حدث في العاشر من جمادى الآخرة وفاة العلامة القلقشندي

 

في العاشر من جمادى الآخرة من سنة 821 توفي في القاهرة، عن 65 سنة، العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي الفزاري، صاحب موسوعة صبح الأعشى في صناعة الإنشا.

 

ولا تفيدنا المراجع التي بين يدينا كثيراً عن نشأة القلقشندي أو حياته، فهو في هذا مغموط أشد الغمط، نظراً لفضله وعلمه كما سنرى، وهذه ظاهرة ملحوظة وإن لم تكن شائعة لدى مؤرخينا، إذ نجدهم أحياناً يغمطون أعلاماً علماء فضلاء فلا يوردون لهم ترجمة تشفي الغليل فضلاً عن أن توفيهم حقهم، وقد بحثت في كتب معاصريه من أمثال ابن خلدون والمقريزي وابن قاضي شهبة وابن حجر وتغري بردي، فلم أجد شيئاً أكثر من بضعة سطور، وأقدر أن سبب ذلك هو أنه كان منفرداً لا يخالط الناس كثيراً، وسأحاول فيما يلي أن أتحدث عن القلقشندي بما أوردته كتب التراجم ثم بما عثرت عليه في ثنايا كتبه.

 

ولد أحمد ابن جمال الدين علي بن أحمد بن عبد الله الفزاري القلقشندي، في قلقشندة سنة 756، ولم أعثر على ترجمة لوالده جمال الدين علي، ووالدته هي ابنة الفقيه الشيخ عبد الله بن محمد الغُماري المالكي الذي كان من كبار المتصوفة في زمنه إذ كان خليفة أبي العباس البصير محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن جزي الأنصاري الخزرجي البلنسي الأندلسي المتوفى بالقاهرة والمدفون بالقرافة سنة 623.

 

 قال القلقشندي في نهاية الأرب عند حديثه عن بني غمارة: ومن هذه القبيلة جدنا الشيخ عبد الله الغماري، خادم سيدي أبي العباس البصير الخزرجي الأندلسي البلنسي، وهو مدفون عنده ضريحه بقرافة مصر الصغرى، نفع الله ببركتهما.

 

أما قلقشندة فهي قرية صغيرة شمالي القاهرة أنجبت علماء أفاضل وأئمة أعلام، أولهم الليث بن سعد ولعل آخرهم الإمام المحدِّث قاضي القضاة برهان الدين القلقشندي، إبراهيم بن علي المولود سنة 831 والمتوفى سنة 922، ومن قلقشندة علماء نزلوا بيت المقدس واستوطنوه، أشهرهم تقي الدين أبو بكر بن محمد القلقشندي المولود بالقدس سنة 783 والمتوفى سنة 867.

 

قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: قرقَشندَةُ: قرية بأسفل مصر وُلد بها الليث بن سعد. وقال القلقشندي عنها في صبح الأعشى في معرض حديثه عن قليوب: ومن بلادها بلدتنا قلقشندة، وهي بلدة حسنة المظهر، غزيرة الفواكه... وهكذا هي مكتوبة في دواوين الديار المصرية، وأبدل ياقوتٌ في معجم البلدان اللام راءً، وهو الجاري على ألسنة العامة. وقد غلبت العامة على اسمها فهي اليوم قرقشندة من قرى محافظة القليوبية تبعد حوالي 40 كيلا شمالي القاهرة..

 

والفزاري نسبة إلى فزارة قبيلة من العرب المستعربة، ومن فزارة بنو مازن وبنو بدر، قال القلقشندي في كتابه صبح الأعشى: وبنو بدر هم قبيلتنا التي إليها نعتزى وفيها ننتسب، وأهل بلدتنا قلقشندة نصفهم من بني بدر ونصفهم من بني مازن.

 

وتذكر المصادر أن القلقشندي درس الفقه، وسمع الحديث على الشيخ المسند المعمَّر زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن مبارك بن حماد الغزي، المعروف بابن الشيخة الشافعي، والمولود سنة 715 والمتوفى سنة 799، والذي أخذ الفقه على مذهب الشافعي عن تقي الدين السبكي، وكان محدثاً واسع الرواية، حدث بصحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود، وموطأ مالك، وغيرها، وجلس للإسماع عدة سنين، وكانت إليه الرحلة في زمانه، وكان رحمه الله  شيخاً مباركاً.

 

ويورد القلقشندي في صبح الأعشى في معرض الحديث عن الإجازات العلمية بالفتيا والتدريس والرواية ما يفيد أنه كان يدْرُس في الإسكندرية في سنة 778، ونال بها إجازة وهو في الحادية والعشرين، وأوردُ بعضاً مما أورده رحمه الله:

 

أما الإجازة بالفتيا، فقد جرت العادة أنه إذا تأهل بعض أهل العلم للفتيا والتدريس أن يأذن له شيخه في أن يفتي ويدرس، ويكتب له بذلك، وجرت العادة أن يكون ما يكتب في الغالب في قطع عريض، إما في فرخة الشام أو نحوها من البلدي، وتكون الكتابة بقلم الرقاع أسطراً متوالية، بين كل سطرين نحو إصبع عريض.

 

وهذه نسخة إجازة بالفتيا والتدريس على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، كُتبت لي حين أجازني شيخنا العلامة سراج الدين أبو حفص عمر بن أبي الحسن الشهير بابن الملقن سقى الله تعالى عهده، عند قدومه ثغر الإسكندرية، وأنا مقيم به في شهور سنة 878، وكتب لي بذلك القاضي تاج الدين بن غنوم موقع الحكم العزيز بالإسكندرية في درج ورق شامي في قطع الشامي الكامل، وسني يومئذ إحدى وعشرون سنة، فضلاً من الله ونعمة.

 

ثم أورد القلقشتدي الإجازة ومما جاء فيها:

 

ولما كان فلان، أدام الله تعالى تسديده وتوفيقه، ويسَّر إلى الخيرات طريقه، ممن شب ونشأ في طلب العلم والفضيلة، وتخلق بالأخلاق المرضية الجميلة الجليلة، وصحب السادة من المشايخ والفقهاء، والقادة من الأكابر والفضلاء، واشتغل عليهم بالعلم الشريف اشتغالاً يُرضي، وإلى نيل السعادة - إن شاء الله تعالى – يُفضي، استخار الله تعالى سيدُنا وشيخنا وبركتنا العبد الفقير إلى الله تعالى ... وأذن وأجاز لفلان المسمى فيه، أدام الله تعالى معاليه، أن يدرِّس مذهب الإمام المجتهد المطلق العالم الرباني، أبي عبد الله محمد بن إدريس المطلبي الشافعي...  وأن يُقرِأ ما شاء من الكتب المصنفة فيه، وأن يفيد ذلك لطالبيه، حيث حل وأقام، كيف ما شاء متى شاء وأين شاء، وأن يُفتي من قصد استفتاءه خطاً ولفظاً، على مقتضى مذهبه الشريف المشار إليه؛ لعلمه بدياناته وأمانته، ومعرفته ودرايته، وأهليته لذلك وكفايته... ولا يستنكف أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم. فذاك قول سَعُدُ قائله، وقد جاء: جُنَّة العالِم؛ لا أدري،  فإن أخطأها أصيبت مقاتله.

 

ثم قال القلقشندي: وكتب شيخنا الشيخ سراج الدين تحت ذلك بعد حمد الله تعالى ما صورته: ما نُسب إليَّ في هذه الإجازة المباركة من الإذن لفلان ... صحيح؛ فإنه ممن فاق أقران عصره بذكائه، وبرع عليهم بالاستحضار وتحرير المنقول ووفائه، وقد اعتنى، وفقه الله تعالى وإياي، من جملة محفوظاته بمختصر الجوامع لشيخنا العلامة كمال الدين النشائي، تغمده الله تعالى بغفرانه، فاستحضر بحضرتي مواضع منه جمة، وأزال ببديع فصاحته جملة مدلهمة، وأظهر من مشكلاته ما يعجز عنه اللبيب، ومن أغاريبه ما يقف عنده البارع الأريب، فليتق الله حينئذ فيما يبديه، وليتحر الصواب في لفظه وخطه وليراقب الله فيه؛ فإنه مُوقِّع عن الله تعالى، فليحذر الزلل، ومحاولة الخطأ والخطل... وأجزت له مع ذلك أن يروي عني ما ليَّ من التآليف... ومنها البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، للإمام أبي القاسم الرافعي، وبه تكمل معرفة الفقيه ويصير محدثاً فقيهاً، وأجزت له مع ذلك ما جاز لي وعني روايته بشرطه عند أهله، زاده الله وإيانا من فضله؛ ومنها الكتب الستة...  والمسانيد... وغير ذلك.

 

وعقب القلقشندي بعد ذلك تعقيباً يدلنا على سمو نفسه وكامل تواضعه، حين أشار إلى أنه حذف ما أضفى المشايخ عليه من ألقاب في هذه الإجازة، فقال رحمه الله: وتكون ألقاب الـمـُجاز على قدر رتبته، مثل أن يُكتب له: الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الإمام، العالم العامل، الأوحد الفاضل، المفيد البارع، علم المفيدين، رحلة القاصدين، فلان الدين؛ أبو فلان فلان بن فلان، بحسب رتب آبائه. وإنما أهملتُ ذكر الألقاب في هذه الإجازة، من حيث أنه لا يليق بأحد أن يذكر ألقاب نفسه في مصنف له، لأنه يصير كأنه أثنى على نفسه.

 

وتذكر المصادر الأخرى أن القلقشندي كان بارعاً في الفقه يحفظ فيما يحفظه كتاب الحاوي وكتاب جامع المختصرات الذي ذكره الشيخ في الإجازة، والذي كان قد ألفه في فروع الفقه الشافعي الشيخ كمال الدين أحمد بن عمر النشائي المدلجي المصري، المتوفى سنة 757، وتذكر المصادر أن القلقشندي شرع في نظمه، ثم كتب شرحاً له، ولا نجد ذكراً لمن درس عليه إلا لاثنين، درس أولهما عليه الفقه والأصول، وهو شمس الدين محمد بن أحمد بن عمر بن كُميل، المولود في دمياط سنة 775 والمتوفى سنة 848، وهو فقيه اشتُهر بالشعر، والثاني هو خليل بن محمد العطار المقري المولود سنة 805 والمتوفى بعد سنة 860، وتذكر المصادر أن القلقشندي كان في سنة 819  ممن قرظوا سيرة الملك المؤيد شيخ التي ألَّفها ابن ناهض الحلبي، شمس الدين محمد بن ناهض الجهني الكردي الحلبي، المولود  سنة 757 والمتوفى سنة 841.

 

أما عمله فيذكر هو في ثنايا صبح الأعشى أنه التحق بالعمل في ديوان الإنشاء في سنة 791 وكان رئيسه آنذاك: المقر البدري؛ بدر الدين محمد ابن علاء الدين عليّ ابن محيي الدين يحيى بن فضل الله العُمري، المولود سنة 705 والمتوفى بدمشق سنة 796، والذي تصفه المراجع إنه كان إماماً رئيساً فاضلاً في الإنشاء والأدب وله مشاركة جيدة في الفقه وغيره، وكان محمود السيرة مشكور الطريقة، عمل في كتابة سر مصر نحو 27 سنة، وهو سليل أسرة بني فضل الله العريقة في كتابة السر، وآخر من ولي منهم كتابة سر مصر.

 

وبعد عمله في ديوان الإنشاء عمل القلقشندي في القضاء وكان لسنين طويلة أحد نواب القاضي في القاهرة، وأحد موقعي الدست، الذي عرّفه هو في صبح الأعشى: بأنه صاحب كُتب المظالم. وللأسف فإن المصادر المتوفرة لا تفيدنا بأكثر من هذا، وأما صفاته الشخصية فيذكرون أنه كان صاحب فضل في ذاته مفضالا على غيره، وقوراً في الدول مع تواضع ومروءة وخير.

 

كان للقلشقندي ولد هو نجم الدين  أبو الفضل  محمد الذي ولد في سنة 797 بالقاهرة، ونشأ بها، فحفظ القرآن ودرس النحو والفقه والحديث، وكان يقرض الشعر، وعمل في الأوقاف ونائباً في القضاء عن والده وغيره من القضاة، وتوفي سنة 876 غريقاً في النيل، و يقول إنه كان يعرف بابن أبي غدة!

 

قد أورد القلقشندي في صبح الأعشى إجازة علمية كتبها في سنة 813 الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم، وذيل عليها الشيخ عز الدين ابن جماعة، أجازا بها ابنه محمد حين عرض عليهما المنهاج في الفقه للنووي، وأوردَ كذلك وثيقة قضائية صدرت في نفس السنة تضمنت إثبات عدالة ابنه محمد أنشأها القلقشندي، أورد بعض ما ذكره عنها هنا:

 

قد جرت العادة أن أبناء العلماء والرؤساء تثبت عدالتهم على الحكام، ويسجل لهم بذلك، ويحكم الحاكم بعدالة من تثبت عدالته لديه، ويشهد عليه بذلك، ويكتب له بذلك في درجٍ عريضٍ، أما في قطع فرخة الشامي الكاملة، وأما في نحو ذلك من الورق البلدي، وتكون كتابته بقلم وأسطره متوالية، وبين كل سطرين تقدير عرض أصبع أو نحو ذلك.

 

قلت: وهذه نسخة سجل أنشأته، كُتب بها لولدي نجم الدين أبي الفتح محمد عند ثبوت عدالته، على الشيخ العلامة ولي الدين أحمد ابن الشيخ الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي، خليفة الحكم العزيز بمصر والقاهرة المحروستين، في سنة 813.

 

ثم أورد القلقشندي الوثيقة، ومما جاء فيها مما يتعلق بإثبات العدالة: ... ثبت عنده وصح لديه ... على الوضع المعتبر الشرعي، والقانون المحرر المرعي، بالبينة العادلة المرضية، التي تثبت بمثلها الحقوق الشرعية: عدالةُ القاضي الأجلّ، العدل، الرضي، نجم الدين محمد المسمى أعلاه: زاده الله تعالى توفيقا، وسهل له إلى الخير طريقاً، وما اشتمل عليه من صفاتها، وتحلى به من أدواتها، ثبوتاً صحيحاً معتبراً، مستوفى الشرائط محرراً، وأنه، أيّد الله تعالى أحكامه، وسدد نقضه وإبرامه، حَكَمَ بعدالته، وقبول شهادته، حكماً تاماً وجزمه، وقضى فيه قضاءً أبرمه، وأذن له، أيّد الله تعالى أحكامه، في تحمل الشهادة وأدائها، وبسطِ قلمِه في سائر أنديتها وأرجائها، وأجراه، أجرى الله تعالى الخيرات على يديه، مجرى أمثاله من العدول، ونَظَمه في سلك الشهداء أهل القبول، ونصبه بين الناس شاهداً عدلا إذ كان صالحاً لذلك وأهلا.

 

ترك لنا القلقشندي مجموعة من الكتب الهامة التي بقيت مرجعاً إلى يومنا هذا، ومنها: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، وكتاب نهاية الأرب في معرفة أنساب قبائل العرب، وكتاب قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، وكتاب حلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم، وكتاب الغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات ومختصر الجوامع.

 

وكتابه نهاية الأرب في معرفة أنساب قبائل العرب كتاب هام في معرفة القبائل العربية وانتشارها في البلدان بعد الفتح الإسلامي، وهو مرجع أساس في معرفة من توطن منها في مصر ومساكنهم وتفرعهم، مع فوائد كثيرة حول الأنساب والأسماء والألقاب، وكأنه استدرك ما فاته في كتاب قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان.

 

أما كتابه صبح الأعشى، فهو آخر مؤلفاته، أنجزه في 28 شوال سنة 814، وهو عمل موسوعي سبق به الموسوعات بعدة قرون، وقد أراد القلقشندي بكتابه أن يقدم للعاملين في الديوان السلطاني مرجعاً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة فيما يحتاجونه لأداء عملهم في إدارة الدولة ومراسلاتها، وأشار القلقشندي في خطبة الكتاب أنه قد بناه على كتابين سابقين، أولهما التعريف بالمصطلح الشريف لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العدوي، المولود سنة 700 والمتوفى سنة 749، وثانيهما كتاب تثقيف التعريف لابن ناظر الجيش، عبد الرحمن بن محمد بن يوسف، المولود 726 والمتوفى سنة 786، وينقل القلقشندي كذلك عن كتاب مسالك الآثار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري، وعن غير هذه من المراجع عازياً كل ما ينقله إليها في أمانة العالم التقي.

 

وقال في آخر مقدمته: فشرعت في ذلك بعد أن استخرت الله تعالى، وما خَابَ من استَخَار، وراجعت أهل المَشُورة، وما نَدِمَ مَنِ اسْتَشار، مستوعباً من المصطَلح ما أشتمل عليه التعريف والتثقيف، موضحاً لما أبهماه بتبيين الأمثلة مع قُرْبِ المأخَذ وحسن التأليف، ومتبرعاً بأمور زائدة على المصطلح الشريف لا يَسع الكاتب جهلُها، متنقلاً من توجيه المقاصد وتبيين الشواهد بما يُعرَف به فرعُ كل قضية وأصلُها، آتياً من مَعَالم الكتابة بكل معنىً غريب، ناقلا الناظرَ في هذا المصنًف عن رتبة أن يَسألَ فلا يجابَ، إلى رُتبة أن يَسأل فيجيب... ذاكراً من أحوال الممالك المكاتبة عن هذه المملكة ما يُعرف به قدرُ كل مملكة ومَلِكها. مبيناً جهةَ قاعدتها، التي هي محل المُلك شرقاً أو غرباً، أو جنوباً أو شمالاً، معرِّفاً الطريقَ الموصل إليها، برّاً وبحراً، وانقطاعاً واتصالاً، ذاكراً مع كل قاعدة مشاهيرَ بُلْدانها، إكمالاً للتعريف. ضابطاً لأسمائها بالحروف كي لا يدخُلَها التبديل والتحريف.

 

ثم قال في اعتذار وتواضع العلماء: ولْيعذِرِ الواقفُ عليه، فنتائج الأفكار على اختلاف القرائح لا تتناهى، وإنما ينفق كل أحد على قدر سعته؛ لا يُكَلف اللهُ نَفْساً إلا ما آتاها، ورحم اللّه من وقف فيه على سهو أو خطأ فأصلحه عاذراً لا عاذلاً، ومُنيلاً لا نائلاً، فليس المبرَأُ من الخَطَل إلا من وقى الله وعصم، وقد قيل: الكِتاب كالمُكلَّف لا يسلم من المؤاخذة ولا يرتفع عنه القلم. والله تعالى يقرنُه بالتوفيق، ويُرشد فيه إلى أوضح طريق، وما توْفيقي إلا باللهِّ عَلَيْهِ تَوَكَلْتُ وإليه أُنِيبُ.

 

ثم أورد القلقشندي فهرس مواضيع الكتاب، وأورد بعضاً منها لبيان سعة الكتاب: فضل الكتابة، ومدح فضلاء أهلها، وذم حَمْقاهم. ذكر مدلول الكتابة، وبيان معنى الإنشاء، وإِضافة الكتابة إليه، وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة، وترجيح النثر على الشعر. صفات الكُتَّاب وآدابهم. التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في الإسلام وتفرّقه بعد ذلك في الممالك. قوانين ديوان الإنشاء، وترتيب أحواله، وآداب أهله. ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية، وما يلزم رب كل وظيفة منهم، وما كان عليه الأمر في الزمن القديم، وما استقرّ عليه الحال بعد ذلك. بيان مقادير قِطَع الورق وما يناسب كلَّ مقدار منها من الأقلام،  ومقادير البياض الذي يراعيه الكاتب في كتابته. الأرض على سبيل الإجمال.  الخلافة ومَنْ وليها من الخلفاء ومقراتهم في القديم وما انطوت عليه ممالكهم من الأقطار.  الديار المصرية ومضافتها من البلاد الشامية وما يتصل بها. الممالك والبُلْدان المحيطة بمملكة الديار المصرية من الجهات الأربع والطرق الموصلة إليها. الممالك والبُلْدان الشمالية عن مملكة الديار المصرية مما بيد المسلمين من البلاد المعروفة الآن ببلاد الروم وما بيد ملوك النصارى من جزائر بحر الروم كجزيرة قبرس وجزيرة رودس وجزيرة اقْرِيِطش وجزيرة المصطكى، وجزيرة صقلَية وغيرها وما إلى ذلك مما شمالي بحر الروم من مملكة القسطنطينية ومملكة البندقية ومملكة جنوه ومملكة رومية ومملكة فرنسة وغير ذلك. أصول المكاتبات وترتيبها، وبيان لواحقها ولوازمها، ومذاهب الكُتًاب فيما تُفتَتح به المكاتبات في القديم والحديث، وما يُخاطب به أهل الإِسلام وأهل الكفر في المكاتبات ، وبيان كيفية طيّ الكتاب وختمه وحمله وتأديته وفضّه وقراءته وحفظه في الإِضْبارَة. المكاتبات الواردة على الأبواب السلطإنية بالديار المِصرية من ملوك الممالك المتقدمة الذكر وحُكَّامها من أهل الإِسلام والكُفر ممن ترِدُ مكاتباته على هذه المملكة. تحويل السنين، وما يكتب في التوفيق بين السنين القمرية والشمسية، وما يكتب في التذاكر. مراكز البريد بالديار المصرية والبلاد الشاميَّة على آختلاف طُرُقها. مَطَارات حمام الرسائل، وذكر أبراجها المقررة بالديار المصرية والبلاد الشامية، واعتناء الملوك بشأنه في القديم والحديث ومسافات طَيرَانه.

 

وكما سبق تضمن الكتاب تعليمات حول طريقة مخاطبة الملوك والأمراء والعلماء والكبراء وألقابهم الرسمية والتشريفية، وبضع عشرات من المكاتبات الملكية والمعاهدات الدولية في أيامه وقبلها، مع ذكر حدود ممالك تلك البلدان وشيء من تاريخها وعلاقتها مع المسلمين والدولة المصرية بخاصة، وبفضله عرفنا عن علاقات مصر الدولية الواسعة الشاملة في تلك الحقبة، والتي امتدت من البندقية في أوروبا إلى سلطان البرنو في السودان الغربي، وتضمن الكتاب مراسيم التعيين في وظائف الدولة ونبذة عن هذه الوظائف، وفي استعراضه للبلدان يتحدث عن قبائلها ومن سكنها، والطرق السالكة إليها ومراحلها، ومحاصيلها الزراعية وكيف تسقى، وما فيها من صناعات ومعايش، والأسعار والحسبة، ويتحدث كذلك عن الحيوان ويصف أنواعه وأسماءه، ويذكر رأيه واستقصاءه عما يورده.

 

ويبدو مما يورده القلقشندي في صبح الأعشى أنه وصل مرتبة عالية في ديوان الإنشاء حيث كتب عدداً من الوثائق والمبايعات السلطانية، ويلفت نظرنا أنه لم يغدق الثناء على ملوك عصره مثل الملك الناصر فرج بن برقوق والملك المؤيد شيخ الذي أنجز كتابه في عهده، وقد أورد القلقشندي في  كتابه أشعاراً من نظمه متوسطة، من أحسنها ما ذكر أنه كتبه لقاضي القضاة جمال الدين محمود القيسراني، وهو يومئذٍ قاضي قضاة الحنفية وناظر الجيوش، يذكر بطالةً عرضت له من وظيفة مباشرة كانت بيده:

 

إلى اللّه أشكو من زماني بواره ... فأمسيت في الحرمان بي يضرب المثل

 

تماديت بطّالاً وأعوزت حيلةً ... ولم يبرح البطّال تعرف له الحيل

 

فلا ملتجى جاهٍ ولا عزّ صاحبٍ ... ولا مالكٌ يحنو فيا قوم ما العمل؟

 

ولكنّ محمود العواقب أرتجي ... ومن يحمد العقبى على القصد قد حصل

 

ومما استلطفت إيراده من صبح الأعشى رسالة أرسلها دوق مدينة البندقية ميخائيل ستينو في سنة 814 إلى السلطان المملوكي، تدل على العلاقات التجارية الوثيقة بينها وبين مصر، قال القلقشندي:

 

وهذه نسخة كتاب وارد من دوج البنادقة ميكائيل، على يد قاصده نقولا البندقي في السادس عشر صفر المبارك سنة أربع عشرة وثمانمائة، ترجمه شمس الدين سنقر، وسيف الدين سودون، التراجمة بالأبواب الشريفة، في فرخة ورق فرنجي مربعة متقاربة السطور. وهو:

 

السلطان المعظم، ملك الملوك فرج الله ناصر الملة الإسلامية، خلد الله سلطانه.

 

يقبل الأرض بين يديه نقولا دوج البنادقة، ويسأل الله أن يزيد عظمته، لأنه ناصر الحق ومؤيده، وموئل الممالك الإسلامية كلها، وينهي ما عنده من الشوق والمحبة لمولانا السلطان، وأنه لم يزل أكابر التجار والمحتشمين والمترددين من الفرنج إلى الممالك الإسلامية شاكرين من عدل مولانا السلطان وعلو مجده، وتزايد الدعاء ببقاء دولته، وقد رغب التجار بالترداد إلى مملكته الشريفة بواسطة ذلك، ولأجل الصلح المتصل الآن بيننا بالمحبة.

 

وأما غير ذلك، فإنه بلغنا ما اتفق في العام الماضي من ... أن مولانا السلطان مسك قنصل البنادقة والمحتشمين من التجار بثغر الإسكندرية المحروس، وزنجرهم بالحديد، وأحضرهم إلى القاهرة، وحصلت لهم البهدلة بين جنوسهم والضرر والقهر الزائد، وكسر حرمتنا بين أهل طائفتنا، فإن الذي فُعِل مع المذكورين إنما فُعِل معنا، وتعجبنا من ذلك، لأن طائفتنا لم يكن لهم ذنب، وهذا مع كثرة عدل مولانا السلطان في مملكته، ومحبتنا له، ومناداتنا في جميع مملكتنا بكثرة عدله، وبمحبته لطائفتنا، وإقباله عليهم، وقولنا لجميع نوابنا: إنهم يكرمون من يجدونه من مملكة مولانا السلطان، ويراعونه ويحسنون إليه، والمسؤول من إحسانه الوصية بالقنصل والتجار وغيرهم من البنادقة، ومراعاتهم وإكرامهم والإقبال عليهم، والنظر في أمورهم إذا حصل ما تشبه هذا الأمر، ومنع من يشاكلهم لتحصل بذلك الطمأنينة للتجار، ويترددوا إلى مملكته.

 

ويختم القلقشندي كتابه صبح الأعشي فيقول: وبتمام القول في هذا الطرف قد تم ما كنت أحاوله من التأليف، وأهتم به من الجمع؛ وبالله التوفيق، وإليه الرغبة؛ وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

واعلم أن المصنفات تتفاوت في الحظوظ إقبالاً وإدباراً: فمن مرغوب فيه، ومرغوب عنه، ومتوسط بين ذلك، على أنه قل أن ينفق تأليف في حياة مؤلفه، أو يروج تصنيف على القرب من زمان مصنفه... لكني أحمد الله تعالى على رواج سوق تأليفي، ونفاق سلعته، والمسارعة إلى استكتابه قبل انقضاء تأليفه، حتى إن قلمي التأليف والنسخ يتسابقان في ميدان الطرس إلى اكتتابه، ومرتقب نجازه للاستنساخ يساهمهما في ارتقابه، فضلاً من الله ونعمة، ?ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم?.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين