حديث ديني حول الزلزال

حديث ديني حول الزلزال

رامي السقا

 

لو كان البكاء يكتب بالكلمات، لبدأت هذه المقالة بكاءً على آلاف الناس المظلومين المهجرين المنكوبين، الذين يخرجون من محنة لتحل بهم غيرها في الشمال السوري، حيث اجتمع مختلف أطياف الشعب السوري الأبي الذي ثبت أكثر من عقد من الزمن الطويل رغم شراسة آلة الإجرام التي استقدمها الأوغاد من كل بقاع الدنيا ليردوه عن مطالبه، ثبت على مبدأه الذي آمن به، رَفْضِ الظلم والاستبداد، وأن يستعبد الناس بعضهم بعضاً.

ليأتي بعد ذلك فجر يوم الإثنين (6/2/2023م) فيكون تاريخاً محفوراً في ذاكرتهم، لا يُنسى، يلقون الله تعالى به، ينتظرون أجراً عظيماً وإكراماً جليلاً وعطاءً بغير حساب، جزاء صبرهم وثباتهم واحتسابهم، حيث لم تسمع منهم إلا كلمات التكبير والاستغفار والحمد والتوحيد، استسلاماً لقضاء الله الذي لا يرد، وتسليماً لحكمة التي لا يدرك غورها.

وإذا كان الشُّكّاك يرون في الذي حدث ما يزيد شكهم لأنهم كانوا بعيدين عن الحدث، فإن المؤمنين الذين حلت بهم الكارثة لم يزدادوا إلا إيمانًا وتسليماً، فلم يجدوا في الذي مرّ بهم إلا مصداق تصوير آيات كتاب الله العزيز لأحوال النفس البشرية ومشاعرها وعواطفها، والتجائها في الملمات إلى رب الأرض والسماوات، وتفويضها إليه راضية أو راغمة، وضعف البشرية كلها بكل تطورها وتقدمها واستكبارها، وأنها تقف مشلولة كسحاء في مواجهة مشهد صغير جداً جداً مما حدثنا عنه القرآن الكريم من أهوال يوم القيامة، أو مما حل من عقوبات إلهية في الأقوام الذين قص علينا قصصهم، كل ذلك يقوم على ركيزتين لا يمكن إنكارهما إلا جحوداً، الأولى مقدار الضعف والعجز البشري أمام القدرة الإلهية، والثانية التسليم الفطري الضروري عند المصائب بوحدانية الله والالتجاء إليه، والإكثار من ذكره في أشد الحالات التي يظنها المشكك لحظات الاعتراض والعياذ بالله.

ولأن بعض الأسئلة (العقلانية) قد تتوارد من البعيدين عن الحدث الذين لم يعيشوا فيوضات التسليم لله التي عاشها أهل الحدث سنشير إلى بعض التساؤلات، ولأن الجرح ما زال مفتوحاً لم يلتئم بعد، سنوجز في ذلك قدر المستطاع.

 

الزلازل والنظام الكوني

كثيرة جداً هي الآيات القرآنية التي تشير إلى إتقان وإبداع خلق النظام الكوني، أما كل ما يفعله العلم خلال الثورات العلمية الهائلة التي جعلت الإنسان الغربي يستكبر، هو اكتشاف شيء يسير من النظام الكوني الدقيق الذي سخره الله تعالى لتكون الأرض صالحة لمعيشة الإنسان، لا يستطيع الإنسان بكل طغيانه تغيير شيء من ذلك النظام، ولا يستطيع الإحاطة به، وغاية ما يمكنه القيام به هو اكتشاف (شيء) من قوانينه وتطوير حياته وفقها، وكلما زادت معرفة الإنسان أدرك أن ما لم يعرفه عن الكون أكثر بكثير مما عرفه، بل لو حصرنا الأمر بكوكب الأرض وحده لا بالكون الفسيح، لم يعرف الإنسان إلا الأقل، بل في الإنسان وحده وهو مخلوق واحد من مخلوقات الأرض.

 

ولكن الإنسان المادي قد اغتر بما وصل إليه مقارنة بجهله المدقع الذي عاشه في أوربا في العصور الوسطى، عندما كان يرفض أي تفكير وتفسير علمي للظواهر التي يراها، وكان يردها للغيبيات الإلهية، وكأن التفسير العلمي يتناقض مع الإيمان بالله! وهذا ما سنشير إليه عندما نتحدث عن إله الفجوات.

قلنا أنه من أكثر ما لفت القرآن إليه أنظار الناس هو نظام الكون الذي لا يمكن إلا أن يكون من صنع إله خبير حكيم أحد، ولكن الإنسان عندما يألف ذلك يغيب عنه مقدار الإبداع وعظمته فينسى أو يطغى، ألا ترى أنك لو جئت برجل من جيل الأجداد وأريته تقنيات الموبايل أو الميتافيرس وميزاته اندهش واستغرب، لأنه شيء جديد لم يألفه فأدرك مقدار الإبداع فيه، ولكن الطفل الذي نشأ في ظل وجود هذه التقنيات لا يدرك ذلك لأنه أَلِفَها.

وكذلك كانت الظواهر الكونية، يألف الناس نظام الكون ويركنون إلى الدنيا، فتأتي هذه الآيات كالكسوف والخسوف والزلازل لتذكر الناس أن ارتفاع جزء من قانون واحد من القوانين الكثير التي تحكم الأرض يؤدي إلى كوارث مدمرة، فكيف لو كانت الأرض كلها بلا نظام! فهذه آيات من آيات الله كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكسوف والخسوف.

 

خوارق تأييدية وخوارق ترهيبية

مهما بلغ العقل البشري لن يستطيع إدراك حِكَم الله تعالى في كل شيء، وإذا قلنا إن الزلازل تذكير وترهيب فلعلنا نشير إلى بعض الحكم التي أشار إليها القرآن والسنة.

وإذا كان الإنسان لا يملك إلا اكتشاف بعض قوانين الكون، بل هو نفسه جزء من قوانين الكون، كانت كثير من معجزات الأنبياء خوارق عادات، أي خوارق للقوانين الكونية التي اعتاد عليها الناس، ولا يستطيع خرق نظام الكون إلا الخالق المدبر جل في علاه، فيقول الأنبياء لأقوامهم أنهم مرسلون من عند الذي بيده ملكوت كل شيء الذي يستطيع وحده أن يخرق نظام الكون.

وتأتي الخوارق الترهيبية لتقول للناس أن: لا تركنوا إلى الدنيا ولا تظنوا الخلد فيها، ولا تظنوا أموالكم وقوتكم وحصونكم مانعتكم من الله فالله تعالى قار في لحظة واحدة على رفع كل شيء تركنون إليه.

 

بين الزوال الجزئي والزوال الكلي

عندما أكثر القرآن من التنبيه إلى إحكام نظام الكون، أردف ذلك بالتنبيه إلى سرعة زواله وانقضاءه، وتبعثُر كل شيء بناه الإنسان، وخروج كل ما كان يُخَبِّؤُه من ضغائن وأحقاد، ولعل كل مسلم يحفظ سور جزء (عم) المليء بهذه التنبيهات، عندما تفتح أبواب السماء، وتُسَيّر الجبال. {إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرضُ رَجّا (٤) وَبُسَّتِ ٱلجِبَالُ بَسّا (٥) فَكَانَتۡ هَبَاء مُّنبَثّا (٦)} [سُورَةُ الوَاقِعَةِ: ٤-٦]، كل هذا الرعب الذي عاشه الناس لم يَزُل جبل واحد ولا جزء من جبل، فكيف إذا زالت الجبال من أماكنها، لا ملجأ من الله إلا إليه.

كيف يكون حال الناس: {یَومَ تَرجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ (٦) تَتبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ (٧) قُلُوب یَومَىِٕذ وَاجِفَةٌ (٨) أَبصَـٰرُهَا خَـٰشِعَة (٩)} [سُورَةُ النَّازِعَاتِ: ٦-٩]

قد يتعاون الطغاة في الدنيا على طغيانهم، ويسعون في مساعدة بعضهم للنجاة من العقاب، ويستكبرون على الناس ويظلمون، ولكن هذه القوانين، قوانين الدنيا كلها إلى زوال: {إِذَا ٱلسَّمَاءُ ٱنفَطَرَتۡ (١) وَإِذَا ٱلكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتۡ (٢) وَإِذَا ٱلبِحَارُ فُجِّرَتۡ (٣) وَإِذَا ٱلقُبُورُ بُعثِرَتۡ (٤) عَلِمَتۡ نَفس مَّا قَدَّمَتۡ وَأَخَّرَتۡ (٥) یَـٰأَیُّهَا ٱلإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلكَرِیمِ (٦)} [سُورَةُ الانفِطَارِ: ١-٦] ليكون ختام السورة أن تحالفاتك في الدنيا على المعصية والظلم كلها هباء، {یَومَ لَا تَملِكُ نَفس لِّنَفس شَیـٔاۖ وَٱلأَمرُ یَومَىِٕذ لِّلَّهِ} [سُورَةُ الانفِطَارِ: ١٩].

 

تلك الآيات تؤكد للناس زوال كل شيء في لحظات رهيبة زوالاً كلياً، هذا تذكير من خلال آيات القرآن، وتأتي الآيات الكونية لتكون زوالاً جزئياً لبعض القوانين التي يركن إليها الناس، وهذا تذكير بآيات الأقدار والأحوال، فلا ينبغي لقارئ القرآن بعد اليوم أن يمر على آيات زوال النظام الكوني بالكلية دون قدر كبير من الخشوع بعد أن رأى رهبة زوال جزء صغير لمدة قصيرة وما أحدثه.

 

الأصل والاستثناء

لقد كانت معظم آيات ومعجزات الأنبياء في خرق النظام الكوني، وهذا استثناء في الاتعاظ، أما الأصل فهو الاتعاظ والانتفاع من تدبر ثبات النظام الكوني واكتشاف قوانينه والعمل بها، ولذلك كانت معجزة النبي محد صلى الله عليه وسلم هي معجزة النظام والإتقان والإحكام، والتوجيه إلى إطلاق النظر في الأنفس والآفاق لاكتشاف قوانين الله عز وجل، فكان القرآن على عكس المعجزات الأخرى، معجزة النظام لا معجزة خرق النظام، وهذا ما جعله معجزة كل زمان ومكان، حيث يكتشف فيه مزيد من آيات الله في الكون، {وَفِی ٱلأَرضِ ءَایَـٰت لِّلمُوقِنِینَ (٢٠) وَفِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبصِرُونَ (٢١)} [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: ٢٠-٢١]، {لَخَلقُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرضِ أَكبَرُ مِنۡ خَلقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعلَمُونَ} [سُورَةُ غَافِرٍ: ٥٧]، فعندما نقول أن الأحداث الكونية المخيفة تكون للتنبيه والتذكير لا نقصد أنها الأصل في ذلك، بل الأصل حسن تدبر وشكر النعم، لا انتظار زوالها.

 

ماذا عن قانون السببية

عندما طلب القرآن من المسلمين النظر في كون الله واكتشاف قوانينه والاستفادة من ذلك، طلب منهم ذلك وفق الأسباب، ونظام الأسباب هذا جانب من جوانب عظمة تنظيم الكون، ولكن لقائل أن يقول: إذا كان كل شيء بسبب، كيف تقولون أن هذه الكوارث بقدر من الله لغايات وحكم؟

ولأن هذا السؤال فلسفي قد يطول، سنحاول الإيجاز قدر المستطاع، إن نظام الأسباب في الكون لا يعمل وحده كما يظن فريق من الناس، كما أن أقدار الله تعالى لا تغفل عن الأسباب، فالسبب جزء من القدر، والقدر يراعي السبب، وفي المحصلة هناك إرادة إلهية هي الغالبة.

ذلك فيما يملك الإنسان الأخذ بأسبابه، أما هذا الظواهر الكبرى فلا يد للإنسان فيها، وإذا قال العلماء أن لها أسباباً علمية فهذا لا يخالف عقيدة المسلم، ولكن قدرة الله الغالبة هي التي توجه وتحرك الأسباب العلمية، وإلا لوقعنا في التسلسل المستحيل عقلاً، فليس التسلسل المستحيل في خلق الكون فقط، بل في أسباب الأحداث، فكل سبب يستند إلى سبب قبله، إلى أن نصل إلى إرادة الله تعالى.

 

وإله الفجوات!

من أسباب انتشار الإلحاد في أوربا فكرة إله الفجوات التي كانت مسيطرة في عصور الجهل والتخلف، وهي تفسير كل ظاهرة لا يعرفون سببها تفسيراً إلهياً، ولما تطورت الكشوف العلمية وجدوا أن هذه التفسيرات خاطئة، وقالوا لقد اخترعتم فكرة الإله حتى تعطوا تفسيراً للأمور التي كنتم تجهلون سببها، وها قد أدركنا سببها، فمات إلهكم!

 

أما عند المسلمين فالأمر على عكس ذلك، لم يقل القرآن للمسلمين توقفوا عن البحث العلمي، وكل شيء يحدث معكم هو من عند الإله ولا حاجة بكم لعالم الأسباب، بل دفع القرآن المسلمين وحثهم وأكد على ضرورة فهم الكون من حولهم ونظامه وأسبابه، والأخذ بها والاعتماد عليها والتوكل على الله.

ففكرة إله الفجوات تقول للمؤمن بها: لا تفكر في الظواهر التي تحدث، الله أحدثها ولا شأن لك بذلك.

أما عند المسلمين: لقد خلق الله تعالى كوناً دقيقاً محكماً، عليك مسؤولية البحث العلمي واكتشاف آيات الله في الكون، لترى عظمة إبداع الخالق.

عند أصحاب إله الفجوات: كل حدث تراه يحدثه الله تعالى ابتداءً بدون سبب.

عند المسلمين: كل حدث تراه رتب الله تعالى له أسباباً، ابحث فيها لتدرك عظمة الخالق.

عند أصحاب إله الفجوات: الله يخلق كل شيء، بعشوائية.

عند المسلمين: الله تعالى يخلق كل شيء بنظام وأسباب.

 

وهل سببه كثرة المعاصي

قد يدرك الإنسان شيئاً من الحكم، كالتخويف والتذكير، اعتماداً على آيات وأحاديث، كقوله تعالى {أَوَلَمۡ نُعَمِّركُم مَّا یَتَذَكَّرُ فِیهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ ٱلنَّذِیرُۖ} [سُورَةُ فَاطِرٍ: ٣٧] فهذه الكوارث نذير من النذر، وكقوله {وَمَا نُرسِلُ بِٱلـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخوِیفا} [سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ٥٩].

أما أن يحكم الناس على بعضهم بأن هذا كان بسبب كثرة تظالم ومعاصٍ فهذا من باب اتهام الناس، والتألي على الله عز وجل، وما أدراه أن هذه هي الحكمة من هذا الحدث بالذات، يمكن للمرء أن يقول أن هذه الأحداث قد تحدث عقاباً أو تذكيراً... ولكنه لا يستطيع تخصيص واقعة بالذات على أقوام بأعيانهم، وإن كان يجب على المرء نفسه في خاصة نفسه أن يكثر من التوبة والاستغفار واتهم نفسه بالتقصير.

وهذه الأحداث قد تكون عقاباً وقد تكون كفارات وقد تكون رفع درجات والأدلة على ذلك كثيرة.

وإلا: كيف كان أشد الناس ابتلاء الأنبياء!!

 

آلام كبيرة

لا أحب إيراد أسئلة من هذا الباب إلا إن سمعتها من الناس، وهذا الذي حصل، ألا يمكن أن يكون التذ

كير أو الترهيب بدون هذه الآلام، والإجابة من شقين:

الأول: محدودية الإدراك البشري، واللهِ، قد يدعوا الإنسان بأمر ما سنوات، صباح مساء، ويظن الخير كل الخير فيما يريد، ولكن الله تعالى يحرمه من ذلك، لخير لا يعلمه إلا الله.

الثاني: محدودية الدنيا وسرعة زوالها، {وَمَاۤ أَمرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمحِ ٱلبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقرَبُۚ} [سُورَةُ النَّحۡلِ: ٧٧]، وسيأتي يوم القيامة أشد الناس شقاء في الدنيا من الصالحين، فيصبغ صبغة واحدة في الجنة ثم يقسم أنه لم ير بؤساً قط، ولكن الناس سكارى في الدنيا، يصحون من سكرتهم عند النفخ في الصور.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين