حدث في العشرين من رمضان

 

حدث في العشرين من رمضان
 
في العشرين من رمضان من سنة 626 توفي في حلب، عن قرابة 50 عاماً، ياقوت بن عبد الله الرومي الحَمَويّ، أبو عبد الله، شهاب الدين، المؤرخ الثقة، وإمام الجغرافيين، ومن العلماء باللغة والأدب.
أصله من الروم، أُسِرَ من بلاده صغيرا، وابتاعه ببغداد تاجر اسمه عسكر بن إبراهيم الحموي، وإليه نُسِب، وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط، ولا يعلم ‏شيئاً سوى التجارة، فجعله في الكُتَّاب، لينتفع به في ضبط تجارته، وربّاه وعلمه وشغله بالأسفار في متاجره، ثم أعتقه سنة 596 وأبعده، فقرأ النّحو واللّغة، وعاش من نسخ الكتب بالأجرة، فحصل له اطّلاعٌ ومعرفة.
وعطف عليه مولاه بعد ذلك، فأعطاه شيئا من المال واستخدمه في تجارته فاستمر إلى أن توفي مولاه، فحصَّل شيئاً مما كان في يده، وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله، وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً.
وأورد معاصره - الذي لم يلتقي به - ابن خلكان في ترجمته في وفيات الأعيان: وكان متعصباً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان قد طالع شيئاً من كتب الخوارج، فاشتبك في ذهنه منه طرف قوي، وتوجه إلى دمشق في سنة 613 وقعد في بعض أسواقها، وناظر بعض من يتعصب لعلي رضي الله عنه، وجرى بينهما كلام أدى إلى ذكره علياً رضي الله عنه بما لا يسوغ، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه، فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزماً بعد أن بلغت القضية إلى والي البلد، فطلبه فلم يقدر عليه، ووصل إلى حلب خائفاً يترقب، وخرج عنها إلى الموصل، ثم انتقل إلى إربل وسلك منها إلى خراسان، أقام بها يتجر في بلادها، واستوطن مدينة مرو مدة، وخرج عنها إلى خوارزم، وصادفه وهو بخوارزم خروج التتر.
وفي سنة 616 هرب ياقوت مع من هرب من وجه الهجوم المغولي، فانهزم بنفسه تاركاً ما يملك، وقاسى الشّدائد، ووصل إلى الموصل سنة 617 وقد تقطعت به الأسباب، وأعوزه دنيء المأكل وخشن الثياب، أقام بالموصل مدة مديدة، ثم انتقل إلى سنجار وارتحل منها إلى حلب.
وهذا الزعم بأن ياقوت ممن يرى رأي الخوارج وأنه منحرف عن محبة علي رضي الله عنه، ليس له مايؤيده في كتب ياقوت رحمه الله تعالى، فقد اقتبس في مقدمته على معجم الأدباء أقوال علي رضي الله عنه، ثم ترجم له في معجم الأدباء ترجمة تفيض بالاحترام والتقدير، فقد قال فيها: أخباره عليه السلام كثيرة، وفضائله شهيرة، إن تصدينا لاستيعابها وانتخاب محاسنها كانت أكبر حجماً من جميع كتابنا هذا، ولا بد من ذكر جملٍ من أمره على سبيل التاريخ يستدل بها على مجاري أموره، ونتبعها بذكر ولده ومن أعقب منهم ومن لم يعقب، وذكر شيء مما صح من شعره وحكمه. ثم يورد أبياتاً منسوبة إلى علي رضي الله عنه يفتخر على معاوية وهي:
محمدٌ النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمدٍ سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمدٍ ولداي منها ... فأيكم له سهم كسهمي؟
سبقتكم إلى الإسلام طراً ... صغيراً ما بلغت أوان حلمي
وأورد ياقوت في ترجمة الإمام أبو جعفر الطبري: كان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده واطرحه، وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خُمٍّ وقال: إن ابن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم، وقال هذا الإنسان:
ثم مررنا بغدير خم ... كم قائل فيه بزور جَمِّ
على علي والنبي الأمي
وبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ الكلام في فضائل علي بن أبي طالب، وذكر طرق حديث خم فكثر الناس لاستماع ذلك، واجتمع قوم من الروافض ممن بسط لسانه بما لا يصلح في الصحابة رضي الله عنهم، فابتدأ بفضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم سأله العباسيون في فضائل العباس فابتدأ بخطبة حسنة وأملى بعضه وقطع جميع الإملاء قبل موته.
وفي حديثه في معجم البلدان عن النهروان يقول ياقوت: وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللهَ عنه مع الخوارج مشهورة، وفي حديثه عن سجستان يقول: وبسجستان كثير من الخوارج يظهرون مذهبهم ولا يتحاشون منه، ويفتخرون به عند المعاملة، حدثني رجل من التجار قال: تقدمت إلى رجل من سجستان لأشتري منه حاجة فماكسته فقال: يا أخي أنا من الخوارج لا تجد عندي إلا الحق ولست ممن يبخسك حقك، وإن كنت لا تفهمٍ حقيقة ما أقول فسل عنه، فمضيت وسألت عنه متعجبا، وهم يتزيون بغير زي الجمهور فهم معروفون مشهورون. ثم ينقل عن أهلها امتناعهم على بني أمية في لعن علي رضي الله عنه، ويقول: وأي شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبرهم!
وأيّاً كانت الأسباب لهذه الرحلة التي دامت 3 سنوات، فقد عاد ياقوت إلى حلب، ولقي فيها كل ترحاب وتقدير من عالم كبير وجَمَّاعة للكتب نِحْرير، هو الوزير الكبير الصاحب جمال الدين القاضي الأكرم أبو الحسنِ علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القُفطي، الذي وضع مكتبته العامرة تحت تصرفه فتمكن من تأليف كتابه معجم البلدان، ، وأقام في خان بظاهرها إلى أن توفي.
وكان قد وقف كتبه على خزانة كتب عامة في مسجد الشريف أبي الحسن الزيدي الذي بدرب دينار ببغداد، وسلمها إلى صديقه الشيخ عز الدين ابن الأثير، أبي الحسن علي بن محمد المتوفى سنة 630، ومصنف التاريخ الكبير، فحملها إلى هناك.
وواقف هذه الخزانة ومؤسسها هو أبو الحسن الزيدي على بن أحمد بن محمد بن عمر بن مسلم بن عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن محمد بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب، العلوى الحسنى الزيدى نسبا، والشافعي مذهبا.
وكان أحد المشار إليهم بالزهد والعبادة، والفضل والعفة والنزاهة، متواضع في طلب العلم وحضور مجالس الحديث، والسماع من كل راو، وصحبة طلبة العلم، والنسخ والتحصيل لا يفتر من ذلك، وكان موصوفاً بحسن الخَلق والخُلق، وسمع الحديث الكثير، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه، واستكتب بخط غيره، وحصَّل الأصول الكثيرة حتى صار له من الكتب المصنفة والمسانيد والأجزاء شئ كثير، فوقفه بمسجده الذى استجده بدار دينار الصغيرة، وشاركه في الوقفية شريكه رفيقه صبيح النصرى، وأضاف إلى كتبه ما حصله من كتب وما كتبه بخطه واستكتبه بخط غيره، وتوفي رحمه الله سنة 575 عن 46 عاماً.
ويجدر أن نشير أن ياقوت قد ذكر عز الدين ابن الأثير في كتابه معجم الأدباء في ترجمة أخيه مجد الدين محمد المتوفى سنة 606، وما نورده يدل على حرص ياقوت على العلم وتفرغه له، قال: واستنشدت عز الدين شيئاً آخر من شعر أخيه  مجد الدين فقال: كان أخي قليل الشعر لم يكن له به تلك العناية، وما أعرف الآن له غير هذا.
فقلت له: فأمْلِ عليَّ تصانيفه، فأملى عليَّ: كتاب البديع في النحو الأربعين كراسة، وقفني عليه فوجدته بديعاً كاسمه سلك فيه مسلكاً غريباً، وبوبه تبويباً عجيباً، كتاب الباهر في الفروق في النحو أيضاً، كتاب تهذيب فصول ابن الدهان، كتاب الإنصاف في تفسير القرآن أربع مجلدات، كتاب الشافي وهو شرح مسند الشافعي أبدع في تصنيفه، فذكر أحكامه ولغته ونحوه ومعانيه نحو مائة كراسه، كتاب غريب الحديث على حروف المعجم أربع مجلدات، كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول عشر مجلدات جمع فيه بين البخاري ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وسنن النسائي والترمذي عمله على حروف المعجم، وشرح غريب الأحاديث ومعانيها وأحكامها ووصف رجالها، ونبه على جميع ما يحتاج إليه منها.
قال ياقوت: أقطع قطعاً أنه لم يُصنَف مثله قط ولا يُصنف، وله رسائل في الحساب مجدولات، كتاب ديوان رسائله، وكتاب البنين والبنات والأباء والأمهات والأذواء والذوات مجلد، كتاب المختار في مناقب الأخبار أربع مجلدات إلى غير ذلك.
ولا تتوسع المراجع التي ترجمت لياقوت لأكثر مما ذكرت، وللدكتور الفاضل جورج خليل مارون كتاب حوله وحول كتابه معجم البلدان، ولكن لا يزال في الأمر زيادة لمستزيد ولمعرفة جوانب شخصيته ومسار حياته ومنهجه في التأليف لا بد من الرجوع إلى ثنايا كتبه والوقوف على ما ذكره عن نفسه ورحلاته ومطالعاته، ،  أسأل الله أن يوفقني لذلك، لتقر عينُ والدي الذي كان معجباً بتآليفه وضبطه ويستروح لقراءتها كثيراً.
ومثال ذلك أن ياقوت زار مصر كما يدل على ذلك قوله في ترجمة جنادة بن محمد الهَروي اللغوي: سمعت هذا الحديث في مصر مفاوهة. وجاء في آخر طبعة دار صادر لمعجم البلدان خاتمة الكتاب: وقال المؤلف رحمه الله: وكان فراغي من هذه المسودة في العشرين من صفر سنة 621 بثغر حلب، وأنا أسأل الله الهدايةَ إلى مَراضيه، والتوفيقَ لمحابّهِ بمنّه وكرمه. وهذا يوحي بأنه انتهى من الكتاب في تلك السنة، ولكنه في مادة جزيرة ابن عمر يقول: وبنو الأثير العلماءُ الأدباءُ، وهم مجد الدين المبارك، وضياءُ الدين نصر الله، وعز الدين أبو الحسن علي، بنو محمد بن عبد الكريم الجزري، كلٌّ منهم إمام، مات مجد الدين، والآخران حَيان في سنة 626.  وهذا خطأ يتعارض مع تاريخ وفاة ضياء الدين في سنة 622.
كانت لياقوت رحمه الله همة عالية في تحصيل المعارف، وكل طلبة العلم عيالٌ على كتبه الموسوعية التي يستغرق الأعمار تأليفها، والتي يعلم كل من طالعها واستفاد منها مكانة ياقوت من التأليف والبحث والتمحيص، ولا شك أنه وفق لمنهج سديد في عمل الجذاذات على الترتيب الأبجدي مكّنه من إخراج هذه الكتب، ومن أهم كتبه معجم الأدباء، ومعجم البلدان، ومن كتبه كذلك المشترَك وضعاً والمفترِق صُقعاً، وهو مختصرٌ من معجم البلدان، والمقتضب من كتاب جمهرة النسب، والمبدأ والمآل في التاريخ، وكتاب الدول، وأخبار المتنبي، ومعجم الشعراء.
ومعجم الأدباء هو أحد أبرز مؤلفاته، تتبع فيه مؤلفات التواريخ، وجمع فيه تراجم المؤلفين والكُتَّاب، وأسماه إرشاد الألبّاء إلى معرفة الأدباء ، ثم عُرِفَ باسم معجم الأدباء، قال رحمه الله في أوله:
وجمعتُ في هذا الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين واللغويين والنسّابين والقراء المشهورين، والأخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة المعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفاً أو جمع فيه تأليفاً، مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز، ولم آل جهداً في إثبات الوفيات، وتبيين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم، والإخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم، في تردادي إلى البلاد ومخالطتي للعباد، وحذفت الأسانيد إلا ما قلّ رجالُه وقرب منالُه، مع الاستطاعة إثباتها سماعاً وإجازة، إلا أنني قصدت صغر الحجم وكبر النفع، وأثبتُّ مواضع نقلي ومواطن أخذي من كتب العلماء المعوِّل في هذا الشأن عليهم، والرجوع في صحة النقل إليهم.
وكتابه المهم الثاني هو معجم البلدان، الذي أورد فيه أسماء البلدان وصفاتها ومن ينتسب إليها، وخاتمته تنبئ عن أخلاقه وفضله، قال في نهايته:
قال عبيد الله الحقير مؤلف هذا الكتاب: إلى ها هنا انتهى بنا ما أردنا جمعه، وتيسر لنا وضعه، من كتاب معجم البلدان، بعد أن لم نأل جهداً في التصحيح والضبط والإتقان والخط، ولا أدعي أنني لم أغلط، ولا أشمخ بأنني لم أك في عشواء أخبط، والمقر بذنبه يسأل الصفح، فإن أصبت فهو بتوفيق الله تعالى، وإن أخطأت فهو من عوائد البشر.
فلما لم أنته من هذا الكتاب إلى غاية أرضاها، وأقف منها عند غَلْوة - مقدار رمية السهم - على تواتر الرشق أقول هي إياها، ورأيت تعثُّرَ قمر ليل الشباب بأذيال كسوف شمس المشيب وانهزامه، وولوجَ ربيع العمر على قيظ انقضائه بأمارات الهرم واقتحامه، استخرت الله تعالى ذا الطَول والقوة ووقفت ها هنا راجياً نيل الأمنية، بإهداء عروسه إلى الخُطّاب قبل المنية، وخفت الفوت، فسابقت بإبرازه الموت، وإنني بانهزام العمر قبل إبرازه إلى المبيضة لـجِدُّ حَذِرْ، ولفلول حد الحرص لعدم الراغب والمحرض عليه منتظر، وكيف ثقّتي بجيش بيَّتته من كتائب الأمراض المبهمة حواطمُ المَقانب – أي المصائد المميتة-  أو أركن إلى صباح ليل أمسيت وقد اعترضتني فيه الأعراض من كل جانب، ومع ذلك فإنني أقول ولا أحتشم، وأدعو إلى النزال كل بطل في العلم عَلَم ولا أنهزم: إن كتابي هذا أوحدٌ في بابه، مؤمرٌ على جميع أضرابه وأترابه، لا يقوم لمثله إلا من أُيّد بالتوفيق، وركب في طلب فوائده كل طريق، فغار وأنجد، وتقرب فيه وأبعد، وتفرغ له في عصر الشباب وحرارته، وساعده العمر بامتداده وكفايته، وظهرت عليه علامات الحرص وأماراته.
نعم، وإن كنت أستصغر هذه الغاية فهي كبيرة، وأستقلُّها فهي لعمر الله كثيرة، وأما الاستيعاب فأمر لا تفي به طِوال الأعمار، ويحول دونه مانعاً العجز والبوار، فقطعتُه والعين طامحة، والهمة إلى طلب الازدياد جامحة، ولو وثِقتُ بمساعدة العمر وامتداده، وركَنتُ إلى أن يعضدني التوفيق لبغيتي منه واستعداده، لضاعفت حجمه أضعافاً، وزدت في فوائده مئين بل آلافاً، وخير الأمور أوساطها، ولو أردت نفاق هذا الكتاب وسيرورته، واعتمدت إشاعة ذكره وشهرته، لصَّغرتُه بقدر الهمم العصرية، ورغبات من يراه من أهل الهمم الدنية، ولكنني انقدت فيه لنَهمتي، وجررت رَّسني له بقدر همتي، وسألت الله أن لا يحرمنا ثواب التعب فيه، ولا يكلنا إلى أنفسنا فيما نعمله وننويه، بمحمد وآله وأصحابه الكرام البررة.
وقال المؤلف رحمه الله: وكان فراغي من هذه المسودة في العشرين من صفر سنة 621 بثغر حلب، وأنا أسأل الله الهدايةَ إلى مَراضيه، والتوفيقَ لمحابّهِ بمنّه وكرمه.
كان ياقوت الحموي غزير الفضل، صحيح النقل، متحرياً صدوقاً، له النظم الحسن والنثر الجيد، وأورد فيما يلي طرفاً من رسالة طويلة كتبها إلى القاضي الأكرم جمال الدين علي بن يوسف الشيباني القفطي في حلب يصف فيها رحلته إلى مرو بخراسان ثم ما جرى عليه بعد المغول:
وقد كان المملوك لما فارق الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العز اللُّباب والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدرارَ خِلْفِ – ثدي - الزمن الغشوم الجامح، اغتراراً بأن الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الإقتار ذل وإسار، وجليس البيت، في المحافل سكِّيت:
وقفتُ وقوف الشك ثم استمر بي ... يقيني بأن الموت خير من الفقرِ
تودعت من أهلي وبالقلب ما به ... وسرت عن الأوطان في طلب اليُسر
وباكيةٍ للبين قلت لها اصبري ... فلَلموتُ خير من حياة على عُسر
سأكسِبُ مالاً أو أموتُ ببلدةٍ ... يقلُّ بها فيض الدموع على قبري
فامتطى غارب الأمل إلى الغربة، وركب مركب التطواف مع كل صحبة، قاطعاً الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد أو كاد، فلم يَصحَب له دهرُه الحرون، ولا رقَّ له زمانه المفتون.
وكان المقام بمرو الشاهجان، المفسر عندهم بنَفَس السلطان، فوجد بها من كتب العلوم والآداب، وصحائف أولي الأفهام والألباب، ما شغله عن الأهل والوطن، وأذهله عن كل خِلٍّ وصفيٍّ وسَكَن، فظفر منها بضالته المنشودة، وبُغية نفسه المفقودة، فأقبل عليها إقبال النهم الحريص، وقابلها بمُقامِ لا مَزمَعٍ عنها ولا محيص، فجعل يرتع في حدائقها، ويستمتع بحسن خلقها وخلائقها، ويسرح طَرْفه في طُرَفها، ويتلذذ بمبسوطها ونُتَفِها، واعتقدَ المُقام بذاك الجناب، إلى أن يجاور التراب.
فجاس خلال تلك الديار أهلُ الكفر والإلحاد، وتحكم في تلك الأبشار أولو الزيغ والعناد، فأصبحت تلك القصور، كالممحو من السطور، وأمست تلك الأوطان، مأوى الأصداء والغربان، تتجاوب في نواحيها البوم، وتتناوح في أراجيها الريح السَّموم، ويستوحش فيها الأنيس، ويرثي لمصابها إبليس.
فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر، وتهدم العمر، وتفت في العَضُد، وتوهي الجلَدَ، وتضاعف الكمد، وتشيب الوليد، وتسود القلب، وتذهل اللب.
فحينئذ تقهقر المملوك على عقبه ناكسا، ومن الأوبة إلى حيث يستقر في النفس بالأمن آيسا، بقلب واجب، ودمع ساكب، ولُبٍّ عازب، وحِلم غائب، وتوَّصلَ وما كاد حتى استقر بالموصل بعد مقاساة أخطار، وابتلاء واصطبار، وتمحيص الأوزار، وإشراف غير مرة على البوار والتبار، لأنه مرَّ بين سيوف مسلولة، وعساكر مفلولة، ونظام عقود محلولة، ودماء مسكوبة مطلولة، وكان شعاره كلما علا قَتبا، أو قطع سبسبا ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾، فالحمد لله الذي أقدرنا على الحمد، وأولانا نعماً تفوت الحصر والعد
تنَكَّر لي دهري ولم يدْرِ أنني ... أعِزُّ وأحداث الزمان تهونُ
وبات يريني الخَطبَ كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون
ثم يذكر ياقوت للقاضي القفطي ضعف صحته وشعوره بدنو أجله، فيقول رحمه الله: والمملوك الآن بالموصل مقيم، يعالج لما حَزَبَه من هذا الأمر المُقعِدِ المقيم، يزجي وقته، ويمارس حرفته، وبَخْتُه يكاد يقول له باللسان القويم ﴿ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ﴾، يذيب نفسه في تحصيل أغراض، هي لعمر الله أعراض، من صحف يكتبها، وأوراق يستصحبها، نَصَبُه فيها طويل، واستمتاعه بها قليل ثُم الرحيل، وقد عزم بعد قضاء نهمته، وبلوغ بعض وَطَرِ قَرُونته - أي نفسه - أن يستمد التوفيق، ويركب سَّنن الطريق، عساه أن يبلغ أمنيته، فقد ضعفت قواه عن دَرَك الآمال، وعجز عن معاركة الزمان والنزال، إذ ضمت البسيطة إخوانه، وحجب الجديدان أقرانه، ونزل المشيب بعِذاره، وضعُفت منه أوطارُه، وانقض بازٌ على غراب شبابه فقنصَه، وأكبَّ نهار الحِلم على ليل الجهل فوقصه، واستعاض من حلة الشباب القشيب، خَلَق الكِبَر والمشيب:
وشبابٍ بانَ مني وانقضى ... قبل أن أقضيَ منه أَرَبي
ما أُرجّي بعده إلا الفنا ... ضيَّقَ الشيبُ عليَّ مَطلبي
ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات، وما أقل غَناء الباكي على من عُدَّ في الرفات:
تنكر لي مذ شِبْتُ دهري وأصبحت ... معارفُه عندي من النكراتِ
إذا ذكرَتها النفسُ حنَّت صَبابةً ... وجادت شؤونُ العين بالعبرات
إلى أن أتى دهر يُحسِّنُ ما مضى ... ويوسعني تذكارُه حسرات
فكيف ولم يبق من كأس مشربي ... سوى جُرَع في قعره كَدِرات
وكل إناء صفْوُهُ في ابتدائه ... وفي القعر مُرجا حَمأةٍ وقَذاة
رحمه الله رحمة واسعة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين