حدث في السابع عشر من ربيع الأول وفاة حافظ إبراهيم

في السابع عشر من ربيع الأول من سنة 1351=21/7/1932 توفي في القاهرة، عن 63 سنة، الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، شاعر  النيل وصنو أمير الشعراء أحمد شوقي رحمهما الله.

 

ولد محمد حافظ بن إبراهيم فهمي المهندس سنة 1287=1872 في مدينة ديروط في أسيوط، وكانت ولادته على ظهر سفينة كانت راسية في النيل، فقد كان والده أحد المهندسين المشرفين على قناطر ديروط المقامة على النيل، وتوفي أبوه بعد 4 سنوات من ولادته، فرحلت به أمه هانم بنت أحمد البورصه لي، التركية الأصل، من الصعيد إلى خاله في القاهرة المهندس محمد نيازي، إذ كان جده لأمه قد توفي قبل ولادة حافظ إبراهيم، وكان الجد يعمل أميناً للصرة المصرية وهي الأموال والإعانات التي ترسل للحجاز من أوقاف الحرمين في مصر، ولكنه كان نظيف اليد أمين الذمة، فترك أسرته نموذجاً لكثير من الأسر المصرية التي تكافح من أجل لقمة العيش الشريف، ولعل ذلك السبب وراء اختياره أن يكون بيت عائلته في حي المغربلين الشعبي العريق بعيداً مساكن عن علية القوم وسادتهم، وهو أمر كان له أثر كبير في شخصية حافظ إبراهيم وشعوره بمعاناة ونبض جماهير مصر.

 

درس حافظ إبراهيم في المدرسة الخيرية بالقلعة وهي أشبه بالكُتّاب، ثم التحق بمدرسة القريبة الابتدائية، ولما بلغ الدراسة الثانوية التحق بمدرسة المبتديان ثم المدرسة الخديوية، والتقى حافظ في المدرسة الخيرية بالزعيم المصري مصطفى كامل، وكانت والدتاهما ابنتي خالة، وهو لقاء لم يدم طويلاً، بيد أنهما سيجتمعان بعد سنين في الجهاد الوطني ضد المستعمر البريطاني.

 

وانتقل خال حافظ إلى وظيفة تنظيم طنطا، فانتقل معه ربيبه، وألحقه بمدرسة طنطا الثانوية، ولكن الغلام حافظ كان يتغيب عن المدرسة كثيراً لأنه لم يجد فيها ميوله الطبيعة، ووجد ما يلائمه في الجامع الأحمدي في طنطا، حيث تلقَّى في حلقات دروس علمائه علوم اللغة والفقه والشريعة، واجتذبته اللغة وآدابها، وقرأ دواوين الشعراء القدامى، وكان الله قد حباه بذاكرة واسعة، فكان يحفظ ما يطالعه من كتب الأدب والشعر دون تكلف أو جهد، وقد ذكر أنه في حياته قرأ كتاب الأغاني عدة مرات.

 

وما لبث الفتى أن بدأ في قرض الشعر، وأعجب بنظمه أدباء وشيوخ طنطا، وأدركوا أنهم أمام شاعر له مستقبل كبير في ميدان الشعر، قال الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار عن لقائه بحافظ إبراهيم في سنة 1305=1888، والشيخ إذ ذاك طالب في المعهد الأحمدي في طنطا: رأيت إخواني وأصدقائي يلوذون بفتى غض الإهاب جديد الشباب ... قدموه باسم الأديب الشاعر محمد حافظ إبراهيم، ولم تمر إلا عشية أو ضحاها حتى أحسست من نفسي ميلاً إليه بجاذب من الأدب الذي كان نُهمة نفسي، حتى آل ذلك إلى غرام بأدبه، وما يشتمل عليه من ظُرف ولطف محاضرة، وبديهة مطاوعة، وسرعة خاطر، وحضور نادرة.

 

ولكن خاله المهندس عزَّ عليه أن ينصرف ابن أخته عن الدراسة ويهملها، ويضيع أوقاته في الأدب والشعر، وتلك حرفة لا يجنى صاحبها منها إلا الفقر والبؤس، اللهم إن كان ذا ثروة أو جاه، ويبدو أن الخال قد زاد من تأنيبه وتوبيخه لابن أخته وتبصيره بالانتباه لمستقبله والحصول على حرفة أو شهادة تؤمن له الدخل المعقول، كما هو شأن خاله وشأن والده من قبل، وعزا الشاب حافظ هذا إلى ضيق خاله بمصروفه، فأعلن تمرده وقطيعة خاله، في بيتين:

 

ثقلت عليك مؤونتي ... إني أراها واهية

 

فافرح فإني ذاهب ... متوجهٌ في داهية!

 

ووجد الشاب حافظ مخرجاً مع الشيخ محمد الشيمي أحد كبار المحامين في طنطا الذي جعله مساعداً له، لما لمس فيه من فصاحة اللسان وحضور البديهة وقوة الحجة، ولم يكن للمحاماة يومئذ قانون يقيدها، بل كانت مهنة بمارسها كل من آنس في نفسه صلاحاً لها، ولكن حافظ اختلف معه وتركه، وترك له بيتين:

 

جراب حظي قد أفرغتُه طمعاً... بباب أستاذنا الشيمي ولا عجبا

 

فعاد لي وهو مملوء، فقلت له: ... مما؟ فقال: من الحسرات وا حَرَبا!

 

وأخذ حافظ إبراهيم  ينتقل في المحاماة من مكتب إلى مكتب، يقوده طبعه الملول، وفي تلك الأثناء تزوجت شقيقته عائشة من المهندس محمد كاتي العامل في الجيش المصري، ولكنها توفيت بعد فترة ليست بالطويلة، مخلفة أربعة أبناء آلت تربيتهم إلى أم حافظ. ونحن مدينون للأستاذ محمد إسماعيل كاتي في عرضه لكثير من المعلومات حول حافظ إبراهيم في تقدمته للطبعة الجديدة من ديوانه.

 

وساء صهرَ الأسرة حالُ حافظ وتقلبه، كما ساء ذلك خالَه من قبل، فعرض عليه أن يلحقه بالمدرسة الحربية، ولم تكن تشترط أكثر من الشهادة الابتدائية، فانساق حافظ لنصيحته والتحق بالمدرسة الحربية، وتخرج فيها سنة 1309= 1891 برتبة ملازم ثان في سلاح المدفعية، ثم نقل لمدة تقرب من سنة ونصف إلى الشرطة التي كانت تستمد ضباطها من الجيش، ثم أعيد للجيش، وأرسل إلى السودان قرابة سنتين في حملة قادها اللورد كتشنر لانتزاع السودان من الحركة المهدية. 

 

وكانت مصر في هذه الفترة تغلي وتفور تحت وطأة الاحتلال البريطاني الذي وقع في سنة 1882 رداً على ثورة عرابي في الظاهر، وطمعاً في السيطرة على قناة السويس في الواقع، وكان حافظ بدافع من انتمائه لصميم الشعب المصري، يقف مع الضباط المصريين في الجيش المصري ومطالبتهم بمساواتهم بزملائهم من الأتراك والشركس، وتقدم في عدة مرات ليدافع عنهم أمام المحاكم العسكرية بحكم خبرته السابقة في المحاماة، وفي سنة 1899 حدث عصيان في فرقة من فرق الجيش في السودان ، فأخمده البريطانيون بالقوة، وأحالوا زعمائه إلى المحاكم العسكرية التي حكمت بسجن بعضهم وإحالة بعضهم إلى الاستيداع، وكان من هؤلاء الضابط حافظ إبراهيم.

 

وأمضى حافظ إبراهيم في الاستيداع فترة زادت على 3 سنوات، ثم طلب بعدها إحالته على التقاعد، لأنه كما قال: مكث في خدمة الجيش 12 سنة لم يحصل فيها على غير رتبة ملازم أول، والتمس إحالته على المعاش ليتمكن من وجود شغل له يقوم بنفقته ونفقة عائلته الكبيرة التي لا يقوم مرتب الاستيداع البالغ 4 جنيهات بلوازمها، وهكذا أحيل شاعرنا الكبير على التقاعد في سنة 1321=1903.

 

وفي تلك السنة نشر حافظ إبراهيم ديوانه، وقدم له بمقدمة بليغة، واستقبل الأدباء ديوان حافظ ومقدمة ديوانه استقبالاً رائعاً، وأجزلوا له الثناء، وكانت مقدمته حديث الأدباء في حينها، وطال حولها الجدل وشكَّك بعضهم في أنه كاتبها، وقالوا إنها من أسلوب محمد المويلحي.

 

وفي تلك السنة كذلك أصدر حافظ إبراهيم ترجمته لقصة البؤساء التي ألفها بالفرنسية الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هيجو، وأهداه حافظ إبراهيم إلى الأستاذ الإمام محمد عبده، وقال في الإهداء: إنك موئل البائس، ومرجع اليائس، وهذا الكتاب قد ألمَّ بعيش البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور، وسماه كتاب البؤساء... وقد عُنيت بتعريبه لما بين عيشي وبين عيش أولئك البؤساء من صلة النسب... ورأيت أن أرفعه إلى مقامك الأسنى للتيمن باسمك، والتشرف بالانتماء إليك. وطُبِع الكتاب على نفقة أحمد حشمت باشا مدير الدقهلية، الذي كان من أنصار اللغة العربية ومحبى آدابها، تشجيعاً لحافظ إبراهيم، الذي ترجم كذلك في سنة 1913 بالاشتراك مع خليل مطران كذلك كتابا عنوانه: الموجز في علم الاقتصاد.

 

وكانت مصر تغلي وتتحفز للخلاص من النير البريطاني، وكان زعماؤها مجمعين على طلب الاستقلال، ملوحين بالثورة، وكان حافظ يكره المحتل البريطاني بطبعه من ناحية، ولتجربته معه في أيام الجندية من ناحية أخرى، فصار شاعر الوطنية والقضايا الاجتماعية، يعبر في قصائده إلى حد كبير عن نبض الشارع المصري، واحتضنه كبار زعماء البلاد من الوطنيين، إعجاباً بشعره الوطني وسيرته كضابط حر شجاع، ووجد حافظ إبراهيم كل حَدَب من زعماء السياسة مثل الشيخ محمد عبده، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، وكان من أسباب اتساع أفقه وثقافته حضوره مجالسهم وتعلمه مما يطرح فيها من الأمور العلمية والاجتماعية والسياسية، ما ظهر أثره واضحا في شعره.

 

وكان لاتصال حافظ إبراهيم بهؤلاء الزعماء أثر هام في انتشار شعره وعلو مكانته بين شعراء العصر، وفي المقابل كان هو دعامة من دعائم زعامتهم الشعبية، فقد كان حافظ إبراهيم يختلف عن صنوه شوقي في أنه من أبناء الشعب في نشأته ومعيشته، يحس بمشاعرهم ويعبر عن آرائهم وآمالهم، وعلى عكس شوقي كان حافظ إبراهيم بديع الإلقاء ينشد قصائده بصوته الجهوري، وقد تأثر في ذلك بالشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي نزيل مصر قرابة 40 سنة، والمتوفى بها سنة 1354=1935.

 

وكان لحافظ إبراهيم قبول واسع لدى العامة رغم نسجه على منوال المتقدمين من حيث الأسلوب، قال الأستاذ محمود تيمور: وأذكر أني كنت في عهد الصبا أحرص على شهود المحافل التي يلقي فيها شاعر النيل حافظ إبراهيم قصائده الشعبية في الشؤون الاجتماعية والسياسية العامة، وكان كعهده يؤثر أناقة اللفظ وجزالة العبارة حتى ليفتقر النشء المتأدبون في فهم كلماته إلى معجم، وأنا يومئذ قليل الزاد من الفصحى، ولكني على الرغم من ذلك ما أكاد استمع إلى حافظ ينشد، حتى أحس معانيه تنساب إلى نفسي انسيابا، وإذا أنا أدامجه وأسايره بعاطفتي وشعوري؛ ذلك لأن الموضوعات التي يعالجها كانت تشغل بالنا، ولم يكن جمهور حافظ من المثقفين خاصة، وإنما كان خليطا من طبقات الشعب، يفهمون عنه، ويتأثرون به، ويصفقون له في صدق وإيمان، ولست أنسى حفلا شعبياً شهدته في حديقة الأزبكية لذلك العهد، فأنشد فيه حافظ إحدى روائعه، وكان بين جمهور السامعين كثير من ذوي الجلابيب، وهم يطربون للشعر، ويهتاجون بالإنشاد، ويتصايحون في تهلل وإعجاب.

 

ووجد حافظ إبراهيم من الوطنيين الأثرياء كل دعم مادي، ولكنه كان متلافاً من الذين لا يقيمون وزناً للمال، لا يعرف سوى الإنفاق على نفسه، فكان يتخير الأطايب دون اعتبار تكلفتها، ويعطي أصحاب الحاجات ممن يقصدونه ما كان تحت يده من مال، قال محمود عباس العقاد: راتب شهر يعادل عن حافظ راتب يوم. ولذا عاش حافظ إبراهيم دائماً في حاجة للمال وشكوى من الفاقة:

 

ذقت طعم الأسى وكابدت عيشاً ... دون شربي قذاه شرب الحِمام

 

فتقلبت في الشقاء زماناً ... وتنقلت في الخطوب الجسام

 

ومشى الهم ثاقباً في فؤادي ... ومشى الحزن ناخراً في عظامي

 

فلهذا وقفت استعطف الناس على البائسين في كل عام

 

وبعد عودته من السودان تزوج حافظ إبراهيم من إحدى قريبات خاله، ولكن الزواج لم يستمر سوى بضعة أشهر، لم تطق بعدها الزوجة الاستمرار مع طبيعة حافظ التي تسير على سجيتها ولا تعترف بضوابط الحياة الزوجية، ولم يعد حافظ إبراهيم بعد هذه التجربة إلى الزواج أو التفكير فيه، ولكنه كوّن عائلة من وجه آخر فقد كفل طفلة يتيمة رباها في بيته حتى كبرت فزوجها، وربى طفلة أخرى توفيت في حياته وهي كبيرة، ولما توفي خاله المهندس محمد نيازي، ضم حافظ إليه زوجة خاله وصارت القيمة على بيته، ولما توفيت قبل وفاة حافظ بثلاث سنوات، تولى خدمة حافظ خادمُه المخلص حسن، والذي كان بمثابة وزير لماليته المضطربة، فلم يعد حافظ يطمئن إلى سلامة تدبيره الذي كثيراً ما أوقعه في أزمات.

 

وفي سنة 1907 أصدر حافظ إبراهيم كتابه :" ليالي سطيح" وهو كتاب عالج فيه حافظ المساوئ السائدة في المجتمع المصري، وأنشأه على نهج كتب المقامات المسجوعة التي تتخلها بعض المقطوعات الشعرية، ولقي الكتاب عند صدوره ثناء الأدباء في مصر، وقد سبقه من قبل كتاب الأديب محمد إبراهيم المويلحي: حديث عيسى بن هشام.

 

وفي سنة 1329=1911 ساعده أحمد حشمت باشا، وقد صار وزير المعارف، فعينه رئيساً للقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، وبقي يعمل فيها حتى تقاعد منها في سنة 1350=1932، قبل وفاته بخمسة شهور، ويقول الأستاذ أحمد أمين في مقدمته لديوان حافظ إبراهيم: إن هذه الفترة كانت فترة غلب عليها الصمت، ونضب فيها شعر حافظ إبراهيم إلى حد كبير، وذلك حفاظاً على المرتب وخشية من قطع الرزق، ويشير الأستاذ أن هذا هو السبب وراء أن حافظ إبراهيم نشر بعض قصائده دون توقيع وأخَّر نشر بعضها الآخر، وقد أكد هذا الدكتور زكي مبارك، فقال: في ثورة سنة 1919 تخاذل حافظ فلم ينطق بحرف، ودخلت الأزهر ذات مساء فسمعت خطيباً يعيب عليه التخاذل، فعلوت المنبر وفندت اتهامات ذلك الخطيب، وفي اليوم التالي لقيت حافظاً بمنزل محمود باشا سليمان، فقال له حفني بك محمود: هل تعرف يا حافظ بك أن الأستاذ مبارك دافع عنك في الليلة الماضية؟ فأدار حافظ بصره إلي وقال: ماذا تريدون مني؟ قلت: نريد قصائد وطنية. قال: والاعتقال؟ قلت: وما خطر الاعتقال؟ فأجاب في هدوء: لن أجد في المعتقل هذا السيجار، وأشار إلى سيجار في يده. فقلت: لن تكون شاعر مصر الوطني وأنت أسير هذا السيجار البغيض!

 

ولما توفي سنة 1341=1922 الشاعر عبد الحليم المصري، حلمي بن إسماعيل، المولود سنة 1304=1887، وكان الشاعر الرسمي للملك فؤاد، تطلع حافظ إبراهيم لأن يكون هذا المنصب من نصيبه، وهو هوى قديم في نفسه من أيام أحمد شوقي، الذي كان شاعر الخديوي عباس، ولكن ناظر الخاصة الملكية محمد نجيب باشا، لكونه مناوئاً للسعديين، اختار الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي ليكون شاعر الملك، وهو منصب فيه وجاهة وفخَار أكثر مما فيه من المال والنضار.

 

ونشير هنا أن الرافعي لا يعتبر في طبقة حافظ من حيث الشعر، وكان بمثابة تلميذ له، فقد كان أصغر من حافظ بإحدى عشرة سنة، وتوفي بعده بخمس سنين في سنة 1356=1937، وكان بين الرافعي وبين حافظ صداقة مستحكمة دامت 32 سنة، ولما أصدر الرافعي ديوانه في سنة 1906 وعمره 23 سنة، أثنى عليه الأدباء والشعراء، وبعث حافظ إبراهيم إليه أبياتاً جعله فيها ملك القوافي بعد البارودي:

 

فزنْ تاج الرياسة بعد سامي ... كما زانتْ فرائدُه الجبينا

 

وهذا الصولجان فكن حريصاً ... على مُلْكِ القريض وكن أمينا

 

ولما أحيل حافظ إبراهيم على التقاعد، عاد الشعر الوطني والسياسي يجري على لسانه، ومن ذلك قصيدة طويلة في شؤون مصر السياسية، وتعنت البريطانيين، ومن القصيدة:

 

قد مر عام يا سعاد وعامُ ... وابن الكنانة في حماه يضام

 

صَبَّوا البلاء على العباد فنصفهم ... يجبي البلاد ونصفهم حكام

 

لم يبق فينا من يمني نفسه ... بودادكم فودادكم أحلام

 

أمن السياسة والمروءة أننا ... نشقى بكم في أرضنا ونضام

 

إنا جمعنا للجهاد صفوفنا ... سنموت أو نحيا ونحن كرام

 

وكان رئيس الوزراء في مصر آنذاك إسماعيل صدقي باشا، والذي يقول عنه الأستاذ الزركلي في الأعلام: في سيرته قسوة وعنف... وولي رئاسة الوزارة سنة 1930 - 1933 فغير الدستور المصري، وأنشأ حزبا سماه (حزب الشعب) وفتك ببعض العمال... وكان الجمهور المصري يمقت حكمه وحاول بعضهم اغتياله، وكان قوي الصلة بالبنوك والشركات المالية، فانفرد بآراء مستنكرة في بعض القضايا القومية. فقال فيه حافظ إبراهيم:

 

ودعا عليك اللهَ في محرابه ... الشيخُ والقسيس والحاخام

 

اللهم أحي ضميره ليذوقها ... غُصصاً وتنسِفَ نفسه الآلام

 

ويهجو الملك فؤاد الأول هجاءً شديداً، ويطلب منه أن يكف عن السير على نهج الخديو إسماعيل في التبذير والتفليس وتخريب البلاد، وأن يترك شيئاً لأولاده ليخربوه من بعده، فيقول:

 

يا مليكاً برغمه يلبس التاج ويرقي لعرشه مملوكا

 

إن أتمّت يداك تخريب مصر ... فلقد مهد الخراب أبوكا

 

أبقِ شيئاً إذا مضيت ذميماً ... عن قريب يأتي عليه بَنوكا

 

توفي حافظ إبراهيم في بيته الصغير بحي الزيتون بالقاهرة، وشيع إلى قبره في حشد متواضع من الأصدقاء والمعجبين، ولكونه محسوباً على الوفديين والأحرار الدستوريين فقد حالت الاعتبارات السياسية دون أن تسبغ على جنازته أية صفة رسمية، ولم يُقم له أي حفل تأبين لائق بشاعر النيل، وكان من حقه أن تشترك في جنازته الأمة كلها شعباً وحكومة، ولكن رئيس الوزراء إسماعيل صدقي كان قاسياً عنيفاً قريباً من المستعمر، ممقوتاً من الشعب، فما كان ليرغب في أن يحتفل بشاعر مصر القومي الذي عبر عن مشاعر الشعب في الحرية والاستقلال، وتغيرت الوزارة بعد فأقامت مصر للشاعر حفلاً يليق بمقامه ويفي بحقه.

 

كان حافظ إبراهيم مهذب النفس، راوية، سميرا، مرحا، حاضر النكتة، متساهلاً في أمور الدين، حتى أن الشيخ محمد عبده كان يلام على اصطفائه له واصطحابه إياه، وقد ذكر حافظ أن الشيخ كان يقسره على شعائر الدين، ويبدو أنه لم يفلح في جره إلى الطريق المستقيم، فقد روى الدكتور زكي مبارك عن الشيخ محمد عبده قوله: لقد صحبني حافظ إبراهيم عشرة أعوام فما استطعت أن أهديه، ولا استطاع أن يضلني!

 

من ناحية أخرى كان حافظ إبراهيم فوضوياً إلى أقصى حد، قال الأستاذ أحمد حسن الزيات: كان لا يدخل في نظام، ولا يصبر على جهد، ولا يرغب في عمل، ولا يطمئن إلى تبعة، وإنما يضطرب نهاره من قهوة إلى قهوة، ويتقلب ليله من مجلس إلى مجلس؛ وأينما كان كان الأنس الشامل، والظرف الناصع، والأدب الغض، والحديث المشقق الذي يمتزج بالروح، ويغمر بالنشوة جوانب النفس... ولكنه حين أريد على ترجمة البؤساء، وكتاب الأخلاق، ووكالة دار الكتب، أدركته علة النشأة، فقعدت به عن التمام، وخذلته عن الاحادة، وشلته عن العمل.

 

ولا يتسع المقام لاستعراض شعر حافظ إبراهيم في أبوابه المختلفة، فنقتصر على بعضه المفيد في سياق التاريخ، ونمهد لهذا بالقول أن الحركة الوطنية في مصر بعد الاحتلال البريطاني كانت واحدة الهدف، موحدة الزعامة، يمثلها الحزب الوطني وزعيمه مصطفى كامل، ثم ما لبث التصدع أن أدرك الحزب الوطني بعد وفاة مصطفى كامل سنة 1326=1908، ونفي محمد فريد من مصر سنة 1912، فظهر حزب الأمة الذي كان من رجاله سعد زغلول، ثم خرج عنه سعد زغلول وألف حزب الوفد المصري، وما لبث بعض رجال الوفد أن انشقوا عليه وألفوا حزب الأحرار الدستوريين، فشن الوفد حرباً على خصومه لا هوادة فيها، فترة من الزمن توترت فيها سياسة مصر توتراً شديداً، ووجد المستعمر البريطاني متنفساً في هذا النزاع الذي لم يكن بعيداً عنه، ومرت على ذلك فترة ليست بالقصيرة، ثم آب الزعماء للاتحاد في ائتلاف لم يدم طويلاً بعد موت سعد زغلول سنة 1346=1927 وعبد الخالق ثروت سنة 1347=1928، وفي هذا الاتئلاف قال حافظ قصيدة منها:

 

كان في الأنفس جرحٌ من هوى ... نظر الله إليه فالتأم

 

فنشدنا العيش حراً طلقاً ... تحت ظل الله لا ظلِّ الأمم

 

وحقيقٌ أن يوفّى حقه ... مَن بحبل الله والصبر اعتصم

 

أفةُ المرء؛ إذا المرء ونى ... آفةُ الشعب؛ إذا الشعب انقسم

 

وفي كل تلك التقلبات كان حافظ إبراهيم حقاً شاعر الوطنية المصرية، وفوق الخصومات الحزبية، وعلى وفاق مع كل الأحزاب وزعمائها، وجميعهم حريص على وده ومحبته، يلقي قصائده في محافل هذا الحزب وذلك دون أن يستتبع ذلك خصومة أو عداوة من طرف أو آخر.

 

نختم باستعراض بعض من قصائد حافظ إبراهيم الوطنية، وأول ما يلفت نظرنا فيها النقد اللاذع المر للوضع السياسي والاجتماعي في مصر، ولضعف الهمم وقلة الاكتراث، وهو نقد المحب المتألم، الذي أملق من الأمل في جيل الكهول والكبار، فتطلع إلى الشباب وصور لهم حالة البلاد مستنهضاً هممهم:

 

أنا لولا أن لي من أمتي ... خاذلاً؛ ما بت أشكو النُوبا

 

أمةٌ قد فتّ في ساعدها ... بغضُها الأهل، وحبُّ الغربا

 

تعشق الألقاب في غير العلا ... وتفدّي بالنفوس الرتبا

 

وهي والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا

 

لا تبالي لعِبَ القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعبا

 

وهو يعيب نظام الامتيازات الاجنبية الذي يسهل للأوروبيين استنزاف خيرات مصر ويحميهم من المساءلة، ويتحدى أبناء قومه الشغوفين بالمفاخرة الجوفاء والاعتزاز بالمال دون الأعمال ويشير لنهضة اليابان الهائلة:

 

وما أرجوه من بلد ... به ضاق الرجاء وبي

 

أروني بينكم رجلاً ... ركيناً واضح الحسب

 

أروني نصف مخترع ... أروني ربع محتسب

 

أروني نادياً حَفِلاً ... بأهل الفضل والأدب

 

وماذا في مدارسكم ... من التعليم والكتب

 

وماذا في مساجدكم ... من التبيان والخطب

 

وماذا في صحائفكم ... سوى التمويه والكذب

 

حصائد ألسن جرت ... إلى الويلات والحرب

 

فهبوا من مراقدكم ... فإن الوقت من ذهب

 

فهذي أمة اليابان ... جازت دارة الشهب

 

فهامت بالعلا شغفاً ... وهمنا بابنة العنب

 

وهو يستغرب من المستنكرين أن يستبد المستعمر ويتصدى لحركة الاستقلال والحرية:

 

أنا لا ألوم المستشار ... إذا تعلل أو تصدى

 

فسبيله أن يستبد ... وشأننا أن نستعدا

 

وقال ينتقد ظاهرة اجتماعية مستفحلة هي ظاهرة الأضرحة والأولياء والنذور التي تقدم لها والله أعلم أين منتهاها:

 

أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات

 

للسيد البدوي ملكٌ دخله ... خمسون ألفاً والحظوظ هبات

 

وأنا أعذب في الوجود وليس لي ... يا أم دَفْر ما به أقتات

 

من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أرجائها الصلوات

 

يسعى الأنام لها ويجري حولها ... بحر النذور وتقرأ الآيات

 

ويقال هذا القطب باب المصطفى ... وسيلة تقضي بها الحاجات

 

وفي الختام قصيدة له يخاطب سعد زغلول في موضوع التفاوض على الاستقلال مع البريطانيين:

 

الشعب يدعو الله يا زغلول ... أن يستقل على يديك النيلُ

 

أسطولنا الحق الصُراح وجيشنا الحجج الفصاح وحربنا التدليل

 

لا تقرب التامِيز واحذر وِرده ... مهما بدا لك أنه معسول

 

الكيدُ ممزوجٌ بأصفى مائه ... والختْلُ فيه مذوّبٌ مصقول

 

كم واردٍ يا سعد قبلك ماءَه ... قد عاد عنه وفي الفؤاد غليل

 

القوم قد ملكوا عِنان زمانهم ... ولهم روايات به وفصول

 

ولهم أحابيل إذا ألقوا بها ... قنصوا النُهى فأسيرهم مخبول

 

فاحذر سياستهم وكُن في يقظة ... سعدية، إن السياسة غُولُ

 

إن مثّلوا فدعِ الخيال فإنما ... عند الحقيقة يسقط التمثيل

 

الشُبر في عرف السياسة فرسخٌ ... واليوم في فَلَك السياسة جيل

 

ولكل لفظ في المعاجم عندهم ... معنى يقال بأنه معقول

 

جمعوا عقاقير الدهاء وركبّوا ... ما ركبّوه وعندك التحليل

 

فادفع وناضل عن مطالب أمة ... يا سعد أنت أمامها مسؤول

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين