حدث في الرابع من رمضان

محمد زاهد أبو غدة

 في الرابع من رمضان من سنة 666 هجرية الموافقة 1268 ميلادية فتح الملك الظاهر بيبرس البندقداري مدينة أنطاكية، وتقع اليوم في جنوبي تركيا، بعد أن بقيت مع الصليبين قرابة 170 عاماً، وذلك في حملة مباغتة اتسمت باتباع سياسة الأرض المحروقة وإلقاء الذعر في قلوب العدو مقاتليه ومدنييه، ولعله تأثر في ذلك بالمغول الذين انتصر عليهم قبل بضعة سنوات، وفي ما يلي مستخلص من الروايات التاريخية عن ذلك:
لما رحل السلطان الملك الظاهر بيبرس عن طرابلس لم يطلع أحدا على الجهة التي يقصدها، فتوجه إلى حمص في سابع وعشرين شعبان، وأمر ببناء مسجد بحمص، ولما وصل إلى حماة رتب العساكر ثلاث فرق: فرقة صحبة الأمير بدر الدين الخزندار، وفرقة مع الأمير عز الدين إيغان، وفرقة صحبة الركاب السلطاني.
فتوجه الأمير بدر الدين الخزندار إلى بلدة السويدية على ساحل البحر، وتوجه الأمير عز الدين إيغان إلى حصن دربساك، فقتلوا وأسروا، وتوافوا جميعهم بأنطاكية، ونزل السلطان أفامية، ومنها إلى جسر تحت الشغر وبكاس، وأصبح مغيراً على أنطاكية وذلك في مستهل شهر رمضان.
وارتحلنا إلى أنطاكية فنزلنا من غربيها على سفح الجبل، وتواصلت العساكر إليها، ونزل السلطان عليها بكرة يوم الجمعة ثالث شهر رمضان سنة 666، وخرج منها جماعة فيهم كُنْد اصطبل Constable of Antioch عمّ صاحب سيس، وكانت عاصمة الأرمن حينها، وتسمى اليوم قوزان جنوبي أضنة، فالتقوا مع الجاليش - مقدمة قلب الجيش - فاستظهر الجاليش عليهم، وأسر الكندَّ جنديٌّ من أجناد الأمير الأَجلِّ شمس الدين آقسنقر الفارقانيّ، يسمّى المظفري، وأحضره إلى السلطان، فأمنّه السلطان وأحسن إليه، وأعطى المظفري عشرة طواشّية، وأمره بحمل رنك - أي شارة النبالة - كند اصطبل، فحمل رنكه على سنجقه إلى أن مات.
ولما حضر كند اصطبل إلى السلطان رآه رجلا عاقلا، فسأل أنه يدخل إلى أنطاكية ويتحدّث مع أهلها ويحذرهم وينذرهم، فجرى السلطان على عادته في الإنذار قبل المهاجمة، فسير كند اصطبل من أحضر ولده رهينة، ودخل البلد وتحدث، وخرج مع جماعة من القسيسين والرهبان، وأقاموا يترددون ثلاثة أيام فظهر منهم قوة نفس وخوف من صاحبهم البرنس، ولم يقبلوا التسليم.
فزحف عليها السلطان وقاتل أهلها قتالا شديدا، وتسور المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة، ونزلوا المدينة ففر أهلها إلى القلعة، ووقع النهب والقتل والأسر في المدينة، فلم يرفع السيف عن أحد من الرجال وكان بها فوق المئة ألف، وأحاط الأمراء بأبواب المدينة حتى لا يفر منها أحد، واجتمع بالقلعة من المقاتلة ثمانية آلاف سوى النساء والأولاد، فبعثوا يطلبون الأمان فأمنوا، وصعد السلطان إليهم ومعه الحبال، فكتفوا وفرقوا على الأمراء، والكُتَّاب بين يدي السلطان ينزلون الأسماء، وكان بها طائفة من الأسرى فخلصهم الله.
وكانت أنطاكية للبرنس بيموند Bohemond VI بن بيموند، وله معها طرابلس، وهو مقيم بطرابلس، وكُتِبت البشائر بالفتح إلى الأقطار الشامية والمصرية والفرنجية، وأمر السلطان الظاهر بيبرس بإرسال رسالة إلى صاحب أنطاكية وهو يومئذ مقيم بطرابلس، كتبه القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالى، والرسالة مليئة بالتهكم والتقريع، وهي شديدة الشبه برسائل المغول، ومما جاء فيها:
قد علم القومص الجليل المبجل، المعزز الهمام، الأسد الضرغام بيموند، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده، ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من على بساط الأرض ودارت الدوائر على كل دائر، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قتلت الرجال واستخدمت الأولاد وتملكت الحرائر، وكيف قطعت الأشجار ولم يترك إلا ما يصلح للأعواد والمنجنيق والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والحواشي، وكيف استغنى الفقير وتأهل العازب واستخدم الخديم وركب الماشي، هذا وأنت تنظر نظر المغشي عليه من الموت، وإذا سمعت صوتاً قلت فَزِعَاً: عليَّ هذا الصوت!
وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخرناك وما كان تأخيرك إلا لأجل معدود، وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت فيها ماشية إلا وهي لدينا ماشية، ولا جارية، إلا وهي في ملكنا جارية، ولا سارية، وهي بين أيدي المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو منك مفقود، ولا منعت تلك المغاير التي هي في رؤوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التي هي في التخوم مخترقة، وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا نبعد عنك، وإن بعدنا فسنعود على الأثر، وها نحن نعلمك بما تم، ونفهمك بالبلاء الذي عمّ:
كان رحيلنا عنك عن طرابلس يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان، ونزولنا أنطاكية في مستهل شهر رمضان، وفي حالة النزول خرجت عساكرك للمبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كند اصطبل، فسأل في مراجعة أصحابك، فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك، وأعيان أعوانك، فتحدثوا معنا، فرأيناهم على رأيك من إتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وأن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر الله عليهم الموت، رددناهم وقلنا: نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا هو الأول في الإنذار والآخر، فرجعوا متشبهين بفعلك، ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورِجُلِك
ففي بعض ساعة مرّ شأن المرء شان، وداخل الرهب الرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان، وفتحناها بالسيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شئ من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شئ منهم ومنها، فلو رأيت خيّالتك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنّهابة فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وداماتك وكل أربع منهنّ تباع، فتشترى من مالك بدينار، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان وقد تركت كل منهما وزالت، لكنت تقول: يا ليتني كنت ترابا، ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفئ تلك النيران من ماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من مغانيك، ومراكبك وقد أخذت في السويدية بمراكبك، فصارت شوانيك من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذي أنطاك أنطاكية منك استرجعها، والربّ الذي أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض اقتلعها.
ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد الله منك ما كنت قد أخذته من حصون الإسلام، وهو دركوش، وشقيف كَفْر دبين وجميع ما كان لك في بلاد أنطاكية، واستنزلنا أصحابك من الصيّاصي، وأخذناهم بالنواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبقى شئ يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فها هو أجراها بما سفكناه فيه دما.
وكتابنا هذا يتضمن بالبشرى لك بما وهبك الله من طول العمر و السلامة، بكونك لم يكن لك في أنطاكية في هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت فيها فتكون إما قتيلا وإما أسيرا، وإما جريحا وإما كسيرا، وسلامة النفس هي التي تفرح الحيّ إذا شاهد الأموات، ولعل الله ما أخّرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات، ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولما لم يقدر أحد أن يباشرك بالبشرى وسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشرناك، لتتحقق الأمر على ما جرى، وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذّب لنا خبرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرنا مخبرا.
وسلم السلطان القلعة إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار والأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وأمر بإحضار المغانم لتقتسم، وركب وأبعد عن الخيام وحمل ما غنمه وما غنمته مماليكه وخواصه، وقال: والله ما خبأت شيئا مما حُمِلَ إليّ ولا خليت مماليكي يخبئون شيئا، ولقد بلغني أن غلاماً لأحد مماليكي خبأ شيئاً لا قيمة له فأدبته الأدب البالغ، ويتبقى لكل أحد منكم أن يخلص ذمته، وأنا أحلّف الأمراء والمقدمين، وهم يحلّفون أجنادهم ومضافيهم، فأحضر الناس الأموال والمصاغ الذهب والفضة حتى صارت تلَّاً بها، وقسمت في الناس، وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه، وقصَّر الناس في إحضار الغنائم فعاد السلطان مُغضَبا، فلم تزل الأمراء به يلتزمون بالاجتهاد والاحتراز ويعتذرون إليه، حتى وقف على فرسه وما ترك شيئا حتى قسمه.
وأمر السلطان بإحراق قلعة أنطاكية فأحرقت، وأما ما خصه من الغنائم فإنه أفرده وأرصده لعمارة الجامع الذي أمر بإنشائه بالحسينية، فصرف عليه.
وأما كند اصطبل فإن السلطان أطلقه، وأطلق أهله وأقاربه، وفسح له في التوجه إلى سيس.
وهذه أنطاكية هي قاعدة العواصم، وذكرها الله في سورة ياسين في القرآن الكريم بقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} وبانيها أنطياخس وإليه تنسب، وهي مدينةٌ عظيمة، مسافة سورها اثنا عشر ميلاً، وعدد أبراجها مئة وستةٌ وثلاثون برجاً، وشرفاتها أربعٌ وعشرون ألفاً،وفي داخلها جبلٌ وأشجار ووحوش، وماء تجري، وفواكه مختلفة، وقد فتحت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقيت في أيدي المسلمين إلى أن مَلكتها الأفرنج في سنة 491 من واليها ياغِيسيان السلجوقي بخيانة تمت عليه بعد حصار تسعة أشهر، وقتلوا فيها ما يزيد على مئة ألف نفس.
قال ابن بُطلان في رسالة كتبها إلى بغداد إلى أبي الحسين هلال بن المحسن الصابي في سنة 442: وخرجنا من حلب طالبين أنطاكية، وبينهما يوم وليلة، فوجدنا المسافة التي بين حلب وأنطاكية عامرة لا خراب فيها أصلاً، ولكنها أرض تزرع الحنطة والشعير تحت شجر الزيتون، قُراها متصلة ورياضها مُزهرة، ومياهها منفجرة، يقطعها المسافر في بالِ رخِي وأمنِ وسكون، وأنطاكية بلد عظيم ذو سور وفصيل ولسوره ثلاثمئة وستون برجاً يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس، وشكلُ البلد كنصف دائرة قُطرها يتصل بجبل، والسور يصعد مع الجبل إلى تُلته فتتم دائرة، وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرة، وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلُع عليها إلا في الساعة الثانية، وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب، وفي وسطها كنيسة القُسيان وكانت دار قُسيان الملك الذي أحيا ولده بُطرس رئيس الحوارين، وهو هيكل طوله مئة خطوة وعرضه ثمانون، وعليه كنيسة على أساطين، وكان يدور الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة ومتعلمو النحو واللغة، على أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان للساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً اثنتي عشرة ساعة، وهو من عجائب الدنيا.
وهناك من الكنائس ما لا يحَد كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزع، وفي البلد بيمارستان يُراعي، البَطريك المَرضى فيه بنفسه ويدخل المجذمين الحمام في كل سنة فيَغسلُ شُعورهم بيده، ومثل ذلك يفعل الملك بالضعفاء كل سنة ويُعينه على خدمتهم الأجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضُع، وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة أخرى لذاذة وطيبة لأن وقُودها الاَس ومياهها تَسعى سَيحاً بلا كُلفة

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين