حديث الأبناء عن الآباء

في علم الحديث الشريف باب يطلق عليه رواية الأبناء عن الآباء، يذكرون فيه من كانت له رواية عن والده من اهل العلم. وموضوعه غير ما نحن بصدده هنا، فهنا نهدف إلى من ترجم لأبيه وليس من روى عن أبيه.

وكلام الأبناء عن الآباء أصدق الكلام، وبخاصة عندما يكون الابن على طريق أبيه في العلم والعمل به.

ومن هذا الباب ما كتبه صالح ابن الإمام أحمد من سيرته، وما كتبه الإمام تاج الدين السبكي من ترجمة لوالده قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ففي كتابه (طبقات الشافعية الكبرى) أكثر النقل عن والده، كما أكثر الكلام عنه والتمدح بأخلاقه وكرم طباعه واجتهاده، ومما قاله بحق والده، مثلا:

«وَهَذَا الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله إِذا حُسب مَا كتبه من التصانيف، مَعَ مَا كَانَ يواظبه من الْعِبَادَات، ويمليه من الْفَوَائِد، ويذكره في الدُّرُوس من الْعُلُوم، ويكتبه على الْفَتَاوَى، ويتلوه من الْقُرْآن، ويشتغل بِهِ من المحاكمات، عرف أَن عمره قطعا لَا يفي بِثلث ذَلِك. فسبحان من يُبَارك لَهُم ويطوي لَهُم وينشر».

الأدب قبل الفقه:

والأمثلة في هذا الباب كثيرة قديما وحديثا. وكلها تصب في توجيه الطلبة وتحفيزهم. فقد كان سلفنا الصالح، رضوان الله تعالى عليهم، يحرصون كل الحرص على توجيه الطلبة وإرشادهم نحو العمل بالعلم والرقي في مدارج مكارم الأخلاق التي بعث لأجلها نبينا صلى الله عليه وسلم، حتى أثر عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قوله: «نحن إلى كثير من الأخلاق أحوج منا إلى قليل من الفقه».

من هذا الباب جاء كلام الأستاذ الدكتور أحمد منير جذبة الذي علق به على الترجمة التي رفعتها على صفحتي على (كتاب الذات - facebook)، لوالده شيخنا الفقيه المُحَدّث زين العابدين الجذبة، المتوفى سنة ٢٠٠٥ رحمه الله تعالى، لكن الكلام هناك جاء يشبه الحاشية، وحقه أن يكون متنا يستفيد من نفحاته طلبة العلم وطلبة القيم، لذلك آثرت جعله مقالة لأجل هذه الفائدة.

من الفوائد (المنيرية)

استفتح الدكتور أحمد منير كلامه بنقول عن السلف الصالحين في الأدب مع العلماء ومع الكبار، فقال:

رحم الله الربيع بن سليمان صاحب الإمام الشافعي وراوي كتبه، المتوفى بمصر سنة (270ه)، إذ يقول: «سمعتُ مشايخنا رحمهم الله يقولون: الأدب مع العلماء دينٌ ووفاء».

وجاء في كتاب " مدارج السالكين " أنَّ الإمامَ مالكَ بنَ أنس رحمه الله تعالى قال: «كانت أُمي تُعَمِّمُني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة – وكان يدَرِّسُ في المسجد النبوي -  فتعلَّم من أدبهِ قبل عِلمِه».

وجاء في "تاريخ ابن عساكر"؛ أنَّ الربيع بن سليمان رحمه الله تعالى قال: «والله ما اجترأتُ أنْ أشربَ الماءَ، والشافعيُّ ينظر إليَّ هيبةً له».

قال الأستاذ أحمد منير: أَعظم بالعلماء وأرباب الأدب، الذين يحفظون غيْبَةَ شيوخهم، ويُعظِمون حُرْمَتَهم، ويَذكُرَون مآثرهُم، ويُظْهِرون مَناقِبَهم، ثم يعرفون حقَّهم، ولا ينسَوْن لهم فضلَهُم، ذلك دليل على طيب محتدهم ونُبل أرومتهم ...

مآثر الآباء من كلام الأبناء

ثم شرع يحدثنا عن شيخنا حديث العالم العارف وليس فقط الابن الواله، فقال: كان والدي-  رحم الله أحبابكم - حَاضرَ البَديهة، صَادقَ الْفِراسَة، عَاليَ الجنابِ، زاهداً بما في أيدي النّاس، مُعْتمداً على اللهِ في المَنْشَط والْمَكْرَه، محباً الْخيرَ وأهلَهُ، ومقتفياً آثارَ أُولِي الفَضْلِ من العُلماءِ العَاملين والأتقياء الصّالحين الَّذين تَخَلَّف عن قافلتهم ليَحْذُوَ حَذْوَهُم ويسيرَ على قَدَمِهم، وصدق ما قيل بلسان حاله:

كلُّ العُلومِ سئِمْتُها..... فجديدها بــالٍ رثيثُ

إلاّ الحــديثُ فإنَّهُ..... مثل اسمِه أبداً حديثُ

رَحمَكَ اللهُ يا والدي، فقد كُنتَ نَقياً تَقياً، زاهداً وَفياً، عَلَماً مُحدِّثا، نِلتَ هذا الطريقَ من خلالِ أجدادٍ كرامٍ تَصِلُ قمَّتُهم إلى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

 كُنتَ أنموذجاً لكلِّ طلابِ العِلم ليسيروا على هذا النَّهج، ويأخذوا بهذا الطَّريق. لقد توافَق اسمُك "زين العابدي"  مع حالِك، فكنتَ زَيْناً في عِبادتك، و زَيْناً في  تَعليمك، و زَيْناً في تربيتك ...

عِشْتَ خمساً وتسعين سَنَةً (1910 – 2005)، كانَت حياتك يُنبوعاً في العِلم والدِّقة واستقامةِ الذاكرة الَّتي لمْ تُلْوِها الأيام، وتَوقّد ذهنٍ لم تُطفِئْهُ السّنون.

كنْتَ تقول: «هذه جوارحٌ حفظناها عن الْمعاصي في الصِّغر فحفظَها اللهُ علينا في الكِبَر».

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين