتبليغ شريعته للناس، معلما بمظهره ومخبره، وحاله ومقاله، وجميع أحواله، فتكامل شخصيته الشريفة أسلوب معلم للمتعلمين أن يكونوا كمثاله الشريف وهديه المنيف.

ومن أهم صفات المعلم أن يكون في ذاته متكامل المحاسن عقلا وفضلا، وعلما وحكمة، ومنظرا ورواء، ولباقة ولياقة، وحركة وسكونا، وطيب حديث، وذكاء رائحة، ونظافة ثياب، وجمال طلعة، وحسن منطق وتصرف وإدارة.

وقد كان كل هذا في ذات الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم على أتم وجه وأعلى حسن واكتمال، فهو معلم بذاته الشريفة النموذجية لكل متعلم ومسترشد، فهو صلى الله عليه وسلم تتمثل فيه غاية التعليم بأساليبه المختلفة، لأن كل تلك الوسائل والأساليب تتوجه وتوجه لأن يكون المسلم محققا لقوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"

فهذا الكمال الجامع فيه صلى الله عليه وسلم غاية الغايات من جميع الأساليب، وزبدة التعليم والتهذيب، ولقد حظيت ذاته الشريفة بأعلى الثناء العزيز الفريد، المؤكد من الله تعالى كل التأكيد، بقوله تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" (الرسول المعلم، ص216،217).

رحم الله أبا غدة على ما أجاد به وأفاد، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن المقتدين بالرسول الأكرم والمربي والمعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين