حدث في السادس عشر من صفر موت علي بك الكبير

في السادس عشر من صفر من سنة 1187=8/5/1773 توفي في القاهرة، عن 47 عاماً، الأمير علي بك الكبير، حاكم مصر، وجاءت وفاته على إثر جراحات أصابته في معركة مع محمد بك أبو الذهب الذي شق عصا الطاعة عليه قبل سنتين. وتعود أصول على بك الكبير إلى أبخازيا في جورجيا اليوم، وكانت تسمى أباظيا، وإليها ينسب الأباظية.
وكانت الدولة العثمانية منذ استيلائها على مصر سنة 923 قد أبقت على أمراء المماليك وأشركتهم في حكم البلاد، لتحفظ التوازن بين الوالي ورجال الحامية العثمانية، وحتى لا يفكر أحد في الاستقلال بحكم البلاد والخروج على العثمانيين في يوم من الأيام، يقول على باشا مبارك في كتابه الخطط التوفيقية: لما أخذ السلطان سليم مصر، ورأى غالب حكامها من المماليك الذين ورثوها عن سادتهم، رأى أن بُعد الولاية عن مركز الدولة ربما أوجب خروج حاكمها عن مركز الدولة والطاعة وتطلعه للاستقلال، فجعل حكومة مصر منقسمة إلى ثلاث أقسام، كل قسم منها يشرف على القسمين الآخرين .
وبقيت هذه السياسة نافذة وناجحة طوال مدة قرنين كانت فيهما الدولة العثمانية متماسكة قوية، فلما ظهر ضعفها العسكري وانتشر الفساد والاضطراب داخل البلاد، اضطرب هذا النظام وأخذت قوة المماليك تزداد شيئاً فشيئاً حتى أصبح الوالي رمزاً لا حول له ولا قوة، والمماليك هم السلطة الفعلية في البلاد، ورئيسهم الذي يدعى شيخ البلد هو حاكم مصر الفعلي.
وتكاثرت أعداد المماليك تكاثراً مزرياً، والسبب في ذلك أن المماليك أنفسهم كانوا يشترون الرقيق من جورجيا والقوقاز وبلاد الجركس، وكانوا يأتون بهم إلى مصر، ويدربونهم في سن مبكرة على أعمال الحرب والفروسية، ويعلمونهم الكتابة والقراءة ويحفظونهم القرآن، حتى إذا بلغوا الثامنة عشرة، رقوهم إلى رتبة البكوية وجردوهم ومنحوهم مالاً وأرضاً وجواري، وهؤلاء يتزوجون بدورهم، ويملؤون بيوتهم بالرقيق كما فعل أسيادهم من قبل، وقدر أحد الرحالة الأوربيين عددهم في مصر في القرن الثامن عشر الميلادي بنحو 8500 مملوَك، ينفق الواحد منهم على سلاحه وملبسه وزوجاته وسراريه نحو 2500 جنيه ذهبي في العام، أي أن تكلفتهم على الاقتصاد المصري بلغت أكثر من 21 مليون جنيه ذهبي! قال علي باشا مبارك: وأخذت البكوات تكثر من المماليك وتتقوى بها حتى فاقت بقوتها الدولة العثمانية في الديار المصرية، وآل الأمر والنهي لهم في الحكومة، وصارت سلطة الدولة العثمانية غير حقيقية، ولو كانت الدولة العثمانية تنبهت لهذا الأمر، ومنعت بيع الرقيق لكانت الأمور باقية على ما وضعها السلطان.
كان علي بك الكبير يعرف أولا بعلي بلوط قبَّان، ولمع نجمه عندما صار مملوكاً لإبراهيم كتخُدا، وكتخدا كلمة تركية تعني وكيل الوالي، وكان أكبر أمير في مصر في زمانه، وهو الذي عين علي بك الكبير، أميراً على الحج في سنة 1167، ولما توفي أستاذه إبراهيم كتخدا سنة 1168، خلفه في منصبه حسين بك القازدغلي المعروف بالصابونجي، وبقي علي بك تابعاً له إلى أن قتل بعض الأمراء الصابونجي سنة 1171، وكان على بلوط قبان قد نفاه أستاذه الصابونجي إلى النوسات قرب المنصورة، فلما قُتل أستاذه عاد إلى القاهرة، وانضوى تحت رعاية الأمير عبد الرحمن كتخدا كبير الأمراء المماليك، وصاحب الآثار العمرانية الكثيرة في القاهرة، وفي سنة 1173 جرت مؤامرة على عبد الرحمن كتخدا تضمنت اغتياله، ووقف فيها علي بلوط قبان إلى جانبه ونفى المتآمرين وقضى على رأسهم الذي كان يدعى أيضاً علي بك الكبير.
وبرزت أهمية علي بك الكبير في سنة 1174 عندما زوَّج أحد مماليكه المدعو اسماعيل بك في بركة الفيل بالقاهرة، فكان فرحاً استمر شهراً كاملاً، ليلاً نهاراً، وأقام الأمراء في كل بيت منهم الولائم والسماعات، ووردت على علي بك الهدايا والصلات من الأمراء والأعيان والتجار والأقباط والأفرنج والأروام واليهود، وجاء مشايخ البلدان وأكابر العربان بالهدايا والأغنام والجواميس والسمن والعسل، وبعد تمام الشهر زفت العروس في موكب عظيم شقوا به من وسط المدينة بأنواع الملاعيب والبهلوانات والطبول، والعروس في عربة ومن خلفها أولاد الأمراء ملبسين بالزرد والخوذ واللثامات مقلدين بالقسي والنشاب وبأيديهم الرماح الطوال، وخلف الجميع النوبة التركية والنفيرات.
وفي سنة 1174 جرى تعيين علي بك الكبير شيخاً للبلد، وكان لعبد الرحمن كتخدا اليد الطولى في ذلك، ذلك إن علي بك أظهر له المحبة، فركن إليه كتخدا وعضده وساعده ونوَّه بشأنه ليقوى به على نظرائه، ووقعت في سنة 1174 حادثة مع أحد تابعي عبد الرحمن كتخدا رأى فيها عبد الرحمن انتقاصاً من قدره، فجمع الأمراء والأعيان وقال لهم: أيها الأمراء من أنا؟ فأجابه الجميع بقولهم: أستاذنا وابن أستاذنا وصاحب ولائنا. قال: إذا أمرت فيكم بأمر تنفذوه وتطيعوه؟ قالوا: نعم. قال: علي بك هذا يكون أميرنا وشيخ بلدنا، ومن بعد هذا اليوم يكون الديوان بداره، وأنا أول من أطاعه وآخر من عصى عليه. فلم يسعهم إلا قبول ذلك بالسمع والطاعة.
ولم يكن اختيار علي بك الكبير في غير موضعه، فقد كان يتمتع بصفات القيادة، قوي المراس شديد الشكيمة عظيم الهمة، لا يميل لسوى الجد، ولا يحب اللهو ولا المزاح ولا الهزل، ويحب معالي الأمور من صغره، ولا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى والرياسة الكبرى، وكان يقول: أنا لا أتقلد الإمارة إلا بسيفي لا بمعونة أحد.
وفي سنة 1177 خرج علي بك الكبير أميراً للحج، ورجع في أوائل سنة 1178 في أبهة عظيمة تليق بالملوك، ولما عاد عيَّن خازنداره محمد أبا الذهب في منصب الصنجقية، فنقله من منصب إداري إلى منصب عسكري، تمهيداً لما ينويه من حركات، وفي منتصف سنة 1178 أصدر أوامره بنفي عدد من كبار الأمراء ليثبت ملكه ويحكم دون أدنى معارضة أو تهديد، وعلى رأس هؤلاء الأمير الذي كان سبب تعيينه في هذا المنصب: عبد الرحمن كتخدا، وسيبقى منفياً إلى سنة 1190 حين رقَّ عليه أمير الحاج وأحضره إلى القاهرة وقد استولى عليه العي والهرم وكرب الغربة، فبقي 11 يوماً ثم توفاه الله. وكان يتمتع بمَلَكة طبيعية في هندسة الأبنية وحسن وضع العمائر يقتدر بها على ما يرومه من البناء من غير مباشرة ولا مشاهدة، وأنشأ بالجامع الأزهر وغيره عمارات تقصر عنها همم الملوك.
وعهد علي بك الكبير بمهمة النفي إلى الأمير صالح بك القاسمي، ثم أرسل رسولاً إلى صالح بك يأمره بالخروج إلى المنفى هو أيضاً! فخرج صالح بك إلى رشيد وقلبه مليء بالضغينة، ثم انتهز قدوم وال جديد على مصر فخرج إلى المنية وتحالف فيها مع شيخ العرب همام وأكابر قبائل الهوارة، واجتمع حوله عدد من الأنصار، فأرسل علي بك الكبير تجريدة للقضاء عليه بقيادة حسين بك كشكش، فدحرت صالح بك وإن لم تقض عليه، وفي هذه الأثناء أرسل علي بك أمره بنفي حسين بك، فرفض ذلك، وعاد إلى القاهرة رغماً عن علي بك، وحرض الأمراء على علي بك، فاجتمعوا على ذلك وخذلوا علي بك، وأصدروا حكمهم بنفيه إلى الشام في رمضان سنة 1179، فخرج إليها ومعه عدد من كبار أمرائه ومماليكه.
وما لبث علي بك أن عاد فجأة إلى القاهرة بعد بضعة أشهر، فقرر الأمراء نفيه إلى النوسات قرب المنصورة ثم ما لبثوا بعدها أن قرروا نفيه إلى جدة إمعاناً في الاحتياط منه، وفي هذه الأثناء جرت محاولة فاشلة يوم عيد الفطر لسنة 1180 لاغتيال كبار الأمراء، تعددت حول مصدرها الآراء، وطالت أصابع الاتهام علي بك، فأرسلوا إليه أميراً إلى النوسات ليستطلع الأمر فوجده على أهبة السفر ينتظر اعتدال الريح ليسافر جنوباً في النيل، فأمره بالذهاب معه براً حتى أوصله إلى أسيوط ليتابع منها سفره إلى جدة.
ولكن علي بك بقي في الصعيد والتف حوله عدد من الأمراء المنفيين وقبائل هوارة وشيخ العرب همام، وكان صالح بك قد بقي على تمرده، فأرسل له محمد أبو الذهب وتفاهما على أن يؤيد علي بك مقابل أن يبقيه أميراً على الصعيد طيلة حياته، واستطاعا معاً أن يهزما القوات التي أرسلها أمراء القاهرة، ثم دخلا القاهرة دون مقاومة تذكر في أوائل سنة 1181.
وثبتت قدم علي بك الكبير في حكم مصر، ولكن ليس قبل أن يخمد تمرداً خطيراً قام به الأمير حسين كشكش، الذي هزم قوات علي بك مرتين، وكانت الطريق أمامه مفتوحة للقاهرة لو أنه استغل الهزيمة، ولكنه اضطر أن يستسلم لمحمد أبو الذهب في الثالثة عند طنطا لنفاد الذخيرة، فكان أن لاقى مصرعه هو وغيره من زعماء التمرد، ودخلت رؤوسهم القاهرة على صوان من الفضة!
ولما استتب الأمر لعلي بك الكبير التفت إلى من بقي من خصومه ومنافسيه فقتل بعضهم أو نفاهم حتى يخلو له الجو ويبسط سيطرته على البلاد، ولم يستثن من ذلك حلفاءه ومساعديه، فقتل في سنة 1182 حليفه صالح بك القاسمي غيلة، وكان له عزوة قوية بين الأمراء، فتخلص منه، ومن جبروت علي بك الكبير أنه أمر أميراً اسمه أحمد بك بشناق، كان على أوثق صلة بصالح بك، أن يكون أول من يقتله، فلم يفعل، وخشي عاقبة ذلك فهرب إلى استانبول، ليكون فيما بعد والياً على عكا ويعرف بأحمد باشا الجزار.
وكان على بك يصادر ويستصفي ما لدى المنفيين من أموال وذهب وفضة، ويبيع متاعهم ونفائسهم في المزاد، ثم يخرجهم ويأخذ بلادهم وإقطاعهم فيفرقها على مماليكه وأتباعه الذين يؤمرهم في مكانهم، وطالت المصادرات والتعذيب في استخلاص الأموال التجار والأثرياء، وبلغ في ذلك حداً جعل الجبرتي يقول في تاريخه: وهو الذي ابتدع المصادرات وسلب الأموال من بدء ظهوره، واقتدى به من بعده.
وكانت غوائل علي بك الكبير تطال البريء والمشبوه، وممن طاله النفي الأمير رضوان جربجي الرزاز، الذي كان من الأمراء الخيرين الدينين، المعروفين بالصدق والأمانة، وله مكارم أخلاق وبر ومعروف، ولما نفي علي بك عبد الرحمن كتخدا نفى الأمير رضوان أيضاً وأخرجه من مصر، ثم أن علي بك ذهب يوماً عند سليمان آغا كتخدا الجاويشية فعاتبه سليمان على نفي رضوان جربجي، فقال له علي بك: تعاتبني على نفي رضوان جربجي ولا تعاتبني على نفي ابنك عبد الرحمن كتخدا؟! فقال: ابني المذكور منافق يسعى في إثارة الفتن ويلقي بين الناس فهو يستاهل، وأما هذا فهو إنسان طيب وما علمنا عليه ما يشينه في دينه ولا دنياه، فقال: نرده لأجل خاطرك وخاطره. فسمح له بالعودة إلى مصر معززاً مكرماً حتى توفي سنة 1181.
وفي منتصف سنة 1182 أراد محمد باشا والي مصر العثماني أن يقوم بحركة ضد علي بك، فوشي به كتخداه عبد الله بك، فأرسل قوة حاصرت مقره ووضعه تحت الحجر، وتقلد علي بك ولاية مصر عوضاً عن الباشا، وتسمى قائمقام، فأصبح يمثل السلطة الاسمية والفعلية في البلاد.
وكان والي دمشق عثمان بك العظم قد آوى إليه بعض أمراء المصريين المطرودين، كما صدرت منه تصرفات مع أهل غزة ألجأتهم إلى أن يستنجدوا بعلي بك الكبير، فأرسل علي بك بعثة من الأمراء والعلماء إلى السلطان في استانبول محفوفة بالهدايا الثمينة والخيول المصرية الجياد للسلطان ورجال الدولة، وأشفعها بكتابات من العلماء من أمثال والد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، ومضمون الرسالة الشكوى من عثمان بك بن العظم والي الشام وطلب عزله عنها، بسبب إيوائه بعض المصريين المطرودين ومعاونته لهم، وفي الواقع فإن طموح علي بك كان يشمل حكم الشام أيضاً، وكان رئيس جبل الدروز قد شجعه على مثل هذه الخطوة، وأراد علي بك أن يختبر موقف الدولة العثمانية من مثل هذا التحرك وفقاً لرد السلطان على طلبه.
وفي سنة 1183 استولت على أسيوط وأعلنت العصيان مجموعة من أواسط الأمراء ممن يلوذون بالأمراء الكبار الذين تم استئصالهم، وأيدتهم قبائل هوارة تأييداً مستوراً، فأرسل إليهم علي بك الكبير جيشاً بقيادة محمد بك أبو الذهب، فهزمهم وقتل رؤساءهم، وخضد شوكة همام شيخ العرب وزعيم هوارة، فمات كمداً، و بذلك صفا حكم مصر تماماً لعلي بك الكبير من الإسكندرية إلى أسوان.
وفي أثناء هذه الأحداث جاء إلى القاهرة الشريف عبد الله بن حسين بن يحيي بن بركات من أشراف مكة، بخطاب من السلطان العثماني إلى علي بك الكبير لمساعدته والقيام معه في نزاع على إمارة مكة وقع بينه وبين ابن عمه الشريف أحمد بن سعيد ابن محسن إثر وفاة أخيه الشريف مساعد بن سعيد ابن محسن، حيث تغلب عليه الشريف أحمد واستقل بالإمارة، فخرج الشريف عبد الله هارباً وذهب إلى استانبول مستنجداً، ووافق ذلك هوى في نفس علي بك الكبير، فقد كان الحَرَمان من قبل آل عثمان يتبعان لدولة المماليك في مصر، فأنزل الشريف عبد الله في ضيافته وأكرمه، حتى استتب له الأمر في كافة مصر، فالتفت عند ذلك إلى مقاصده البعيدة، وأمر بتجهيز الذخائر والخيام وأنواع الطعام ما يكفي لحملة هائلة العدد، وبدأ في تجنيد جيش برئاسة محمد بك أبو الذهب، يتكون من كل من استطاع استكتابه في العسكر، فضم الجيش أتراكاً ومغاربة وشواماً وشيعة من جبل لبنان ودروزاً وحضارمة ويمانية وسوداناً وحبوشاً، وصحبتهم المدافع وآلات الحرب، واصطدمت التجريدة في ينبع مع جيش الشريف أحمد وقبائل العربان، فهزمتهم ونصبت الشريف عبد الله بن حسين البركاتي أميراً على مكة، وعاد محمد بك أبو الذهب إلى مصر وسط استقبال حافل وإكرام كبير.
وكان شيخ عربان غزة صاحب سطوة وفجور بتعرض للقبائل ويعيق التجارة، فأرسل علي بك الكبير أحد أمرائه الدهاة العتاة وأمره أن يقتل شيخ عربان غزة، فتحيل عليه حتى قتله هو وأخوته وأولاده، وأرسل برأسه إلى القاهرة، وشجع هذا الانتصار علي بك الكبير على متابعة سياسته التوسعية باتجاه بلاد الشام، وما أن عاد أبو الذهب من الحجاز حتى بدأ علي بك الكبير في تجهيز حملة كبيرة إلى بلاد الشام، وأرسلها تجريدة وراء تجريدة في البر والبحر، وبدأ في فرض الضرائب المجحفة بحق المصريين وبخاصة الأقباط واليهود لتمويل هذه الحملة.
ثم أردفهم علي بك الكبير في أوائل سنة 1185 بجيش جرار كامل العدة والعتاد، خرج من القاهرة بوداع رسمي تصحبه الطبول والزمور، وأرسل بالسفن من دمياط الإمدادات التي سيحتاجها الجيش، ولما اقتربت قواته من بيت المقدس خرج إليه حاكمها وقضاتها وأعيانها ورحبوا بقدوم الحملة المصرية فدخلتها دون قتال، واستسلمت يافا بعد حصار دام شهرين، ثم انضمت إليه قوات والي عكا ظاهر العمر الشيخ ظاهر، وكانت بينه وبين آل العظم ولاة دمشق إحن وثارات، فاستولوا على دمشق وسائر بلاد الشام إلى حدود حلب، ووردت البشائر فزينت القاهرة زينة عظيمة ثلاثة أيام بلياليها، وأقيمت الاحتفالات بهذا النصر العظيم.
وحقق علي بك الكبير هذه الانتصارات بمساعدة الروس الأعداء الألداء للعثمانيين، وتحسباً لتدخل الأسطول العثماني القوي اتصل علي بك الكبير بقائد الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط ليمده بالذخائر والأسلحة، فساعدته روسيا التي كانت في حرب مع الدولة العثمانية، وقام الأسطول الروسي بقصف الجيش العثماني في صيدا تعضيداً لهجوم أبي الذهب مع ظاهر العمر عليها، ثم قصفت السفن الروسية بيروت وخربت عدداً كبيراً من بيوتها. وإزاء كل هذا أصدر قاضي القضاة ومفتي السلطنة فتوى اعتبرت علي بك الكبير وأنصاره بغاة خارجين على الدولة يجب قتلهم أينما وجدوا.
وتصرف علي بك الكبير تصرفاً عسكرياً سليماً، في استغلال النصر الذي حققه أقصى استغلال، وأراد على الصعيد الحكومي أن يضم البلاد التي استولى عليها إلى مملكته، ويزيل عنها بأسرع ما يمكن صبغة البلاد المحتلة، فأصدر أوامره إلى محمد بك أبو الذهب بأن يعين من أمرائه ولاةً وأمراءً على البلاد والمدن التي صارت تحت سيطرته، وأراد على الصعيد العسكري أن تستمر الحملة منطلقة ما دام خصمه ضعيفاً، فأصدر أوامره لأبي الذهب أن يستمر في حملته ويستولي على الممالك إلى حيث شاء، وهو يتابع إليه إرسال الإمدادات واللوازم والاحتياجات.
ولكن محمد بك أبو الذهب لم ينفذ أوامر الاستمرار في الحملة، واستمال الأمراء الذين معه، وقال لهم: إن أستاذكم يريد أن تقطعوا أعماركم في الغربة والحرب والأسفار والبعد عن الأوطان، وكلما فرغنا من شيء فتح علينا غيره، فرأيي أن نكون على قلب رجل واحد، ونرجع إلى مصر، ولا نذهب إلى جهة من الجهات، وقد فرغنا من خدمتنا، وإن كان يريد غير ذلك يولي أمراء غيرنا ويرسلهم إلى ما يريد، ونحن يكفينا هذا القدر، ونرتاح في بيوتنا وعند عيالنا. فقالوا جميعاً: ونحن على رأيك.
فأعلم محمد بك أبو الذهب أهل الشام برحيله، وأرسل لعلمائها رسالة جاء فيها: كان سبب مجيئنا إلى هذه بلاد الشام مقاتلة عثمان باشا، فلما تحققنا ذهابه رفعنا القتال، وما مرادنا بلدتكم ولا إضراركم وأذيتكم، وهذه بلدة مولانا السلطان الأعظم مصطفى خان، أيد الله خلافته إلى يوم الدين، ولم يقع من عسكرنا أذية لأحد من أهل الشام، فنرجو أن تبتهلوا بالدعاء لحضرة مولانا السلطان ولنا بالتبعية واذكرونا بالخير والجميل والسلام.
ورجع محمد بك أبو الذهب مع قواده وقواته، وسكت علي بك الكبير عنهم وعن مخالفتهم لأوامره مدة شهرين، ثم بدأ في تشتيت مؤيدي أبي الذهب، فعين أحدهم ويدعى أيوب باشا في إمارة الصعيد، ثم بدأ في الضغط على أبي الذهب ليعود إلى الشام، وأبو الذهب مصمم ألا يعود، فأرسل علي بك الكبير مجموعة لاغتياله، واكتشف أبو الذهب المحاولة فهرب واستطاع النجاة، وارتحل إلى الصعيد، فحضر إليه بعض كبار الأمراء وساعدوه بأنفسهم وأموالهم، وانضم إليه أيوب بك حاكم الصعيد، وقدم له بعض المساعدات، وألقى جواسيس أبي الذهب القبض على رسول من علي بك الكبير يأمر أيوب بك بقتل محمد بك أبو الذهب بأي وجه أمكنه، ويعده إمارته وبلاده وغير ذلك، فأكرم أبو الذهب الرسول واستماله، وقال له: تذهب إليه بالكتاب وائتني بجوابه ولك مزيد الإكرام. فذهب ذلك الساعي وأوصل الكتاب إلى أيوب بك وطلب منه الرد، فأعطاه الجواب الذي جاء فيه أنه يترقب أول فرصة لقتل محمد بك أبو الذهب.
وسأل أبو الذهب أيوب بك إن كان قد وصله كتاب من أستاذنا علي بك، فقال: لم يكن أبداً، ولو أتاني منه جواب لأطلعتك عليه، ولا يصح أني أكتمه عنك، أو أرد له جواباً. فأخرج له الجواب من جيبه، وأحضر إليه الرسول، وأمر بقتله.
وكانت هذه مرحلة فاصلة تمايز عندها الفريقان إلى معسكرين متناحرين، وكان أغلب الأمراء يميلون لأبي الذهب، ولكنهم توجسوا من تأييده خشية أن يصالح أستاذه، فيبوؤا بسوء العاقبة، فانضم أغلب الأمراء المتفرقين بالأقاليم إلى محمد بك أبي الذهب، والتحق به جميع المنفيين والمماليك القاسمية وهوارة الذين شردهم علي بك الكبير وسلب نعمتهم، فأنعم عليهم وأكرمهم واعتذر لهم وواساهم وقلدهم المناصب، فتقيدوا بخدمته وبذلوا جهدهم في طاعته.
ووقعت الأخبار وقع الصاعقة على علي بك الكبير، وشرع في إرسال تجريدة عظيمة بقيادة الأمير إسماعيل بك، واهتم بها اهتماماً كثيراً، وأمر بجمع أصناف العساكر واجتهد في إنجازها في أسرع وقت، وسافروا براً ونهراً في أواخر سنة 1185، ولما التقى الفريقان انشق إسماعيل بك وانضم بمن معه إلى محمد بك أبي الذهب، فانهزمت البقية الباقية على ولائها لعلي بك الكبير إلى القاهرة، فأعد جيشاً آخر من سبع فرق يترأسها سبع أمراء، أسماهم أولاد البلد المصريون في سخرية تقليدية: السبع بنات، وبدأ علي بك الكبير يعد لمواجهة أبي الذهب خارج القاهرة، والتقى الجيشان في أواخر المحرم من عام 1186، ودارت الدائرة على علي بك الكبير، وانهزم جيشه فانسحب إلى القاهرة، ثم حمل أمواله وذخائره ورحل باتجاه الشام، ودخل محمد بك أبو الذهب القاهرة، وصار حاكم مصر.
واتجه علي بك الكبير بمن تبعه من جنود إلى عكا حيث واليها الظاهر عمر بن صالح الزيداني الصفدي، المولود سنة 1106، وطلب منه أن يعينه على قتال أبي الذهب، فجهز له عساكر جمة وأرسلها معه، وأصحبه زمرة من أولاده وأجناده، وأمده الروس كذلك بأربعمئة جندي، فخرج وقصد مصر في أوائل صفر سنة 1187، وتواترت الأخبار إلى أبي الذهب أن علي بك الكبير قادم من الشام بجنود الشام وأولاد الظاهر عمر، فتهيأ للقائه وبرز بجنوده إلى ظاهر القاهرة فأقام يومين حتى تكامل خروج العسكر، ووصل الخبر بوصول علي بك الكبير إلى الصالحية، فبادر محمد بك أبو الذهب بالتحرك باتجاهه فالتقيا بالصالحية في 8 صفر، فكانت الهزيمة على علي بك الكبير، وجُرح في وجهه وسقط عن جواده، فأخذوه أسيراً إلى مخيم محمد بك أبو الذهب فخرج إليه وتلقاه وقبَّل يده وحمله من تحت إبطه، حتى أجلسه بصيوانه، ثم عاد الجيش إلى مصر، وأنزل محمد بك أبو الذهب أستاذه في منزله، وجلب له الأطباء لمداواة جراحاته، ولكنه ما لبث أن توفي بعد وصوله بسبعة أيام. وأُسر معه كذلك أربعة ضباط روسيين سُلِّموا، مع رأس علي بك الكبير، إلى الوالي العثماني الذي أرسلهم إلى استانبول.
ولم يستمر محمد بك أبو الذهب في الحكم إلا سنوات ثلاث مات بعدها فجأة، ولكنه في خلالها قضى في سنة 1189على الظاهر عمر ودولته في عكا، وقتل عدداً كبيراً من أهلها، وأنقذ موته المفاجئ الظاهر عمر من القتل، ولكنه قتل سنة 1196 عندما اغتاله مغربي من جنوده أثناء حملة عثمانية استهدفته.
ثم تولى إبراهيم بك الحكم بعد أبي الذهب، وتقاسم بعض سلطاته مع مراد بك، دون الدخول تحت طاعة الباشا الذي عينه السلطان العثماني، وكانت أيامهما أياماً عجافاً بائسة على الصعيد السياسي والاقتصادي والأخلاقي، وقال عنه الجبرتي عندما أورد وفاته: أذن ببيع الغلال لمن يحملها إلى بلاد الإفرنج أو غيرها وجعل على كل أردب ديناراً، فجمع من ذلك أموالاً وإيراداً عظيماً، وكانت هذه البدعة السيئة من أعظم أسباب قوة الفرنسيس وطمعهم في الإقليم المصري مع ما أضيف إلى ذلك من أخذ أموالهم ونهب تجاراتهم وبضاعاتهم من غير ثمن، حتى تجسمت العداوة بين المصريين والفرنسيس وكان هو من أعظم الأسباب في تملك الفرنسيس للثغر، وكان من الأسباب في خراب الإقليم المصري بما تجدد منه ومن مماليكه وأتباعه من الجور والقصور، ومسامحته لهم، فلعل الهمَّ يزول بزواله.
وقد كانت حياة علي بك الكبير موضوع مسرحية شعرية نظمها أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله، وجعله فيها حاكماً مخلصاً لمصر يتصف بالوفاء والاعتزاز لمصر وأبنائها، يعتني بالأزهر وأموره، ويقرب العلماء، باراً بالفقراء والمحتاجين، ويرفض الاستعانة بالأجنبي الروسي ليعود إلى سلطانه، أما محمد أبو الدهب فقد صوره شوقي بصورة الغادر الذي وصل إلى منصب سيده بعدما خان ونكل بالمواثيق والعهود.
كان علي بك الكبير، كما أسلفنا، ذا شخصية قيادية متميزة، مولعاً بالتاريخ وسير ملوك مصر، لا يعرف الهزل واللهو، ولا يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين، ويقرب العلماء ويكرمهم، وله هيبة في النفوس، وكان كثيرون تأخذهم الرعدة إذا مثلوا بين يديه، واستتب الأمن في أيامه وارتفعت الرشوة وأكل حقوق العباد، لشدة عقوباته وأخذ الكبير بجناية الصغير، وكان منفرداً في قراراته لا يشارك أحداً في رأيه ولا أحكامه.
خلف علي بك الكبير آثاراً معمارية أهمها المسجد الأحمدي بطنطا مع ملحقاته، كما جدد قبة الإمام الشافعي، وبنى قيسارية تجارية مات قبل اكتمالها، وأصلح قلاع الإسكندرية ودمياط.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين