حدث في السادس عشر من ربيع الآخر

 بقلم محمد زاهد أبو غدة

 في السادس عشر من ربيع الآخر من سنة 465، توفي، عن 90 عاماً، أبو القاسم القُشيري، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري، الخراساني، النيسابوري، الشافعي، الإمام الصوفي الزاهد المحدث وصاحب كتاب الرسالة القشيرية. والقشيري نسبة إلى بني قشير ابن كعب، فهو عربي الأصل من العرب الذين وردوا خراسان، وسكنوا النواحي، وهو قشيري الأب سُلَميُّ الأم.
ولد أبو القاسم القشيري بنيسابور سنة 376، ومات أبوه وهو طفل، فدُفع إلى مؤدب علمه الكتابة والعربية فأتقنها، وتعلم طرفاً من الحساب، واشتغل في شبابه بالفروسية والعمل بالسلاح، حتى برع في ذلك، وورث عن والده ضيعة في ناحية أُستُوا فكان يعمل حساب دخلها وخراجها، وصدف وهو في أوائل العشرين من عمره أن دخل نيسابور من قريته، فحضر درساً لأبي علي الدقاق شيخ الصوفية في نيسابور، الحسن بن علي بن محمد المتوفى سنة 406، وكان فقيهاً متصوفاً ذا حال ومقال، فانجذب القشيري إليه وتصوف على يديه، واهتم الدقاق بتلميذه، وأشار عليه بطلب العلم، وأكرمه بأن زوجه ابنته فاطمة، مع كثرة الراغبين فيها، فكانت له خير معين على العلم والعبادة.
وكان القشيري شديد الاحترام لأستاذه أبي علي الدقاق، قال في كتابه الرسالة: ولم أدخل أنا على الأستاذ أبي علي في وقت بدايتي إلا صائماً، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب؛ احتشاماً منه أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت المدرسة كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبني شبه خدّرٍ، حتى لو غرزني إبرة - مثلاً - لعلي كنت لا أحس بها ... ولا أذكر أني في طول اختلافي إلى مجلسه، ثم كوني معه بعد حصول المصاهرة، أن جرى في قلبي أو خطر ببالي عليه قط اعتراض، إلى أن خرج رحمه الله من الدنيا.
وأخذ القشيري بتوجيه أستاذه وانصرف للتحصيل العلمي وسماع الحديث، فسمع من كبار مشايخ نيسابور مثل مسند خُراسان الإمام الزاهد العابد أبي الحسين أحمد بن محمد الخفاف، المولود سنة 302 والمتوفى سنة 395، والإمام المحدث الصدوق السيد أبي الحسن العلوي، محمد بن الحسين الحسني النيسابوري، المتوفى سنة 401، والذي قال عنه الحاكم النيسابوري: هو ذو الهمة العالية، والعبادة الظاهرة، وكان يُعَدُّ في مجلسه ألف محبرة. ومثل عبد الرحمن بن إبراهيم المزكي، المتوفى سنة 397، وكان من عقلاء الرجال والعباد. وأخذ القشيري الحديث كذلك عن كبار محدثي العراق والحجاز.
ومن كبار حفاظ نيسابور الإمام الحافظ الكبير الجوال، أبو عوانة، يعقوب بن إسحاق، المولود بعد سنة 230 والمتوفى سنة 316، وعمل أبو عوانة مسنداّ خرَّجه على صحيح مسلم وأسماه المسند الصحيح، والتخريج في هذه الحالة يكون كما قال الحافظ العراقي: أن يأتي المصنف إلى الكتاب، فيخرَّج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه. وأضاف الحافظ ابن حجر: وشرطه ألا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد سندا يوصله إلى الأقرب. ويؤخذ من كتب التخريج زيادات مفيدة وأسانيد جيدة، وقد زاد أبو عوانة أحاديث قليلة في أواخر الابواب.
ومن رواة هذا المسند الشيخ العالم الثقة أبو نعيم الإسفرايني، عبد الملك بن الحسن، المولود سنة 310 والمتوفى سنة 400، وكان أبو عوانة خال أبيه، وكان أهله يحضرونه مجلسه الحديثي، وكان أبو عوانة كذلك يقرؤه عليه، ولما مات أبو عوانة كان لأبي نعيم ست سنين وعشرة أشهر، فصارت له رواية لهذا الكتاب الحديثي الهام، وأجازه به أبو عوانة في وصيته، وسمعه بقراءة والده.
 
وسمع هذا المسند من أبي نعيم أبو القاسم القشيري وزوجتُه فاطمة، ولها فوت، أي فاتتها بعض المجالس فلم تسمع الكتاب كله. ورواه عن القشيري وزوجته محدثون كثيرون من المتصوفة والمحدثين وطلبة العلم، فصارت طريقه إحدى الطرق الرئيسة لمسند أبي عوانة.
 
وتفقه القشيري على أبي بكر الطوسي، محمد بن بكر، المتوفى بنُوقان سنة 420، وكان إمام الشافعية ومدرسهم بنيسابور، وكان ورعاً زاهداً منقبضاً عن الناس. وتفقه كذلك على الإمام أبي إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد، المتوفى سنة 418، الفقيه الأصولي المتكلم، وأحد مجتهدي عصره.
 
ودرس القشيري المناظرة والكلام على شيخ المتكلمين أبي بكر ابن فُورَك، محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، المتوفى سنة 406، ثم تزوَّج أحمد بن محمد ابن فورك بابنة أبي القاسم القشيري الوسطى، واستوطن أحمد بغداد يعظ في النظامية لما تمتع به من حسن المعرفة بالكلام والنظر والوعظ، ولكنه كان مؤثراً للدنيا طالباً للجاه، فلم يلق قبولاً من معاصريه، وتوفي سنة 478.
 
ولما توفي حموه أبو علي الدقاق سنة 406، لازم القشيري شيخَ الصوفية في زمانه الإمام أبا عبد الرحمن السُّلَمي، محمد بن الحسين، المولود سنة 325 والمتوفى سنة 412، وكان محدثاً فقيهاً متصوفاً، وهو صاحب كتاب طبقات الصوفية، وله تفسير أتى فيه بغرائب غير محمودة. ويروي عنه القشيري كثيراً في كتابه الرسالة.
 
ألزم القشيري نفسه بالتقشف والزهد، وصار شيخ خراسان في التصوف، وكانت له مجالس وعظ يحضرها ألوف الناس، وكان في وعظه حَسَن الوعظ، مليح الإشارة، لطيف العبارة، طيب الأخلاق، غواصا على المعاني، عديم النظير في السلوك والتذكير، صدَّق فعلُه قوله، فكان له أثر كبير في هداية وتوبة عدد كبير من الناس ، وقال عنه معاصره الباخرزي، علي بن الحسن المتوفى سنة 467: لو قُرِعَ الصخرُ بسوطِ تحذيره لذاب، ولو رُبِطَ إبليس في مجلس تذكيره لتاب، وله فصل الخطاب في فضل النطق المستطاب.
 
ومن الأمور المنقولة عن القشيري وفقاً لأعراف بعض المتصوفة لبس خرقة التصوف، ويروون في ذلك سنداً يصل إلى علي رضي الله عنه، فقد قال حفيده أبو الأسعد: ألبسني الخرقة جدي أبو القاسم القشيري، ولبسها من الأستاذ أبي علي الدقاق، عن أبي القاسم النصراباذي، عن أبي بكر الشبلي، عن الجنيد، عن سري السقطي، عن معروف الكرخي، رحمهم الله تعالى. ولكن المحدثين الثقاة ينفون أن يكون لذلك أصل صحيح، قال الحافظ ابن حجر عن ذلك: لم يرد في خبرٍ صحيح ولا حسن ولا ضعيف، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحداً من أصحابه بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحا فباطل.
 
وحج أبو القاسم القشيري في سنة 448، مع الإمام أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين، والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، وحدَّث ببغداد وممن كتب عنه الخطيب البغدادي الذي قال: كتبنا عنه، وكان ثقة، وكان يقص، وكان حسن الموعظة، مليح الإشارة.
 
وروى عن القشيري الحديث عددٌ كبير من علماء عصره وطلبة العلم، ولما أمدَّ الله في عمره، تتابعت عليه الأجيال وكثر الراوون عنه، ولأبي القاسم أربعون حديثا من تخريجه، تناقلها المحدثون عنه، وممن أخذ عن القشيري أبو عبد الله الصاعدي النيسابوري الفَراوي، محمدُ بن الفضل المولود سنة 441 والمتوفى سنة 530، والمعروف بفقيه الحرم، لأنه أقام في الحرمين مدة طويلة، ينشر العلم ويسمع الحديث ويعظ الناس ويذكرهم. وهو مشهور بكثرة الرواية والرواة حتى قيل عنه: للفراوي ألف راوي!
 
ومن المتصوفة الذين أخذوا عن أبي القاسم القشيري الأستاذ الزاهد أبو الحسين الكرماني، أحمد بن عبد الرحمن بن الحسين المتوفى سنة 506 وقد قارب الثمانين، والذي اعتبره معاصروه أحد أولياء الله، ومن أفراد عصره مجاهدة ومعاملة وخُلقاً. فقد ورد نيسابور، وأقام عند أبي القاسم القشيري، وسلك معه في الطريق، وكان أبو القاسم يعتني بتعليمه، فحصل من علوم الأصول والفروع، وجمع كتب أبي القاسم وسمعها، ثم غلب التصوف والزهد عليه فمال إلى العزلة والانزواء وضمر الجانب العلمي فيه ولم يحدّث إلا القليل مع سماعه الكثير.
 
وأراد الكرماني ذات مرة أن يتصدق بكتبه التي حصَّلها، فأشار عليه أبو القاسم بحفظها وقال: احفظها وديعة عندك، ولم يأذن له في بيعها ولا هبتها، فكان يستصحبها، يصونها ولا يطالعها، ويقول: إنها وديعة للإمام عندي.
 
وكان من تلاميذ أبي القاسم القشيري مقرئٌ نحوي ضرير جاء من المغرب الأقصى هو يوسف بن علي جبارة البسكري، المكنى بأبي القاسم الهُذلي، والمولود سنة 403 والمتوفى بنيسابور سنة 465، فقد طوف هذا المقرئ البلاد في طلب القراءات، ولم يرحل أحد في طلب القراءات أوسع من رحلته، فإنه رحل من أقصى المغرب إلى مدينة فرغانة في أوزبكستان، وانتهى به المطاف أن أرسله الوزير نظام الملك إلى مدرسته بنيسابور سنة 458 فجلس بها يفيد، وكان مقدما في النحو والصرف، وكان يحضر مجلس أبي القاسم القشيري، ويقرأ عليه الأصول. وكان القشيري يراجعه في مسائل النحو ويستفيد منه.
 
وممن تفقه على القشيري والجويني الإمام أبو سعد المؤذن الشافعي، إسماعيل بن أحمد، المتوفى سنة 532، وكان إماماً في الأصول والفقه، حسن النظر، واسع العقل، مقرباً من سلاطين بني سلجوق، ذا عز وجاه.
 
وفي سنة 445 مر القشيري بمحنة سببها التعصب المذهبي والتدخل السياسي في عقائد الناس، فقد كان السلطان السلجوقي طُغرلبك معتزلياً، وكان كبير حاشيته، ووزيره في سنة 448، عميد الملك أبو نصر الكُندري النيسابوري، محمد بن منصور المولود سنة 412، وكان الكندري فاضلاً جواداً عالماً بليغاً، ولكنه كان شيعياً شديد التعصب، فاتخذا من بعض القضايا الخلافية في العقيدة ذريعة ليأمرا بلعن الأشاعرة على المنابر بخراسان، وأدى ذلك إلى امتعاض شديد في صفوف علماء خراسان مثل إمام الحرمين الجويني وأبي القاسم القشيري وغيرهما، وكتب القشيري رسالة استعطاف أسماها شكاية أهل السنة ما نالهم من المحنة، فلم تنفع لدى السلطان، فسافر القشيري من خراسان إلى بغداد، وكان الخليفة أنذاك القائم بأمر الله، فلقي قبولا لديه، وعقد له المجالس، وخرج أمره بإعزازه وإكرامه، وأما الجويني فخرج إلى مكة فأقام أربعة سنين يتردد بين الحرمين يدرس ويفتى حتى لقب إمام الحرمين.
 
ودام الأمر كذلك حتى توفي طغرلبك سنة 455 وخلفه السلطان ألب أرسلان الذي سرعان ما اعتقل الوزير الكندري في سنة 456 وعين وزيراً جديداً هو نظام المُلك الطوسي، الحسن بن علي المولود سنة 408 والمتوفى غيلة سنة 458، وكان رجلاً صالحاً خيِّراً، وهو باني المدرسة النظامية ببغداد سنة 456، فأبطل سبّ الأشعرية على المنابر، وانتصر للشافعية، وأكرم إمام الحرمين أبا المعالي وأبا القاسم القشيري.
 
ومما يذكر في هذا الصدد أن الوزير الصالح نظام الملك كان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلس في مسنده كما هو، وإذا دخل عليه الشيخ الزاهد الواعظ أبو علي الفارمُذي، المولود سنة 407 والمتوفى سنة 477، يقوم إليه ويجلسه في مكانه، ويجلس بين يديه، فقيل له في ذلك؟ فقال: إن هذين وأمثالهما إذ دخلوا علي يقولون لي: أنت كذا وكذا، يثنون علي بما ليس في، فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي، وما أنا فيه من الظلم، فتنكسر نفسي لذلك، وأرجع عن كثير مما أنا فيه.
 
وألف القشيري عدداً من الكتب كان أعظمها تأثيراً كتاب الرسالة القشيرية، التي صارت من أشهر كتب الزهد والتصوف، وانتشرت من الصين إلى المغرب، حتى رام بعض أهل الأندلس أن يعمل شبيهة لها، وهي رسالة كتبها القشيري سنة 437، وتضمنت تراجم كبار المتصوفة وبعضاً من أحوالهم وأقوالهم، وختمها بنبذة من آداب التصوف، وبيَّن رحمه الله في مقدمتها سبب تأليفها، فقال:
 
هذه رسالة كتبها الفقير إلى الله تعالى عبد الكريم بن هوازن القشيري، إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام، في سنة 437.
 
أما بعد، رضي الله عنكم:
 
فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده، بعد رسله وأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره.
 
... مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسُنَّتهم اقتداء، وزال الورع وطُويَ بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه، وارتحلت عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام، وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان، وأصحاب السلطان.
 
ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت ببعضه من هذه القصة ... ولما أبى الوقت إلا استصعاباً، وأكثرُ أهل العصر بهذه الديار إلا تمادياً فيما اعتادوه، واغتراراً بما ارتادوه، أشفقتُ على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده، وعلى هذا النحو سار سلفه.
 
فعلقتُ هذه الرسالة إليكم، أكرمكم الله، وذكرتُ فيها بعض سِيَرَ شيوخ هذه الطريقة في آدابهم، وأخلاقهم، ومعاملاتهم، وعقائدهم بقلوبهم، لتكون لمريدي هذه الطريقة قوة، ومنكم لي بتصحيح شهادة، ولي في نشر هذه الشكوى سلوة، ومن الكريم فضلاً ومثوبة، وأستعين بالله سبحانه فيما أذكره وأستكفيه، وأستعصمه من الخطء فيه، وأستغفره وأستعينه، وهو بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير.
 
وله إلى جانب الرسالة كتب في التفسير منها كتاب لطائف الإشارات في التفسير، وكتاب التيسير في التفسير، ويقال له التفسير الكبير، وهو من أجود التفاسير. وكتاب نحو القلوب، وكتاب الجواهر، وكتاب أحكام السماع، وكتاب عيون الأجوبة في فنون الأسئلة، وكتاب المناجاة، وكتاب المنتهى في نكت أولي النُهى، وكتاب ناسخ الحديث ومنسوخه، وكتاب بُلغة القاصد، وكتاب التحبير في علم التذكير، وهو شرح للأسماء الحسنى، وغيرها.
 
وكان أبو القاسم القشيري بارعاً في الشعر معدوداً في أدباء عصره ومصره، حتى أورده ضمن أدباء نيسابور معاصره الباخرزي في كتابه دمية القصر، وقال عنه: الأستاذ الإمام زين الإسلام ... وله شعر تتوج به رؤوس معاليه، إذا خُتِمت به أذناب أماليه، فمما أنشدنيه لنفسه:
 
الأرض أوسع رقعةً ... من أن يضيق بك المكان
 
وإذا نبا بك منزل ... ويظل يلحقك الهوان
 
فاجعل سواه معرَّسَاً ... ومن الزمان لك الأمان
 
وإضافة إلى ما نقلناه عن الباخرزي، فإن للقشيري مقطعات جميلة في الحكمة والزهد والغزل، فمن نظمه:
 
إن نابك الدهرُ بمكروه... فقل بتهوين تخاويفهْ
 
فعن قريب ينجلي غمه... وتنقضي كل تصاريفه
 
ومن نظمه:
 
سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحكُ
 
أقمت زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك
 
ومن نظمه في الغزل:
 
البدر من وجهك مخلوق ... والسِّحر من طرفك مسروقُ
 
يا سيدا تيمني حبه ... عبدك من صدك مرزوق
 
ومن شعره:
 
هي النوائب والأحداث والغِيَرُ ... والدهر كالنحل فيه الشهد والإبرُ
 
عِدات دهرك بالتأييد كاذبة ... تُري السرابَ شراباً مَن به وحر
 
منَّتك نفسُك أن تبقى إلى أمد ... مَن الخبير بما يأتي به القدر
 
الليل حُبلى وللميلاد آونة ... وما سيولد لا يدري به البشر
 
ومن شعره يتأسف على ما مضى من عمره:
 
الدهر ساومني عمري فقلت له ... لا بعت عمري بالدنيا وما فيها
 
ثم اشتراه تفاريقاً بلا ثمن ... تبت يدا صفقة قد خاب شاريها
 
واشتُهر بما ينشده لنفسه أو لغيره من على منبر الوعظ، وهي أشعار في الحنين والغزل، القصد منها ترقيق القلوب وترغيبها بالوصل مع الله عزوجل، ومن ذلك:
 
يا ليلة الوصل قد أورثتني أسفاً ... من قبل أن أُتوفى مرة؛ عودي
 
إني لما مسني من طول فقدكم ... قلبي على النار مثل النَّد والعود
 
ومن إنشاداته:
 
ألا حيِّ بالدمع أطلالها ... وعرِّج لتعرف أحوالها
 
وهل نسيت بالحمي عهدنا ... وهل مثل ما نالني نالها
 
وهل يرتجى لزمان النوى ... ذهاب يقصر أذيالها
 
سقى الله أيامنا بالحمى ... وأيام سُعدى، وأطلالها
 
ومن قوله في الرضا بالقضاء والقدر والصبر على النوائب:
 
من عرف الأقدار من ربه ... ساعده النجح وواتاه
 
وظل في برد الرضا رافداً ... منفلتاً من ضر شكواه
 
أما نثر أبي القاسم القشيري، فتغلب عليه التأملات الروحانية، ومنه قوله في الدرس: من أشار إلى الله، ثم رجع بحوائجه إلى غيره، أفقره الله إلى الخلق، ثم نزع له الرحمة من قلوبهم، ومن شهد محل افتقاره إلى الله، ورجع بحوائجه إليه، أغناه الله من حيث لا يحتسب، وأعطاه من حيث لا يرتقب. وقوله في مراتب التوبة: التوبة صفة المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعاُ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ﴾، والإنابة صفة الأولياء والمقربين، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ بِقَلبٍ مُنِيبٍ﴾، والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: ﴿ نِعمَ العَبدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.
 
قال القاضي أبو الحسن علي بن الحسن المَحْكمي الأسداباذي، المولود سنة 393 والمتوفى سنة 470: كنتُ أتفقه بنيسابور فعرض لي عارض منعني من التفقه والتعلم، فذكرته للأستاذ أبي القاسم القشيري رحمه الله تعالى، فقال لي: ادع الله بهذا الدعاء: اللهم لا تعِقْنا عن العلم بعائق، ولا تمنعنا بمانع، واختم لنا بخير، واجعل عواقب أمورنا كلها إلى خير، واكفنا هموم الدنيا وأحزان الآخرة.
 
وتوفي القشيري بنيسابور، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق، ولم يدخل أحد من أولاده بيته، ولا مسَّ ثيابه ولا كتبه إلا بعد سنين احتراماً له وتعظيماً، وحدثت بعد وفاته قصة مع فرسه التي كان يركبها منذ عشرين سنة، وهي ظاهرة معروفة لدى أهل المعرفة بالخيل، فقد ذكر المؤرخون أنه كان يركب فرساً رمادية اللون قد أهديت إليه منذ عشرين سنة لم يركب غيرها، فلما توفي امتنعت عن العلف وماتت بعد إسبوع.
 
ذكرنا أن أبا القاسم القشيري تزوج ابنة أستاذه فاطمة بنت أبي علي الحسن بن علي الدقاق، المولودة سنة 390، ويبدو أنه لم يتزوج عليها فهي أم أولاده جميعاً. وكانت عابدة، قانتة، متهجدة، كبيرة القدر، عالمة محدثة، وتوفيت سنة 480 رحمها الله تعالى.
 
ومن أولاد أبي القاسم القشيري، ابنه الإمام عبد الله المكنى بأبي سعد، الذي سار على خطى أبيه، فكان زاهدا، متألها، متصوفا، كبير القدر، ذا علم وذكاء وعرفان، سمع الحديث النبوي ورواه، وتوفي سنة 477.
 
أما ولده أبو نصر عبد الرحيم، المولود نحو سنة 430، فكان أشبه الناس بأبيه خِلقة كأنه شُقَّ منه شقاً، رباه أحسن تربية، وزقَّه العربية في صباه زقاً حتى برع فيها، وكمل في النظم والنثر، وله الحظ الأوفى من علم الأصول والتفسير، ورزق سرعة في الكتابة حتى كان يكتب كل يوم طاقات، لا تلحقه فيه مشقة.
 
ولما توفي أبوه انتقل إلى مجلس إمام الحرمين الجويني، وواظب على درسه، وصحبه ليلاً ونهاراً، وكان الإمام يعتد به ويستفرغ أكثر اليوم معه، ويستفيد منه بعض مسائل الفرائض، والدور والوصايا، وزار بغداد في طريقه إلى الحج، ووعظ بها، فوقعت بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعية، فاستدعاه الوزير نظام الملك إلى أصبهان إطفاء للفتنة ببغداد، فذهب إليه ولقي منه إكراما، وعاد إلى نيسابور، فلازم الوعظ والتدريس إلى أن توفي بها سنة 514.
 
وأما ابنه أبو سعيد عبد الواحد، المولود سنة 418 والمتوفى 594، فأحضره والده مجالس الحديث وهو في الرابعة من عمره، وكان موصوفاً بالعلم والعبادة وتلاوة القرآن، وصار في آخر عمره سيد عشيرته، وكان مثل والده أديباً يقرض الشعر، ومن ذلك قوله:
 
لعمري لئن حل المشيب بمفرقي ... ورثَّت قوى جسمي ورقَّ عظامي
 
فان غرام العشق باق بحاله ... إلى الحشر منه لا يكون فطامي
 
وله في صديق غير صدوق:
 
ربَّ أخ سُمتُه فراقي ... وكنت من قبل أصطفيهِ
 
وذاك لأني ارتجيت رشدا ... فلاح أن لا فلاح فيه
 
وكان في أحفاد القشيري علماء ومحدثون منهم حفيده هبة الرحمن بن عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري، الذي صار خطيب نيسابور ومسندها، والمولود سنة 359 والمتوفى سنة 546، وقد سمع من جدّه حضوراً ومن جدّته فاطمة، وطائفة من المحدثين، وروى الكتب الكبار كالبخاري ومسند أبي عوانة.
 
ومنهم سبطه وابن ابنته أَمَة الرحيم الحافظ عبد الغافر الفارسي، عبد الغافر بن إسماعيل، المولود سنة 451 والمتوفى سنة 529، و كان إماماً في الحديث والعربية، أخذ عن جده وجدته وخاليه، وروى عنهم، وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ثم خرج من نيسابور إلى خوارزم وغزنة ومنها إلى الهند، ثم رجع إلى نيسابور وولي الخطابة بها، وصنف كتباً عديدة منها المُفهِم لشرح غريب صحيح مسلم، والسياق لتاريخ نيسابور.
 
ومنهم كذلك حفيدته لابنته دردانة بنت عبد الغافر بن إسماعيل، المولودة سنة 446 والمتوفاة سنة 530، سمعت من جدها كذلك وروى عنها الإمام ابن حجر وأبو سعد السمعاني.
 
وزوَّج أبو القاسم القشيري ابنته الكبرى لابن خاله أبي عمرو عبد الوهاب بن عبد الرحمن السُّلمي المائقي، وهو من أسباط أبي علي الدقاق، وكان على مثال حميه مشهوراً بين شيوخ الطريقة ووجوه المتصوفة، له كلمات وأشعار بالفارسية في بيان الطريقة والمجاهدات والرياضات، وكانت وفاته في حدود سنة 470

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين