حدث في الخامس والعشرين من ربيع الأول

في الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة 436 توفي ببغداد، عن 81 عاماً، الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؛ نقيب الطالبيين في زمانه والإمام في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشاعر الشريف الرضي وأحد كبار أئمة الشيعة في الفقه والحديث مع كونه معتزلي العقيدة.

 
ولد الشريف المرتضى سنة 355، وكان والده الحسين بن موسى الملقب بالطاهر من كبار الطالبيين، وكان سيداً عظيماً مطاعاً ذا هيبة أشد من هيبة الخلفاء، وكان مقرباً من عز الدولة البويهي، وأرسله في بعض سفاراته، ثم قتل عزَّ الدولة ابنُ عمه عضدُ الدولة في سنة 367، وخشي من نفوذ الوالد فاستصفى أمواله، ولكن بهاء الدولة بن عضد الدولة المتوفى سنة 403 رفع من مكانته وقربه إليه، ولقبه بالطاهر والأوحد وذي المناقب.
 
تقلد الوالد نقابة الطالبيين سنة 354 وعزل عنها سنة 362، ثم وليها سنة 364، ثم عزله عنها عضد الدولة البويهي سنة 369 وسجنه بفارس، ثم ولاه إياها للمرة الثالثة الخليفة العباسي الطائع سنة 380 وجمع له معها النظر في المظالم وإمارة الحاج، واستخلف فيها ولديه الرّضي والمرتضى، ولم يزل عليها إلى سنة 396، وتوفي سنة 400 عن 96 عاماً بعد أن أُضِرَّ، ودفن في داره أولاً ثم نقل إلى مشهد الحسين. وعَيَّن بهاءُ الدولة البويهي مكانه في نقابة الطالبيين ابنَه الشريف الرضي الشاعر المشهور ولقبَّه ذا الحَسَبين، ولقَّب في نفس المناسبة المرتضى: ذا المجدين.
 
ووقف الوالد الثُّلث من أمواله وأملاكه على أبواب البِّر، وتصدَّق بصدقات كثيرة، ورثاه أبو العلاء المعري بقصيدته الفائية المذكورة في سَقَط الزَند ومنها:
 
                                                                                                                                                         أنتم ذوو النسب الطهور وطَوْلكم ... باد على الأمراء والأشراف
 
ورثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة منها:
 
سلام الله تنقله الليالي ... وتهديه الغُدو إلى الرواحِ
 
على جدث تشبث من لؤيٍ ... بينبوع العبادة والصلاح
 
فتى لم يرْوَ إلا من حلال ... ولم يك زاده إلا المباح
 
ولا دنست له أُزُر لزور ... ولا علقت له راحٌ براح
 
خفيف الظهر من ثقل الخطايا ... وعريان الجوارح من جناح
 
مسوق في الأمور إلى علاها ... ومدلول على باب النجاح
 
من القوم الذين لهم قلوب ... بذكر الله عامرة النواحي
 
بأجسام من التقوى مِراض ... لنصرتها وأديان صحاح
 
وأخوه الأصغر هو الشريف الرضي الشاعر المشهور، محمد بن الحسين، صاحب القصائد المطولة التي جعلت بعض نقاد الأدب يعدونه أشعر قريش من حيث غزارة شعره وكثرة قصائده، وولد ببغداد سنة 359، وتوفي سنة 406، ولم يحضر المرتضى جنازته ودفنه إذ لم يطق أن ينظر إلى أخيه ميتاً من شدة حزنه عليه، وتقلد الشريف المرتضى بعد وفاة أخيه الحج والمظالم ونقابة نقباء الطالبيين، وجميع ما كان لأخيه، وجُمِعَ الناس لقراءة عهده في الدار الملكية وحضر ذلك فخر الملك البويهي والأشراف والقضاء والفقهاء.
 
درس الشريف المرتضى وأخوه الرضي على عالم الشيعة في عصره، أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، المتوفى سنة 413، المعروف بابن المعلم والملقب بالشيخ المفيد، وهو صاحب تصانيف كثيرة، وكان له مجلس نظر بداره يحضره كافة العلماء، وقال المفيد إنه رأى في نومه فاطمة الزهراء رضي الله عنها ليلةً ناولته صبيين فقال له: خذ ابنيَّ هذين فعلمهما، فلما استيقظ وافاه الشريف أبو أحمد ومعه ولداه الرضي والمرتضى فقال له: خذهما إليك وعلمهما، فبكى وذكر القصة.
 
وحضر أستاذُه المفيد يوماً درسَ تلميذه المرتضى الذي قام من موضعه وأجلسه فيه، وجلس بين يديه، فأشار المفيد بأن يدَّرس في حضوره، وكان يعجبه كلامه إذا تكلم، ولما توفي رثاه المرتضى فقال:
 
من لفضل أخرجت منه خبيئاً... ومعان فضضت عنها ختاما
 
من ينير العقول من بعد ما كنا... هموداً ويفتح الأفهاما
 
من يعير الصديق رأياً إذا ما... سله في الخطوب كان حساما
 
وكان الشريف المرتضى عالماً بالقراءات، قرأ على الحسين بن عقبة بن عبد الله البصري الضرير، المتوفى سنة 441، وكان من أعيان الشيعة وأذكياء بني آدم، قرأ المرتضى عليه القرآن وحفظه وله 17سنة، ووفقاً لابن حزم في كتابه الملل والنِحَل فإن الشيعة الإمامية يعتقدون أن القرآن قد جرى عليه تبديل وفيه زيادة ونقص، ولكن الشريف المرتضى خالفهم وكفَّر من قال ذلك.
 
وكان المرتضى قد قرأ مع أخيه الرضي، وهما طفلين، على الأديب الحلبي الشهير ابن نباته، عبد الرحيم بن محمد المولود سنة 335 والمتوفى سنة 374، وصاحب الخطب المنبرية المشهورة.
 
وحدث المرتضى عن سهل بن أحمد الديباجي المتوفى سنة 385 عن 91 عاماً، وهو من محدثي الشيعة غير الموثوقين لدى علماء الحديث من أهل السنة، ودرس الأدب على أبي عبد الله المرزباني البغدادي، محمد بن عمران المولود سنة 296 والمتوفى سنة 384، وكان صاحب أخبار ورواية للآداب، وصنف كتبا كثيرة ضخمة في أخبار الشعراء المتقدمين والمحدثين على طبقاتهم، وكتبا في الغزل والنوادر وغير ذلك، وكان حسن الترتيب لما يجمعه، وكان معتزلياً به نزعة إلى التشيع، ولعل المرتضى تأثر به فقد كان معتزلي الاعتقاد.
 
وفي تلك الفترة كانت الدولة الفاطمية التي انطلقت من الشمال الإفريقي قد أرست قواعدها في مصر، وتطلعت للاستيلاء على المشرق العربي، وشكلت أخطر تحد واجهته الخلافة العباسية التي كانت بحماية الدولة البويهية وهي دولة قامت على نصرة المبدأ الشيعي، فقد اجتمعت لدى الفاطميين الأموال الطائلة بعد ملك مصر، ولديهم المقاتلين الأشداء المخلصين من الشمال الإفريقي، ولديهم كذلك الشرعية من خلال ادعائهم الانتساب إلى نسل فاطمة رضي الله عنها، ولذا سارع الخليفة القادر بالله وبهاء الدولة البويهي إلى نزع الشرعية عن هذا العدو الجسور المتربص، فجمع بهاء الدولة الطالبيين من آفاق العراق في سنة 382، وسألهم عن قرابتهم من العبيديين الفاطميين، فكلهم أنكرهم ونفاهم، وتبرأ منهم، فأخذ خطوطهم بأن هؤلاء أدعياء وأن انتماءهم إلى الإمام علي باطل وزور، وأنهم كفار وفساق زنادقة، وكان على رأس من شهد الشريفان المرتضى والرضي، ومن الشافعية الإمام أبو حامد الأسفرايني، أحمد بن محمد المولود سنة 344 والمتوفى سنة 406، ومن الأحناف أبو الحسين القُدروي، أحمد بن محمد المولود سنة 362 والمتوفى سنة 428، ومن الشيعة فقيههم الشيخ المفيد أبو عبد الله بن النعمان، وغيرهم من العلماء.
 
وكانت للشريف المرتضى مكانة كبيرة لدى رجال الدولة على مختلف أصولهم وولائهم، ففي سنة 415 اختلف وزير الملك مشرف الملك البويهي مع جنوده من الأتراك، وشاع أنهم على وشك التمرد، فلم يجدوا خيراً من الشريف المرتضى ليرسلوه في وفد إلى الملك مؤكدين ولاءهم وإخلاصهم. وفي السنة ذاتها تزوج حفيد عضد الدولة وملك بغداد مشرف الدولة - وهو في الثالثة والعشرين - بابنة قريبه ملك أصفهان علاء الدولة بن كاكويه، فتولى عقد الزواج الشريف المرتضى، ولم يطل العمر بمشرف الدولة فقد مات في سنة 416 وانتشرت الفوضى وانعدم الأمن في بغداد بسبب التخبط في انتقال السلطنة بين المتنافسين من بني بويه، وانتشرت اللصوصية والسرقات جهاراً عياناً حتى إن العيارين أحرقوا دار الشريف المرتضى فتركها وانتقل إلى مكان أكثر أمناً.
 
وفي سنة 420 بلغ التطرف ببعض غلاة الشيعة إلى حد الزندقة، فقد كان خطيب جامع براثا في الكرخ في بغداد، وهو حي الشيعة، يقول في خطبته بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: والصلاة على أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، مكلِّم الجمجمة، ومحيي الأموات، البشريّ الإلهيّ، مكلم أهل الكهف! وأراد الخليفة القادر بالله، وكان صاحب ديانة وتقوى، أن يضبط هذه الفوضى، فأرسل خطيباً إلى الجامع لم يذكر هذه الديباجة، فقذفه المصلون بالآجُر من كل ناحية، وكاد أن يُقتل لولا أن حماه جماعة حتى أسرع بالصلاة، فتألَّم القادر بالله، وغاظه ذلك، وطلب الشريف المرتضى وعاتبه في ذلك وطالب السلطان البويهي بالتدخل، ولكنه كان أضعف من ذلك، وانقطعت صلاة الجمعة في الجامع وتلتها صلاة العيد، فاجتمع جماعة من أعيان الكرخ مع المرتضى، واعتذروا إلى الخليفة بأن من فعل ذلك سفهاء جهلة، وسألوا إعادة الخطبة، فأجيبوا إلى ما طلبوا، وأعيدت الصلاة والخطبة فيه.
 
ومع ضعف الدولة البويهية انحلت الأمور ببغداد وانتشرت الفوضى، ونهبت دار الشريف المرتضى للمرة الثانية، واستمرت الحال على ذلك سنوات في هرج ومرج، والنَّهابة تعمل في البلد، والحرائق تقع في أحيائها وأسواقها، والناس بلا رأس، ومات في أثنائها القادر بالله سنة 422 عن 87 سنة، وتولى ابنه القائم بأمر الله وله 31 سنة، وكان أول من بايعه الشر يف المرتضى، وأنشد:
 
فإما مضى جبلٌ وانقضى ... فمنك لنا جبل قد رسى
 
وإما فُجعنا ببدر التمام ... فقد بقيت منه شمس الضحى
 
فكم حزن في محل السرور ... وكم ضحِكٌ في خلال البكا
 
فيا صارماً أغمدته يدٌ ... لنا بعدك الصارم المنتضى
 
وفي سنة 424 ثار الجنود على جلال الدولة البويهي، وكادوا أن يوقعوا به ثم تراجعوا، وكان مقر إقامته في هذه الأحداث في دار الشريف المرتضى.
 
وكان الشريف المرتضى يحافظ على علاقات طيبة برجال الدولة ممن دون الخليفة والسلطان، فنجده يمدح الوزير كمال الملك هبة الله بن الحسين ابن عبد الرحيم، وكان وزيراً لأكثر من واحد من ملوك بني بويه، والمتوفي قتيلاً سنة 443، وامتدحه الشريف المرتضى بقصيدتين وجهزّهما إليه ويقول في مطلع أولهما:
 
لم يبق لي بعد المَشيب تصابي ... ذهب الشبابُ وبعده أترابي
 
فاليوم لا أرجو وصالَ خريدة ... عندي ولا أخشَى صُدودَ كِعابِ
 
ومنها:
 
عُج بالوزير أبي المعالي أَيُنقي ... واجعَل إليه مَعقِلي وغيابي
 
لي من وِدادِك واصطفائك رُتبةٌ ... حَسَبٌ أتيه به على الأحساب
 
وأنا الذي لك بالولاء مواصِلٌ ... فاغفِر لذاك زيارة الأعتاب
 
أما بنو عبد الرحيم فإنهم ... حَدُّ الرجاء وغايةُ الطلاّب
 
ما فيهمُ إلاّ النجيبُ وإنه ... البيتُ المليءُ بكثرة الأنجاب
 
فلما أُنشدَت للوزير وبلغ عُج بالوزير، قام الوزير قائماً وقال: هذا بعض حقّ الشريف المرتضى.
 
وقد شهد العصر الذي نشأ فيه الشريف المرتضى نهضة أدبية وازدهاراً فكرياً، وقدم للعربية عدداً كبيراً من المؤلفات في الآداب واللغة والفكر والتاريخ، وكان من أعلامها أبو سعيد السيرافي المولود سنة 284 والمتوفى سنة 368، العالم النحوي اللغوي المتعفف، والقاضي التنوخي المحسن بن علي المولود سنة 327 والمتوفى سنة 384، صاحب كتاب الفرج ‏بعد الشدة، ونشوار المحاضرة، والمستجاد من ‏فعلات الأجواد، ‏ وأبو حيَّان التوحيدي، علي بن محمد، المولود سنة 310 والمتوفى سنة 414 والذي وصفه ياقوت الحموي بقوله: فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ، وأبو العلاء المعري، أحمد بن عبد الله، المولود سنة 363 والمتوفى سنة 449.
 
والشريف المرتضى أحد أعلام هذه المرحلة في الأدب، وله تآليف كثيرة فيه أهمها كتابه الذي سماه غُرر الفوائد ودرر القلائد، والمعروف بأمالي المرتضى، وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من مجاني الأدب والشعر والبلاغة والنحو واللغة وأخبار العرب وغير ذلك، وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير، وتوسع في الاطلاع على العلوم، وله كتاب الرد على ابن جني في شرح ديوان المتنبي، وله ديوان كبير يبلغ أربع مجلدات، وله كتاب الشهاب في الشيب والشباب، جمع فيه ما قاله الشعراء المحدثون في وصف الشيب والإكثار في معانيه، واستيفاء القول فيه.
 
وفي سنة 381 ابتاع الوزير سابور بن أردشير، المتوفى سنة 416، دارا بين السورين، وحمل إليها كتب العلم من كل فن، وسماها دار العلم، وكان فيها أكثر من 10000 مجلد، ووقف عليها الأوقاف، وكان الشريف المرتضى مشرفاً عليها في مرحلة من الوقت، وأحرقت هذه المكتبة في سنة 450 في استيلاء السلاجقة على بغداد.
 
ويقول بعض العلماء إن الشريف المرتضى هو الذي ألف كتاب نهج البلاغة الذي يحتوي كلمات وخطباً منسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه، وبعضهم ينسبه إلى أخيه الشريف الرضي، وأياً كان المؤلف أو الجامع فإن علماء السنة يجزمون بأنه الكتاب مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فلا سند للكتاب مع اهتمام رواة تلك الحقبة بالأسانيد حتى في كتب الأدب والتاريخ، ولما في الكتاب من السبِّ الصُراح والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحاشا الإمام أن يتناولهما بشيء من ذلك، وفي الكتاب كذلك من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات الضعيفة، التي تتنافى مع بلاغة الإمام علي وأنفاسه الطاهرة.
 
والتقى المرتضى مع أبي العلاء المعري، المولود سنة 363 والمتوفى سنة 449، فقد زار أبو العلاء بغداد سنة 398 وأقام فيها سنة وسبعة أشهر، وتردد على مجلس المرتضى ثم ما لبث أن طُرٍد منه، وتفصيل ذلك أن أبا العلاء لما دخل مجلس المرتضى لأول مرة عثر برَجُلٍ فقال الرجل: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً! وسمعه المرتضى فأدناه واختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالاً كثيراً، وكان المعري يتعصب لأبي الطيب ويفضله على بشار وأبي نواس وأبي تمام، وكان المرتضى يبغضه ويتعصب عليه، فجرى يوماً ذكره فتنقصه المرتضى وجعل يتبع عيوبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله:
 
لك يا منازل في القلوب منازل
 
لكفاه فضلاً! فغضب المرتضى وأمر به فسُحِبَ برجله وأُخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن لأبي الطيب ما هو أجود منها لم يذكرها! فقيل: النقيب السيد أعرف، فقال: أراد قوله في هذه القصيدة:
 
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ... فهي الشهادة لي بأني كامل
 
والشريف المرتضى شاعر كبير، وإن كان أخوه الشريف الرضي أرق ديباجة وأطول نفَساَ، ومن شعر المرتضى:
 
ضَنَّ عني بالنَزر إذ أنا يقظان وأعطى كثيره في المنام
 
والتقينا كما اشتهينا ولا عيب سوى أن ذاك في الأحلام
 
وإذا كانت الملاقاة ليلاً ... فالليالي خيرٌ من الأيام
 
ومن شعره أيضاً في التمييز بين المحب الصادق والمتظاهر بالمحبة:
 
ولما تفرقنا كما شاءت النوى ... تبين ودٌ خالصٌ وتودد
 
كأني وقد سار الخليط عشيةً ... أخو جُنةٍ مما أقوم وأقعد
 
وله هذين البيتين المتحركين:
 
حُسنُك ما تنقضي عجائبه ... كالبحر، حدِّث عنه بلا حرج
 
مد يديك الكريمتين معي ... ثم ادع لي من هواك بالفرج
 
وكتب العميدُ أبو بكر القُهستاني، علي بن الحسين المتوفى بعد 435، وكان كاتبا سديدا فاضلا، أديبا شاعرا مُجيدا بليغا، إلى المرتضى قصيدة أولها:
 
لكَ الخيرُ أبشِرْ، كلّ شيءٍ له مَدى ... هو الدهرُ ليس الدهرُ، خُلِّدتَ، سَرْمدا
 
وجاء في آخرها قوله:
 
وما نأيُ ناءٍ عنكَ إلاّ كمَوتِه ... وهل أنا ناءٍ عنكَ مرتحلٌ غَدا؟
 
فأجاب المرتضى بقصيدة أولها:
 
أبتْ زفراتُ الحبّ إلا تصعُّداً ... ويأبى لهيبُ الوجْدِ إلا توقُّدا
 
ولم أرَ مِن بعد الذين تشردوا ... لأعيننا إلا رُقاداً مشردا
 
مضى البينُ عنا بالحياة وطِيبها ... فلم يبقَ بعد البينِ شيءٌ سوى الرَّدى
 
فقُل للذي ينوي الفراقَ وعنده ... بأني مُطيقٌ للفراق التجلُّدا:
 
وَعَدتَ ببينٍ يسلبُ العيش طيبَه ... فما كان ذاك الوعدُ إلاّ توعُّدا
 
وما كان عِندي أنْ يُفرَّق شملُنا ... ويبعُدَ عن داري العَميدُ تعمُّدا
 
وكان الذي بيني وبينكَ كلُّه ... وداداً، وفي كلّ الرجالِ تَودُّدا
 
فإن لم يكن سِنخٌ يؤلف بيننا ... فقد ألّفتْ فينا المودة مَحْتِدا
 
ومن قرّبتْه دارُ وُدٍّ مُصحَّحٍ ... إليّ فلا كان المُقَرِّبُ مولدا
 
وفي سنة 403 توفي أبو الجسن البتي الكاتب، أحمد بن علي، فرثاه المرتضى بقصيدة منها:
 
وقد بلوتك في سخط وعند رضىً ... وبين طيٍ لأنباءٍ وإظهار
 
فلم تفدني إلا ما أضن به ... ولم تزدني إلا طيب أخبار
 
لا عار فيما شربتَ اليوم غصته ... من المنون وهل بالموت من عار؟
 
وفي سنة 413 توفي الخطاط البغدادي المشهور ابن البواب، علي بن هلال، وكان أكبر خطاطي عصره، كتب القرآن الكريم بيده 64 مرة، وكان كثير الملازمة للشريف المرتضى فرثاه بقصيدة منها:
 
من مثلها كنت تخشى أيها الحذِرُ ... والدهر إن همَّ لا يُبقي ولا يَذر ُ
 
رُدِّيتَ يا ابن هلال والردى عَرَضٌ ... لم يُحْمَ منه - على سخط له - البَشرُ
 
ما ضرَّ فقدكَ والأيام شاهدةٌ ... بأن فضلك فيه الأنجمُ الزُّهُرُ
 
أغْنيتَ في الأرض والأقوام كلَّهمُ ... من المحاسن ما لم يُغنه المطرُ
 
فللقلوب التي أبهجتَها حَزَنٌ ... وللعيون التي أقررتَها سَهَرُ
 
وما لعيش وقد ودَّعتَه أَرَجٌ ... ولا لليلٍ وقد فارقتَه سَحَرُ
 
ومن شعر المرتضى في الاعتبار:
 
كم ذا تطيش سهام الموت مخطئة ... عني وتصمي أخلائي وأخداني
 
ولو فطنتُ وقد أردى الزمان أخي ... علمتُ أن الذي أصماه أصماني
 
سود وبيض من الأيام لونهما ... لا يستحيل وقد بدلن ألواني
 
ومن قصيدة أخرى:
 
لا تعطني بالزمان معرفةً ... كم ضاق بي مرة وكم رحبا
 
أي خطوب لم توُلني عظةً ... وأي دهر لم أفنه عجبا
 
ساعات دهر تمر مسرعةً ... عنا وتبقى الهموم والتعبا
 
وله من قصيدة في تذكر الموتى من الأحباب:
 
أمر على الأجداث في كل ليلة ... وقلبي بمن فيها رهين معلق
 
وإن له مني قليلا جوانحٌ ... خفقن وعين بالدموع ترقرق
 
وله في اتقاء شر الأعداء:
 
تَجافَ عن الأعداء بُقْيا فربما ... كُفيتَ ولم تُجرحْ بناب ولا ظُفْرِ
 
ولا تَبْرِ منهم كل عود تخافُهُ ... فإنَّ الأعادي ينبتون مع الدهر
 
إذا أنتَ أفنيتَ النبيهَ من العِدى ... رَمَتْك الليالي عن يد الخامل الذكْرِ
 
وهَبْكَ اتَّقَيْتَ السهم من حيث يُتَّقى ... فكيف بمن يرميك من حيث لا تَدْري
 
وأرسل ابن خيران، أحمد بن علي المتوفى سنة 431، صاحب ديوان الإنشاء بمصر، جزأين من شعره ورسائله لتعرض على الشريف المرتضى وغيره، ويستشير في تخليدهما بدار العلم لينفذ بقية الديوان، وكان ابن خيران شاعراً شاباً جيد العارضة، ومن شعره:
 
أنا شيعي لآل المصطفى ... غير أني لا أرى سبّ السلف
 
أقصد الإجماع في الدين ومن ... قصد الإجماع لم يخش التلف
 
لي بنفسي شغلٌ عن كل من ... للهوى قرّظ قوماً أو قذف
 
وللشريف المرتضى مكانة كبيرة بين علماء الشيعة الإمامية، وله تصانيف هامة في فقه الشيعة، منها الشافي في الإمامة خمس مجلدات، والملخص والمدخر في الأصول، وتبرئة الأنبياء، والدرر الغرر، ومسائل الخلاف، والانتصار لما انفردت به الإمامية، وكتاب المسائل كبيراً جداً، والشريف المرتضى معدود في أول من بسط كلام الشيعة الإمامية في الفقه، وناظر الخصوم، واستخرج الغوامض، وقيَّد المسائل، وقال يفتخر بذلك:
 
كان لولاي غائضاً مكرع الف ... قه سحيقَ المدى ببحر الكلام
 
ومعان ينحطن لطفا عن الإفهام فرميتها من الإفهام
 
ودقيق ألحقته بجليل ... وحلال خلصته من حرام
 
وأخذ عن الشريف المرتضى عددٌ من علماء الشيعة منهم الشريف أبو يعلى، حمزة بن محمد الهاشمي الجعفري، المتوفى سنة 465 ببغداد، وكان ممن درس على الشيخ المفيد ولازمه، وزوجه المفيد ببنته، وخصَّه بكتبه، وأخذ أيضا عن الشريف المرتضى، وبرع في فقه الشيعة وأصولهم وعلم الكلام.
 
وأخذ عن الشريف المرتضى أبو جعفر الطوسي، محمد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفى بالنجف سنة 460، شيخ الشيعة، وصاحب التصانيف، قدم بغداد سنة 408، وتفقه أولا في المذهب الشافعي، ثم درس الكلام وأصول الشيعة على الشيخ المفيد، وأملى عنه أحاديث ونوادر في مجلدين، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب تهذيب الأحكام، وكتاب مختلف الأخبار، وكتاب المفصح في الإمامة، وله مؤلفات في أعلام الشيعة وكتبهم، وهو أول أرسى تقاليد التدريس بالنجف.
 
ودرس على الشريف المرتضى شيخ الشيعة وعالمهم بالشام تقي بن عمر بن عبيد الله الحلبي المشهور بأبي الصلاح، والمولود سنة 374 والمتوفى بحلب سنة 447، رحل إلى العراق فحمل عن الشريف المرتضى، وأخذ عن أبي جعفر الطوسي وغيره. وتتلمذ على الشريف المرتضى في سنة 429 الفقيه ابن البراج، عبد العزيز بن بحر، المتوفى سنة 481، الذي ولي القضاء بطرابلس الشام 20 عاماً.
 
ومن كبار تلاميذ الشريف المرتضى أبو الفتح الكُراجِكي، محمد بن علي المتوفى بصور سنة 449، والذي صار من كبار علماء الشيعة الإمامية وله كتب في فقههم وعقائدهم، ومن تلاميذ المرتضى المتفردين أبو عبد الله البصري، الحسين بن عقبة الضرير، المتوفى سنة 441، فقد قرأ على الشريف المرتضى كتاب الذخيرة وحفظه، وله 17 سنة، وكان ذا حافظة لا مثيل لها، قال: أقدر أحكي مجالس المرتضى وما جرى فيها من أول يوم حضرتها. ثم يسردها مجلساً مجلساً، والناس يتعجبون.
 
وكان الشريف المرتضى يؤمِّن لتلامذته ما يحتاجونه من لوازم الدرس ونفقات المعيشة، وكان قد وقف قرية على احتياجاتهم من الورق، وأجرى الرواتب على تلامذته، فكان يعطي أبا جعفر الطوسي أيام قراءته عليه 12 ديناراً كل شهر، ويعطي ابن البراج الطرابلسي كل شهر 8 دنانير، وفي بعض السنين أصاب الناس قحط شديد، فاحتال رجل يهودي في تحصيل قوت يحفظ به نفسه، فحضر يوماً مجلس المرتضى، واستأذنه في أن يقرأ عليه في علم النجوم، فأذن له السيد، وأمر له بجراية تجري عليه كل يوم، فقرأ عليه برهة ثم أسلم على يده.
 
وحيث ذكرنا علم النجوم ينبغي أن نشير إلى أن الشريف المرتضى، على ما ذكر من علمه، كان له اعتقاد بالنجوم والبروج على أنها تضر وتنفع ولكن بإذن الله، وكانت له علاقة وثيقة فيما يبدو بأبي الخطاب المنجم، حمزة بن إبراهيم، الذي كان مقرباً جداً من بهاء الدولة البويهي صاحب كرمان، حتى إن الوزراء كانوا يتوددون إليه، ثم نُكِبَ وصار أمره إلى الضيق والفقر والغربة، ومات مفلوجا سنة 418 عن 79 عاماً، فرثاه الشريف المرتضى، وهذا من الوفاء النادر.
 
وكان الشريف المرتضى قد جعل داره داراً للعلم والمناظرة، وحوى مجلسه أهل الأديان والمذاهب والمبادئ والأفكار المختلفة، وهذا أمر قد يتعلق بشخصيته وسعة أفقه، وقد يكون بسبب انفتاح الطبقة العلمية على اختلافها في المذاهب والعقائد، وقد يكون بسبب محتده ووجاهته، ولهما تقدير كبير في نفوس معاصريه، وقد يكون بسبب كونه معتزلياً، والمعتزلة قوم يحبون الجدل والمناظرات العقلية مع كل الأفكار، وقد تتلمذ على الشريف معتزليون لم يتبعوا الشيعة الإمامية من أمثال محمد بن عبد الملك بن محمد التبان، المتوفى سنة 419، فقد تتلمذ على الشريف المرتضى، ووجه إليه أسئلة أجابه عليها المرتضى، تسمى الأسئلة التبانية، في عشرة فصول.
 
وجرت مناظرة بين الشريف المرتضى وبين أبو علي البخاري الفَشِيْديزجي، الحسين بن الخضر بن محمد، البخاري الحنفي المتوفى سنة 424، وذلك عندما قدم بغداد، وكان موضوع المناظرة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، والزعم أن فاطمة رضي الله عنها حُرِمت منه، فاحتج عليه أبو علي البخاري بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركنا صدقة. فقال المرتضى: ما هنا نافية، تعني أن الرسول لم يترك صدقة، فقال أبو علي للمرتضى: إذا صيرتَ ما نافية، خلا الحديث من الفائدة! فكل أحد لا يخفى عليه أن الميت يرثه أقرباؤه، ولا تكون ترِكته صدقة، ولكن لما كان المصطفى بخلاف المسلمين، بيَّن ذلك، وقال: ما تركناه صدقة.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين


التعليقات