حدث في السادس عشر من ربيع الأول: معاهدة أدرنة

 

 

في السادس عشر من ربيع الأول من سنة 1245، الموافق 14 أيلول/سبتمبر 1829، وقعت روسية والدولة العثمانية معاهدة أدرنة، التي أنهت الحرب الروسية- العثمانية التي دامت سنة، وقوّت نفوذ روسية في جنوبها في أوربا الشرقية على حساب الدولة العثمانية، وكانت إرهاصاً ببداية الضعف في جسم الدولة العثمانية.

 

ومنذ آماد طويلة لم تكن علاقات الدولة العثمانية طيبة مع جارتها الكبيرة في الشمال، وذلك لأسباب متعددة منها أنهما إمبراطوريتان كبيرتان تمتعتا بمصادر بشرية وطبيعية كبيرة، وقامتا على التوسع وإخضاع الشعوب المختلفة لسلطانهما المركزي، مع تباين بينها في طرق الاستعمار، ومنها أن روسيا كانت تعتز بكنسيتها الأرثوذكسية ويستمد القيصر شرعيته منها، ويعتبر خدمتها ونصرة أتباعها من صلب واجباته الدينية، فيما كان العثمانيون يعتبرون السلطان خليفة المسلمين وقوام الدين، لا يبدأ جنودهم القتال إلا بالتكبير، وترتفع مآذنهم السامقات في كل أرض ألقوا فيها رحالهم ورفرفت عليها راياتهم، وأخيراً هما دولتان مركزيتان تأتمران بأمر الفرد، قيصراً كان أم سلطاناً، مع شورى لا تتجاوز رجال البلاط، والعاصمة هي محل القرار.

 

ولم تكن الحرب التي انتهت بمعاهدة أدرنة أول حرب خاضها البلدان، فقد سبقتها حروب في سنين 1676-1681، وسنة 1687، وسنين 1695-1696، وسنين 1710-1712، وسنين 1735-1739، وسنين 1768-1774، وسنين 1787-1791، وسنين 1806-1812، وستعقب هذه الحرب حروب أخرى في سنين 1853-1856 وسنين 1877-1878.

 

وكانت آخر حرب قبل حرب 1828 قد بدأت في عام 1806 عندما عزل السلطان سليم الثالث واليي مولدافيا ووالاشيا اللذان كانا يميلان ميلاً شديداً للروس، ولكن الحرب استمرت بوتيرة هادئة متباطئة،  فقد كرهت روسية أن تحشد قوات كبيرة تجاه تركية بسبب علاقاتها المضطربة جداً مع فرنسا النابليونية، وكانت الدولة العثمانية تعاني من اضطراب شديد من جراء رغبة السلطان في تغيير النظام العسكري من الإنكشارية إلى التنظيمات الحديثة، وهو الأمر الذي تمرد بسببه الإنكشاريون إذ كان يهدد وجودهم، وساندهم المفتي إذ اعتبره تقليداً للكفار وأصدر فتواه أن كل سلطان يدخل نظام الأفرنج وعاداتهم ويجبر الرعية على اتباعها لا يكون صالحا للملك، وأطاح هذا بالسلطان سليم الثالث ثم بخلفه مصطفى الرابع، وجاء إلى سدة الملك السلطان محمود الثاني في منتصف سنة 1223=1808، وشهد عصره هزيمة الجيش العثماني أمام الجيش الصربي الروسي وانسحاب الجيوش العثمانية من صربيا.

 

وفي عام 1226=1811 صارت حرب روسية مع فرنسا حتمية قريبة، فقررت روسية أن تحيّد الخطر الرابض على حدودها الجنوبية، وقام المارشال ميخائيل كوتوزف، أحد أقدر عسكريي تلك الحقبة، بقيادة الحملة الروسية التي ألحقت بالعثمانيين خسائر متتالية، واستولت على المناطق الواقعة شمال نهر الدون، ثم عجلت تستبق هجوم نابليون وطلبت التفاوض مع استانبول الذي انتهى باتفاقية بوخارست الذي وقعه البلدان في سنة 1227=1812، ويقضي بأن تتنازل الدولة العثمانية عن إقليم بساربيا مقابل أن ترفع روسية يدها عن دعم الصرب واليونان في طموحهم للاستقلال عن الدولة العثمانية، وكانت روسية تعتبرهم امتداداً لنفوذها لكونهم يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية، ومكنت اتفاقية بوخارست السلطان من أن يهاجم صربيا ويستولي عليها ويكبد المتمردين خسائر قصمت ظهرهم ولو إلى حين.

 

وكانت هذه المعاهدة في صالح  روسية إذ منحتها كل الشواطئ الشمالية للبحر الأسود، ومكنتها من تهيئة جيوشها لمقاومة الهجوم الفرنسي الذي نجح في الوصول إلى موسكو، أما تنازل روسية عن دعم الصرب واليونان فقد كان أمراً رمزياً إلى حد كبير، ذلك إن بلاد البلقان كان مستقلة في واقع الحال لا سلطة للعثمانيين إلا في النواحي القريبة من قلاعهم ومراكزهم، وأما اليونان فكانت الحركة الاستقلالية فيها تلقى تأييد الدول الأوربية الأخرى مثل فرنسة وبريطانية، التي عز عليها أن يكون مهد الحضارة الغربية بيد العثمانيين المسلمين، وتشكلت في أوربا عدة جمعيات دعيت بجمعيات محبي اليونان، وجمعت كثيرا من المال أرسلت به إلى الثائرين كميات وافرة من الاسلحة والذخائر، وتطوع كثير من اعضائها في عداد المحاربين، ومن ضمنهم كثير من مشاهير أوربا وأمريكا منهم اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي، ويوجين دلاكروا الشاعر الفرنسي، وصاموئيل جريدلي هاو الأمريكي.

 

وفي سنة 1821 تمرد السكان اليونانيون في إقليم المورة الجبلي على العثمانيين، ولجأوا أولا إلى إسلوب حرب العصابات الذي أنهك القوات العثمانية، ثم امتدت الثورة حتى سيطرت على شبه الجزيرة باستثناء ميناء واحد، فاستعان السلطان محمود بمحمد على باشا الكبير حاكم مصر، وأصدر أمره في سنة 1239=1824 بتعيينه والياً على جزيرة كريت وإقليم المورة، فأرسل ابنه إبراهيم باشا على رأس أسطول يحمل 17000 جندي مصري، وابتدأت حملة إبراهيم باشا في سنة 1240=1825، وخلال سنة ونصف كان قد وصل إلى أثينا واحتلها هازماً القوات اليونانية التي قاتلت بقيادة الأدميرال توماس كوشران دندونالد، وهو بريطاني اختاره اليونانيون إذ لم يتفقوا على واحد منهم!

 

وبينما إبراهيم باشا يستعد لإخضاع ما بقي من بلاد اليونان في أيدي الثوار إذ تدخلت الدول الأوربية بحجة حماية اليونانيين، وكان القيصر الروسي إسكندر الأول قد توفي في سنة 1241=1825 وتولى بعده نقولا الأول الذي تابع دعم اليونان وبدأ في التقارب مع بريطانية لتضغط على الدولة العثمانية للوصول إلى اتفاق سياسي آخر تقايض فيه  روسية على اليونان مقابل مكاسب سياسية وجغرافية إضافية، وكانت نتيجة هذه الضغوط معاهدة آق كرمان التي وقعها الطرفان في 28 صفر سنة 1242= آواخر 1826، والتي منحت روسية حق الملاحة في البحر الأسود والمرور من مضائق بحر مرمرة دون أن يكون للدولة العثمانية الحق في تفتيش سفنها، وأن ينتخب أمراء الولايات البلقانية من سيحكمهم مع عدم جواز عزله إلا بموافقة روسية، وأن تكون ولاية الصرب مستقلة تقريبا لا يحتل منها الجيش العثماني إلا قلعة بلغراد وثلاث قلاع اخرى. وبشكل مستقل أعلنت روسية وبريطانية أنهما ستبذلان كل نفوذهما لوقف الحرب في اليونان وانضمت لهذا الإعلان النمسة وبروسية وفرنسة.

 

وبعد ذلك ببضعة شهور، في رجب 1242، عرضت بريطانية رسميا على الدولة العثمانية أن تتوسط بينها وبين اليونانيين، فدرس العثمانيون الأمر دراسة متروية وأجابوا بعد قرابة 3 أشهر، في ذي القعدة، بأن الدولة العثمانية لا ترغب ولم تسمح ولن تسمح مطلقا بأن يتدخل أحد بينها وبين مواطنيها اليونانيين، ولم يعجب هذا الجواب الدول الأوربية وأعلنت فرنسا وبريطانية وروسية بعد شهر تعهدها أن تلزم الدولة العثمانية منح اليونان استقلالها الاداري ولو بالقوة، وفقاً لحدود يتفق عليها الفريقان فيما بعد، ومقابل أن يدفع اليونانيون جزية معينة يتفق على مقدارها فيما بعد، وأمهلت هذه الدول الباب العالي شهراً لإيقاف الأعمال الحربية ضد اليونان، وإلا فتجد هذه الدول أنفسها مضطرة لتحقيق ذلك بكل الطرق الممكنة.

 

ولما بلغت أنباء هذا الاتفاق استانبول لم يحفل بها البلاط العثماني، معتداً بقوته، وبعد انقضاء مهلة الشهر أصدرت روسية وفرنسة وبريطانية أوامرها إلى قواد أساطيلها بالتوجه لسواحل اليونان، وطلبت بعد ذلك من إبراهيم باشا الكف فورا عن القتال، فأجابهم أنه لا يتلقى أوامره إلا من سلطانه أو أبيه، ومع ذلك فإنه أعلن إيقاف القتال مدة عشرين يوما ريثما تأتيه تعليمات جديدة، وتربص هو وجنوده على أهبة القتال، وحاصرت سفن الدول الثلاث ميناء نافارين لمنع الأسطولين التركي والمصري من الخروج منه، ووضع الأسطول تحت قيادة الأدميرال البريطاني كودرنجتون، لكونه الأقدم بين الضباط، واندلعت المعركة في 29 ربيع الأول 1243، الموافق 20 تشرين الأول/أكتوبر 1827، وسلطت جميع السفن الاوروبية مدافعها على المراكب التركية والمصرية فأغرقتها وأعطبتها بالكامل في غضون بضع ساعات، دون أن تغرق لها سفيتة، وقصمت هذه المعركة ظهر الأسطول العثماني فلم تقم له قائمة بعدها.

 

ولم تكن لفرنسة ولابريطانية مصلحة فيما جرى، فقد قدمتا لروسية النصر على طبق من ذهب، وخرجت هي الرابح الأكبر في المعركة، وخلا لها وجه البحرين الأسود والأبيض من منافسها العثماني اللدود، وكانت فرنسة قد دخلت الميدان وهدفها استرجاع سمعتها بعد هزيمتها في حروب نابليون وإرجاعِها إلى حدودها الأصلية سنة 1815، وتدخلت بريطانية خوفا من استئثار فرنسا بالنفوذ في الشرق، وكان من الممكن أن يكون للمفاوضات دور في إنهاء الموقف سلمياً، ولكن حماقة أحد الجنود الأتراك أشعلت لهيب المعركة، ذلك إن إحدى السفن العثمانية اقتربت كثيراً وهي في مناوراتها من إحدى البوارج البريطانية، فأرسل قبطانها ضابطا في زورق ليستعلم عن سبب اقترابها، فأطلق عليه أحد الجنود الأتراك رصاصة قتلته، وعند ذلك اقتتلت السفينتان وامتد لهيب الحرب إلى باقي السفن، ووقعت الواقعة! وجدير بالذكر أن هذه المعركة هي آخر المعارك الكبيرة التي خاضتها السفن الشراعية الخشبية.

 

وبقيت الحكومةالعثمانية متمسكة بأوهامها، وأرسلت احتجاجاً شديد اللهجة إلى سفراء الدول الثلاثة ضد هذا العدوان المخالف للقوانين الدولية التي تسير عليها الدول المتمدنة، والتي تقتضي إعلان الحرب قبل الأعمال العدائية، وطالب هذه الدول أن تمتنع  عن التدخل في شؤون السلطنة العثمانية، وأن تدفع تعويضات عن الخسائر التي نجمت من تدمير السفن العثمانية، فلم يجب السفراء على هذا الاحتجاج بل قطعوا العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العثمانية وغادروا استانبول في آخر سنة 1827.

 

وأصدر السلطان منشورا عاما في أنحاء السلطنة أعلن أن هذه الدول تكن السوء للدولة العثمانية، وأن عداء روسية بخاصة دافعه ديني بحت، وختمه بإعلان الجهاد وحض المسلمين على القتال دفاعا عن الدين والملة والوطن، ومقابل ذلك أعلنت روسية الحرب على الدولة العثمانية في 11 شوال سنة 1243، الموافق  26 ابريل سنة 1828. أما إبراهيم باشا فقد عاد إلى مصر بموجب اتفاق أبرمه والده مع بريطانية في أول سنة 1244، وقامت فرنسة بانتهاز الفرصة كعادتها فأرسلت جيشاً إلى اليونان بدأ يحلُّ محل القوات المصرية المنسحبة.

 

وتحركت الجيوش الروسية فور إعلان الحرب، واحتلت بوخارست ثم فارنا التي استطاع القواد الأتراك إدخال المدد إليها في ظروف صعبة، وصمدوا صموداً عجيباً أمام حصار شارك فيه القيصر الروسي نيقولا،  قبل أن تسقط في أول ربيع الثاني سنة 1244، الموافق 11 تشرين الأول/أكتوبر 1827 نتيجة خيانة أحد القادة العثمانيين، واستطاع الروس تحقيق انتصارات في الجبهة الآسيوية حيث احتلوا قارص ، ثم توقف القتال بسبب اشتداد البرد وتراكم الثلوج.

 

ولما جاء فصل الربيع تابعت الجيوش الروسية انتصاراتها فاجتازت نهر الدون ثم اخترقت جبال البلقان حتى وصلت إلى مدينة أدرنه واحتلتها عنوة، وأصبح الطريق مفتوحاً أمامها للاستيلاء على استانبول التي تبعد 70 كيلومتراً، لولا رغبة بريطانية في الحد من التوسع الروسي بعد أن أضعفت الدولة العثمانية، فأعلمت روسية بمعارضتها الصارمة لاحتلال استانبول.

 

وفي 8 جمادى الأولى سنة 1244، الموافق 16 نوفمبر سنة 1828، عقدت الدول الثلاث مؤتمرا في لندن لتقرير مصير اليونان ودعت إليه الدولة العثمانية، فأبت إرسال مندوب من طرفها، حتى لا يعد ذلك إقرارا منها على ما يتفق عليه وما فعلوه من مساعدة اليونان على الاستقلال، ولم تعبأ الدول بموقف العثمانيين بل عقدت اجتماعاتها، وأعلنت اتفاقها على استقلال إقليم المورة والجزر اليونانية، وأن تكون لها حكومة مستقلة يحكمها أمير مسيحي تنتخبه الدول الثلاث ويكون تحت حمايتها،وأن تدفع هذه الحكومة لاستانبول جزية سنوية قدرها خمسمئة ألف قرش. ورغم وضعها العسير لم تقبل الدولة العثمانية بهذا القرار واعتبرته تدخلاً بينها وبين مواطنيها وصادراً عمن لا يعنيه الأمر.

 

ودارت مفاوضات بين روسية والباب العالي في استانبول برعاية الإمبراطورية البروسية، وتمخضت عن معاهدة أدرنة التي وقعها الطرفان في مدينة ادرنة في 16 ربيع الأول من سنة 1245، الموافق 14 أيلول/سبتمبر سنة 1829.

 

 وتضمنت المعاهدة إيقاف العمليات العدائية، وأن يخلفها الصلح الأبدي والمحبة وحسن الموافقة بين جلالة إمبراطور جميع الروسيا وبين عظمة إمبراطور العثمانيين، وأن يعيد الروس للأتراك السيادة الإسمية على جزء كبير من إقليم البلقان، مع اتفاق ملحق يؤكد تمتع دولتيه بالحرية الدينية وبالأمن، وإدارة ذاتية مستقلة، وأن ينسحب الروس من المناطق التي احتلوها في تركية الأوربية، وأن يكون نهر الدانوب هو الحد الفاصل بين الدولتين، وأن تصبح للروس السيادة على جورجيا مقابل إعادة ما احتلوه من أراضي الدولة الآسيوية وعلى رأسها قارص.

 

وحققت المعاهدة إنجازاً كبيراً للتجارة الروسية وصادراتها من الحبوب والأنعام والأخشاب التي تنطلق من موانيء البحر الأسود، إذ نصت على ضمان حرية التجارة للرعايا الروس، وألا تتعرض السفن التجارية أو البضائع الروسية لأي تفتيش من طرف الدولة العثمانية، وأن الباب العالي يعترف ويعلن بأن المرور في قناة القسطنطينية وبوغاز الدردنيل يكون بحرية تامة وأنهما مفتوحان للسفن الروسية التجارية، فمهما كانت كبيرة ومهما كان قدرها لا تكون معرضة لأدنى مانع... و إذا حصل لا سمح الله مخالفة لبعض الاشتراطات التي اشتمل عليها البند الحالي دون أن تنال طلبات وزير الروسية بهذا الشأن الترضية التامة في أسرع وقت، فالباب العالي يعترف مقدما لحكومة الروسيا الامبراطورية بأن لها الحق في أن تعتبر هذا كعمل عدائي وأن لها الحق في ان تقابل الدولة العثمانية بمثله.

 

وتضمنت المعاهدة تعويضات تدفعها الحكومة العثمانية لروسية لما قد حصل لها من خسائر جسيمة بخصوص الملاحة في البوسفور: مبلغ مليون وخمسمئة الف دوقة هولاندية بحيث أن تسديد هذا المبلغ يمنع كل طلب أو ادعاء صادر من إحدى الدولتين المتعاقدتين ضد الأخرى.

 

اما بخصوص اليونان فتضمنت المعاهدة موافقة السلطان على إعلان لندن لعام 1828 الذي اشتركت فيه فرنسة وبريطانية وروسية، وأنه سيعين بعد اتمام الصلح مندوبا للاتفاق مع مندوبي الدول الثلاث على حدود هذه المملكة اليونانية الجديدة، وبعد بضعة شهور أعلن الباب العالي تصديقه على شروط اتفاق لندن وأصبح الطريق مفتوحاً لاستقلال اليونان الذي تم في سنة 1830.

 

ولم تكن هذه العواقب الوحيدة لهذه الحرب، فقد كان السلطان محمود قد عين محمد علي باشا الكبير والي مصر والياً على سورية مقابل معونته في حرب اليونان، فلما انتهت الحرب طالب بنيل هذه المنحة في عام 1247=1831، ولما رفض ذلك السلطان قامت قوات محمد علي يقودها ابنه إبراهيم باشا بغزو سورية والاستيلاء عليها وهزمت الجيش العثماني في قونية، فلجأ السلطان إلى طلب المساعدة البريطانية، فقد كانت فرنسة تدعم محمد علي، فرفضت بريطانية فاتجه لروسية التي أرسلت أسطولها إلى البسفور ووقعت معاهدة دفاع مشترك مع الدولة العثمانية، وبات سقوط الدولة العثمانية وشيكاً بعد معركة نصيبين عام 1255، لولا أن تدخلت الدول الأوربية خشية أن تكون لمحمد علي باشا دولة كبيرة فتية تخلف الدولة العثمانية المترهلة.

 

أما على الصعيد الداخلي فلعل أهم نتائج هذه الحرب هي القضاء على الإنكشارية قضاءاً مبرماً، بعد أصبح السلاطين على أتم قناعة بوجوب النظام العسكري من الإنكشارية إلى التنظيمات الحديثة، وقد ذكرنا أن محاولاتهم أطاحت بالسلطان سليم الثالث ثم بخلفه مصطفى الرابع، وأتت بالسلطان محمود الثاني في منتصف سنة 1223=1808.

 

وكان محمود قد حاول هذا في مطلع تسلمه للملك سنة 1223، ولكن الإنكشارية ثاروا عليه وقتلوا رئيس وزرائه فاضطر لتأجيل الأمر إلى فرصة أخرى، ولما برز تفوق الجيش المصري في حروب اليونان، وأن سببه تنظيمه وفق القواعد العسكرية الحديثة،  دعا السلطان محمود في سنة 1241= 1826إلى اجتماع لأهل الحل والعقد من مدنيين وعسكريين، و خطب فيهم الصدر الأعظم سليم محمد باشا مظهرا ما وصلت اليه حالة الإنكشارية من الضعة والانحطاط وعدم الانقياد حتى صارت من أكبر دواعي تأخر الدولة، بإزاء تقدم الدول الأوربية المستمر، بعد أن كانت هذه الفئة من أكبر عوامل تقدم الدولة وامتداد فتوحاتها، ثم أبان لهم ضرورة إدخال النظام العسكري إذ لا يمكن للإنكشارية بحالتها الحالية الوقوف أمام الجيوش الأوربية المنتظمة، وأخذ موافقة الجميع على هذا القرار، وبدأ بعده في إعداد سلك الضباط تحت يد مدربين من الأفرنج.

 

وبعد ذلك بشهور بدرت بادرة عصيان من الإنكشارية استغلها السلطان وخرج بنفسه لمواجهة العاصين في ميدان تجمعهم، وأطلقت عليهم مدفعيته حممها فهربوا إلى ثكناتهم فسلط عليها المدافع حتى أحالها قاعاً صفصافا وأصدر أمره في اليوم التالي بحل هذه القوات وإبطال ملابسها واصطلاحاتها واسمها، وأحل محلها جيشاً نظامياً تحت قيادته الشخصية قام بتدريبه مدربون ألمان.

 

وبرز أثر النظام الجديد في الحرب مع روسية، فرغم الهزائم التي وقعت بالعثمانيين إلا أن جنودهم أبدوا مهارة فائقة في فنون الحرب الحديثة، وقاتلوا بثبات وانتظام مكبدين الروس خسائر فادحة، حتى إن السفير الروسي في باريس أشاد بذلك في إحدى مذكراته، وقال لو أن روسية تأخرت في إعلان الحرب سنة أخرى لما استطاعت أن تحقق ما توصلت إليه من انتصارات.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين