حدث في الخامس من صفر معركة قَطَوان

في الخامس من صفر من سنة 536=1141 وقعت معركة قَطَوان قرب سمرقند بين الجيش السلجوقي بقيادة السلطان سَنجَر بن مَلِكشاه وبين جيوش دولة قرا خطاي الصينية الشمالية بيادة الملك كو خان، وكان النصر حليف الصينيين الذي هزموا سنجر وأسروه، وقتلوا الآلاف من جيشه، وأدت هذه الهزيمة إلى نهاية الدولة السلجوقية، وبقيت هذه الهزيمة في ذاكرة الصينيين وشجعت فيما بعد هجوم المغول بقيادة جنكيز خان على أواسط آسيا الإسلامية في سنة 616، وسنستعرض هنا مقدمات هذه المعركة وأسباب الهزيمة ونتائجها.

كانت الأسر الإمبراطورية في الصين تتطلع دائماً إلى التوسع شمالاً في منغوليا ومنشوريا وغرباً في مناطق ما وراء النهر، وكانت آخر محاولة كبيرة لهم في سنة 522 عندما وصل إلى كَشغَر في الشمال جيشُهم الجرار بقيادة قائد تسميه المصادر الإسلامية الأعور الصيني، فتصدى لهم والي كشغر الخان أحمد بن الحسن وانجلت المعركة عن هزيمة الجيش الصيني، ومقتل كثير من جنوده، ولم تطل الحياة بالأعور الصيني فقد مات بعدها بقليل، وتولى مكانه الملك كو خان. وكشغر مدينة تجارية تقع في سفوح جبال بامير وتتحكم في طرق التجارة التي تتجه منها إلى فرغانة في الغرب وإلى كشمير في الجنوب وإلى منشوريا في الشمال، وتقع كشغر اليوم في تركستان الشرقية التي تسميها الصين إقليم سينكيانغ ذا الحكم الذاتي.

والملك الصيني الذي هزم سنجر هو الملك يوه لي تا شي، و تدعوه المصادر العربية بلقبه كو خان، وهو أمير من سلالة لياو الإمبراطورية هرب إلى تركستان في الشمال مع 20.000 من فلول جيشه عندما تملكت سلالة أخرى هي جوشن Juchen، وأسس في الشمال لحكم سلالة هسي لياو Hsi Liao، وخضعت له قبائل اليغور التي كانت تدين بالولاء لسلالته، فنظم جيشاً منهم ومن أهل التيبت، ودعيت دولته بدولة قرا خطاي، وقام بحملات عسكرية توسعية إلى أن صارت دولته تتاخم حدود الدولة السلجوقية التي كانت تحكم أفغانستان وطاجكستان وأزبكستان وقرقيستان وإيران، وتصفه المصادر العربية بأنه كان سائساً محباً للعدل داهية، لا يمكِّن أميراً من إقطاع بل يعطيهم من خزائنه ويقول: متى أخذوا الإقطاعات ظلموا الناس، وكان لا يقدِّم أميراً على أكثر من مئة فارس حتى لا يقدر على العصيان، وكان يعاقب على السُكر ولا ينكر الزنا ولا يقبحه، وتوفي سنة 537 وخلفته ابنته ولم تطل مدتها، وتملكت أمها بعدها، ودام حكم الصين على ما وراء النهر إلى إلى سنة 612 حين استرجعها منهم علاء الدين محمد الخوارزمي.

وكان سياسة كو خان إذا ملك مدينة لا يُغَيِّر على أهلها شيئاً، بل يأخذ من كل بيت ديناراً من أهل البلاد وغيرها من القرى، وأما المزروعات وغير ذلك فلأهله، وكل من أطاعه من الملوك شد في وسطه شبه لوح فضة، علامة الطاعة.

أما السلطان سنجر السلجوقي فقد ولد في 20 رجب من سنة 479 بظاهر مدينة سنجار في شمالي غربي العراق عندما كان والده السلطان ملكشاه متجهاً إلى ديار ربيعة في جنوبي تركية اليوم، فسماه أحمد ثم غلب عليه اسم سنجر لكونه ولد بسنجار، وكانت والدته امرأة صالحة ترسل جمال السبيل مع الحاج إلى مكة المكرمة.

وكان والده السلطان مَلِكشاه من أحسن الناس صورة ومعنى، سار في سنة 482 إلى ما وراء النهر، فسار إلى بخارى وسمرقند فتملكها، ثم سار إلى كشغر فأذعن صاحبها بطاعته ونزل إلى خدمته، وخُطِبَ له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن مملكة الروم إلى اليمن، ودانت له الدنيا، وتزوج ابنته الخليفة العباسي المقتدي.

وتوفي السلطان ملكشاه سنة 485 وتقاسم المملكة من بعده أولاده بركياروق ومحمد وسنجر، وكان محمد وسنجر تابعين للأخ الكبير بركياروق الذي كان في الثالثة عشرة، وفي سنة 490 عين بركياروق أخاه سنجر نائباً على خراسان، ولما توفي بركياروق في سنة 498، خلفه أخوه محمد المولود سنة 474 وبقي سنجر على ولايته، ثم توفي محمد في آخر سنة 511، فاستقل سنجر بسلطنة خراسان وغزنة ووراء النهر، وخُطِب له بالعراق والشام والجزيرة وأذربيجان وأرّان وديار بكر والحرمين، ولُقّب بالسلطان الأعظم معز الدين، وكان بالغ الكرم، عالي الهمة، شجاعاً مقداماً، يميل إلى العفو والصفح، وينظر في العواقب.

واجه سنجر خلال مدة حكمه مشاكل وفتن داخلية كبيرة، ففي أول سنة 490 تمرد عمه أرسلان على أولاد أخيه، فأرسل السلطان بركياروق أخاه سنجر وهو حَدَث في الحادية عشرة من عمره على رأس جيش لإخضاع عمه، ولكن العم قُتل على يد أحد غلمانه قبل أن يصل جيش سنجر، فمَلَّكت الحاشية ابنه البالغ 7 سنوات، واستولى سنجر على نيسابور بغير قتال، وسار إلى بلخ فهرب الملك وجنوده إلى جبال طخارستان، ثم طلبوا الأمان، فأمنهم سنجر، وحضروا إليه في خمسة عشر ألف فارس، فأخذ ابن عمه، وأحسن إليه، وتسلمته والدة بركياروق لتربيته، وتفرق جيشه في خدمة الأمراء، وسار سنجر إلى ترمذ، فسلمت إليه، وأقام ببلخ سبعة أشهر، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بسمرقند، ودانت له البلاد.

وفي آخر سنة 490 تمرد عليه ابن عم أبيه الأمير محمد بن سليمان، ويعرف بأمير أميران، وتوج إلى بلخ، وتحالف مع صاحب غزنة، فأمده بجيش كثير، وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من البلاد الخراسانية، فقويت شوكته، فسار إليه سنجر في حملة سريعة مفاجئة، وأسره ثم سمل عينيه.

وفي سنة 495 طمع صاحب سمرقند وما وراء النهر، واسمه قدر خان، في الاستيلاء على خراسان لصغر سن سنجر، فحشد جيشاً كبيراً من المسلمين وغيرهم، تتراوح تقديرات عدده ما بين مئة ألف إلى مئتي ألف مقاتل، فتوجه إليه سنجر في جيشه إلى الري - وهي اليوم طهران - فلما بلغ بُست في جنوب غربي أفغانستان دان له نصر بن خلف صاحب سجستان، وخشي عمه أرسلان شاه ملك غزنة في وسط شرقي أفغانستان أن يستتب الأمر لابن أخيه فسير من غزنة جيشا كثيفا هزمه سنجر، فخضع حينئذ أرسلان شاه، وأرسل وسطاء يطلب الصلح، ولكن سنجر أبى ذلك واستمر في مسيره قاصداً غزنة، والتقى الجيشان على مقربة منها، وكان الظفر لسنجر ودخل غزنة، وملك قلعتها، ورتب بهرام شاه في الملك، وقرر أن يكون الدعاء بغزنة للخليفة العباسي المستظهر، ثم لأخيه السلطان محمد، ثم للملك سنجر، وبعدهم لبهرام شاه، وكانت هذه أول مرة يخطب بغزنة للسلطان السلجوقي.

وكانت غزنة مدينة بالغة الثراء، ووجدت فيها عدة دور لملوكها على حيطانها ألواح الفضة وسواقي بساتينها من الفضة، فقلع أكثره ونهب، فمنع سنجر أصحابه، وصلب جماعة منهم، حتى كفَّ أيدي الناهبين، واستولى سنجر على أموال طائلة من غزنة ساهمت في تقوية قدرات مملكته.

وفي سنة 512 جاءت إلى السلطان سنجر زوجة أخيه محمد من أصبهان، فلقيها ببلخ فأكرمها، فقالت له: أدرك ابن أخيك محمود وإلا تَلِف، فإن الأموال قد تمزقت، والبلاد قد أشرفت على الأخذ، وهو صبيٌ وحوله من يلعب بالملك. فقال لها: سمعاً وطاعة. وكان وزير محمود قد أنفق في أربعة أشهر ما ورثه محمود في الخزائن عن والده، وسار سنجر في سنة 513 ليضبط الأمور ويطهر الحاشية، فتمرد عليه ابن أخيه محمود بن محمد وهاجمه، وكانت الدائرة على سنجر في البداية وانهزم أغلب جيشه، ونصحه أمراؤه بالانسحاب ولكنه أبى إلا النصر أو الموت، وقاتل حتى كانت الغلبة له، وانهزم محمود إلى أصفهان ثم صفح عنه عمه وأعاده ملكاً وزوّجه ابنته.

وفي سنة 518 تزوج الخليفة العباسي المسترشد بالله ابنة السلطان سنجر، وهو تقليد سار عليه عدد من خلفاء العباسيين الذين ضمنوا بهذا الزواج وجود قوة تدافع عنهم فلا يطمع فيهم طامع، وكان السلاجقة من ناحيتهم يتشرفون بمصاهرة الخليفة وتزداد مكانتهم بين قبائلهم.

ومن أكبر المشاكل الكبيرة التي واجهها سنجر كانت مشكلة وقعت في سنة 524 مع ملك سمرقند محمد بن سليمان بن بغراجان داود، ولقبه أرسلان خان، وكان هو جعله ملكاً على سمرقند عندمااستولى عليها، وزوَّجه ابنته، وذلك أن أرسلان أصابه فالج، فاستناب ابناً له يعرف بنصرخان، وكان شهماً شجاعاً، وتآمر أحد علماء سمرقند البارزين مع زعيم محلي فقتلا نصر خان في غياب والده عن البلد، فحزن أرسلان خان عليه حزناً شديداً، وكان له ابن في بلاد تركستان فأرسل إليه يستدعيه، فجاء وقتل المتآمرين دون صعوبة تذكر.

وكان أرسلان خان قد ظن أن الأمر صعب لا طاقة لابنه بمعالجته، فأرسل إلى السلطان سنجر يطلب من العون، فتجهز سنجر وسار يريد سمرقند، فلما ظفر ابن أرسلان خان بالمتآمرين بسهولة، ندم والده على استدعاء السلطان سنجر، وأرسل إليه يعرفه بانتصاره، وأنه وابنه على الطاعة، ويسأل سنجر أن يعود إلى خراسان، فغضب سنجر من ذلك، وأقام أياماً قريباً من سمرقند، فبينما هو في الصيد إذ قابل اثنا عشر رجلاً في السلاح التام، فقبض عليهم وعاقبهم، فأقروا أن محمد خان أرسلهم ليقتلوه، فقتلهم، ثم سار إلى سمرقند فملكها عُنوة، ونَهبَ بعضها، ومَنعَ من الباقي، وتحصن منه محمد خان ببعض الحصون، فاستنزله السلطان سنجر بأمان بعد مدة، فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته زوجة السلطان سنجر، فبقي عندها إلى أن توفي.

وأقام سنجر بسمرقند مدة وأخلاها من المال والسلاح والخزائن، وسلم البلد إلى أحد كبار الأمراء وهو الأمير حسن تكين، وعاد إلى خراسان، فلم يلبث حسن تكين أن مات، فملَّك سنجرُ بعده عليها حفيده ابن ابنته محمود بن أرسلان خان محمد بن سليمان بن داود.

وفي سنة 526 خرج على سنجر ابنا أخيه سلجوق ومسعود في إيران فهاجمهم في الدينور في الأهواز وكسرهم، وبلغ عدد القتلى أربعين ألفاً، ولما رأى مسعود الهزيمة أتى مستسلماً إلى عمه فعفا عنه وأعاده إلى مملكته الأولى.

وفي سنة 533 واجه السلطان سنجر مشكلة أخرى مع ملك إقليم خوارِزم، أتسز – أو أطسز - بن محمد الملقب بخوارزم شاه، وكان من الملوك التابعين له، وذلك لأنه بلغه أن أتسز ينوي العصيان والاستقلال، وتحدث بذلك كثير من أصحابه وأمرائه، فخرج سنجر إلى خوارزم والتقى بجيشه مع أتسز، وكانت الدائرة على الخوارزمية الذين ولوا منهزمين، وقتل منهم عدد كثير منهم ولد لأتسز فحزن عليه أبوه حزناً عظيماً.

وعيَّن السلطان سنجر ابن أخيه غياث الدين سليمان بن محمد ملكاً على إقليم خوارزم، وعاد بعد ستة أشهر إلى قاعدة ملكه في مرو، فما أن فارق خوارزم حتى انتهز خوارزم شاه الفرصة فرجع إليها، وكان محبوباً من أهلها فأعانوه على ملك البلد، وهرب سليمان شاه ورجع إلى عمه السلطان سنجر، وفسد الحال بين سنجر وخوارزم واختلفا بعد الاتفاق.

وخشية من أن يعود السلطان سنجر ويطرده من خوارزم، بعث أتسز بن محمد إلى الصينيين يطمعهم في البلاد ويسهل عليهم أمرها، وتزوج إليهم، وحثَّهم على قصد مملكة السلطان سنجر، والاستيلاء عليها.

وكانت هناك كذلك مشكلة مع القبائل التركية في المنطقة، فقد كان ملك خوارزم يسير كل سنة ما يقارب مئة ألف مقاتل من الترك وينزلهم على الدروب التي بينه وبين الصين، لصد أية هجمات محتملة منها ولهم على ذلك جرايات وإقطاعات، فغضب عليهم في بعض السنين، فعاقبهم عقوبة غريبة، وهي أنه أرسل قوة عزلتهم عن نسائهم، فعظُم ذلك عليهم، واتفق أنه اجتاز بهم قافلة عظيمة فهاجموها واستولوا على ما فيها من أموال، ثم إن رئيسهم قال للتجار: إن كنتم تريدون أموالكم فدلونا على بلد كثير المرعى فسيح يسعنا ويسع أموالنا. فأشار عليهم التجار بالتوجه شمالاً إلى مدينة بلاساغون قرب فاراب في أوزبكستان اليوم، فأعادوا إليهم الأموال، وهجموا على القوة التي أرسلها الملك فكتفوهم، وأخذوا نسائهم وساروا إلى بلاساغون، واكتفوا بذلك فقد منعتهم هيبة الملك من العدوان عليه فقد كانوا يخافوه خوفاً عظيماً، ولكن بقيت نار الضغينة مشتعلة في قلوبهم.

ولما بدأ الملك الصيني كو خان في التطلع إلى إخضاع أراضي السلاجقة انضمت إليه هذه القبائل التركية، ويدعوها المؤرخون القارغلية، وهاجم كو خان محمود خان ملك سمرقند في سنة 431 في خجندة وهزمه، فاستنجد بسلطانه سنجر الذي سار في آخر سنة 535 وعبر إلى ما وراء النهر إلى سمرقند، وهاجم القبائل التركية التي دانت بالولاء لكو خان، فهربوا من وجهه والتجأوا إلى كو خان، فكتب إلي سنجر كتاباً يشفع في الأتراك القارغلية، ويطلب منه أن يعفو عنهم، فلم يشفعه فيهم، وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام، ويتهدده إن لم يجب عليه، ويتوعده بكثرة عساكره، ووصفهم مبالغاً بالمهارة في القتال بأنواع السلاح حتى قال: وإنهم يشقون الشعر بسهامهم! وكان من رأي وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك أن الكتاب غير مناسب لما فيه من تحد واستثارة، فلم يصغي سنجر إليه، وأرسل الكتاب، ولما قُرِأَ الكتاب على كو خان أمر بنتف لحية الرسول، وأعطاه إبرة، وكلفه شق شعرة من لحيته فلم يقدر أن يفعل ذلك، فقال: كيف يشق غيرك شعرة بسهم وأنت عاجز عن شقها بإبرة؟

واستعد كو خان للحرب، وحشد جنوده وقصد السلطان سنجر، فالتقى العسكران في هضبة قَطَوان شمالي سمرقند، ورغم أن عدد جنود كو خان كان أكثر من قوات سنجر، إلا أن خطته لم تعتمد على المواجهة المباشرة بل اعتمدت على المناورة، ولهذا الغرض نظم قواته على ثلاث فرق متوازية، أما سنجر فاتَّبع الترتيب التقليدي للجيش من ميمنة وميسرة، واستطاع الجيش الصيني أن يناور ويتحرك حتى نجح في حشر جيش سنجر في أحد الوديان ثم أمعن فيه قتلاً، فلم يبق منهم على قيد الحياة إلا قليل، وقتل من جيش سنجر مئة ألف أو أكثر، وأُسِرت زوجتُه تركان خاتون وابنته، ثم فديتا بخمسمئة ألف دينار، وقتل في المعركة عدد كبير من العلماء والفقهاء قيل إن عددهم حوالي 11.000 صاحب عمامة، و4.000 امرأة، فقد كان سنجر قد استنفر الناس للجهاد إزاء جيش يُعدُّ بضعف عدد جيشه، فانضم إليه عدد كبير من العلماء لاقوا مصرعهم في المعركة، ويقدر المؤرخون عدد الجيش الصيني بثلاث مئة ألف فارس، أما سنجر فهرب لأول مرة في حياته مع 15 فارساً إلى ترمذ في الجنوب.

وكان مع سنجر في هذه المعركة ملك سجستان نصر بن خلف، المولود سنة 460 والمتوفى سنة 559، والذي عُمِّر مئة سنة، ملك منها ثمانين سنة! وأبلى في المعركة بلاءً مشهوداً وثبت في نصرة سنجر حين انهزم الجيش.

وممن استُشهِدَ في المعركة الإمام الفقيه الحنفي أبو حفص حسام الدين ابن مازة، عمر بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري، شيخ الحنفية وعلاّمة وراء النهر، قتل عن 53 سنة، وهو صاحب مؤلفات فقهية هامة منها: الفتاوى الكبرى، والفتاوى الصغرى، والفتاوى الخاصية، وعمدة الفتاوى، والواقعات الحسامية في مذهب الحنفية، وأصول الفقه، ومسائل دعوى الحيطان والطرق وسيل الماء.

وبقي كو خان في سمرقند 90 يوماً، وعين عليها ملكاً مسلماً، وخضعت له ملوك المناطق المسلمين ودانت له خوارزم وبخارى، وكانت سياسته غالباً إقرار كل ذي مُلك على مملكته.

ولأن كو خان - مثلما أحسن معاملة المسلمين في الأراضي التي وقعت تحت سيطرته - أحسن معاملة النصارى في أواسط آسيا، وأغلبهم ينتمون إلى الطائفة النسطورية الشرقية المستقلة التي لا تعترف بسلطة بطرك القسطنطينية، وشكَّل أفرادُها أغلب مسيحيي الشرق الإسلامي، فقد شاعت في أوروبا ولقرابة قرنين خرافة تتمركز حول انتصار كو خان على المسلمين، وتغنت بها حوليات القرون الوسطى، ولاقت هوى من الكنيسة في أوروبا التي كانت تتوق إلى أخذ بيت المقدس من المسلمين الذين استعادوه قبل 26 عاماً، وبدأت الخرافة مع تقرير أرسله أسقف جبيل - في لبنان اليوم – إلى البلاط الباباوي في إيطاليا، وتحدثت عن جون برستور الملك الراهب الذي يتمتع بالمال والقوة ويحكم الشرق الأقصى وراء فارس وأرمينيا، وأنه سليل أحد الرسل الثلاثة الذين جاءوا بهداياهم إلى السيد المسيح في مهده، وأن هذا الملك الخرافي هزم ملوك الفرس المسلمين واستولى على عاصمتهم الموهومة إكباتانا، وهو ينوي التوجه إلى القدس ولكن عبور دجلة يعيقه عن متابعة المسير إليها!

ومن سمات ملوك السلاجقة قوة العزيمة وشدة البأس، ولذا رأينا الملك سنجر رغم هزيمته الساحقة يبدأ على الفور في احتواء مضاعفاتها وبناء جيشه ودولته من جديد، فأرسل إلى ابن أخيه السلطان مسعود ومنحه تفويضاً بحكم الريّ وما حولها من البلاد، وأمره أن يكون مقيماً بها بعساكره، بحيث إنه إذا احتاج إليه استدعاه.

أما خصمه أتسز الملقب بخوارزم شاه والذي راسل الصينيين وأطمعهم، فسار إلى خراسان للاستيلاء عليها ونزعها من يد سنجر، فاستولى على سرخس ثم مرو التي ثار عليه أهلها فقاتلهم وقتل كثيراً منهم، ثم استولى على نيسابور، ثم بيهق، هذا والسلطان سنجر يأمر أنصاره بألا يقاتلوا أتسز خوفاً من تشتيت قواته فيطمع الصينيون في الاستيلاء على بقية البلاد المجاورة لجيوشهم، ولكنهم اكتفوا بالسيطرة على المناطق التي يغلب عليها العرق الصيني ولم يتوسعوا لما وراءها.

وفي سنة 538 شعر الملك سنجر بأن الظروف مواتية لإعادة بسط سلطته على إقليم خوارزم، فهاجم خوارزم شاه وحاصره وكاد أن يستولي على البلد لولا اختلاف بعض أمرائه، فما كاد خورازم شاه يعرض عليه الطاعة والصلح حتى قبله وعاد إلى قاعدته بمرو، ومما يدل على عزيمة السلطان سنجر التي لا تعرف الضعف، ونيته الصادقة في جهاد الأعداء، أنه وهو على تلك الحال أرسل رسولاً إلى نور الدين زنكي في دمشق يعده في أن يساعده في جهاده الذي بدأه ضد الصليبيين، وعبر في الرسالة عن شوقه إلى الاجتماع بنور الدين، وسروره بما يصله من أخبار جميل أفعاله، ووعده بالنصرة على الفرنج، فسُرَّ نور الدين بذلك وأمر بزينة دمشق وقلعتها، فجللت أسوارها بالجواشن، والدروع، والتروس، والسيوف، والأعلام.

ونجح سنجر بعزيمته وسياسته في أن يستعيد شيئاً من مكانته وهيبته، وأن يدين له بالولاء أغلب ملوك خراسان، مثل ابن أخيه السلطان مسعود ملك العراق، والسلطان الغوري الحسين بن الحسين الذي انطلق من حصن فيروز كوه في جبال الغور – محافظة غور في أواسط أفغانستان - واستولى على هَراة سنة 545، فأحسن إلى أهلها، وغمرهم بالعدل، وأظهر طاعة السلطان سنجر والقيام على الوفاء له والانقياد إليه، ثم كبر شأن الحسين الغوري وتلقب بعلاء الدين، واستولى على بلخ، فسار إليه سنجر في سنة 547 وهزمه، وأخذ علاء الدين الغوري أسيراً، فأحضره السلطان سنجر بين يديه، وقال له: يا حسين لو ظفرت بي ما كنت تفعل بي؟ فأخرج له قيد فضة، وقال: كنت أقيدك بهذا وأحملك إلى فيروز كوه. فخلع عليه سنجر ورده إلى فيروز كوه، وتابع علاء الدين توسعه فاستولى على غَزنة في الشرق.

وفي سنة 548 واجه سنجر نكسة أخرى حين وقع أسيراً في أيدي الغُزّ، وهم قبائل اليغور المقيمين اليوم في إقليم سنكيانغ أو تركستان الشرقية في الصين، وكانوا قد أسلموا قبل أكثر من ثلاثمئة سنة في أيام الخليفة العباسي المهدي، وانتقلوا إلى ما وراء النهر على صورة القبائل الرُّحل في طلب المرعى، ولهم تجارات إلى الهند والصين، وكان ولاؤهم – كما يقول المؤرخون – ينتقل إلى من يحسبون أنه الطرف المنتصر، وكان الأمير قماج كبير أمراء سنجر وصاحبُ بلخ قد أراد إجلاءهم عن أراضيه ثم عفا عنهم فأقاموا على حالة حسنة لا يؤذون أحدا، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

ولكنهم في سنة 547 خذلوا قماج عندما اشتبك مع علاء الدين الغوري، فاضطغنها لهم وصمم على إخراجهم من أراضيه، فتجمعوا وهزموه وأسروه وابنه ثم قتلوهما، واستولوا على نواحي بلخ، وعاثوا فيها وأفسدوا بالنهب والقتل والسلب.

وبلغ السلطان سنجر الخبر، فجمع عساكره وسار إليهم، فراسلوه يعتذرون ويتنصلون، فلم يقبل عذرهم، وأرسلوا وفداً إلى السلطان في جيشه يعتذرون ويبذلون الأموال والطاعة والانقياد إلى كل ما يؤمرون به، فلم يقبل سنجر ذلك منهم، فلقوه وقاتلوه وصبروا له، ودام قتالهم، فانهزم عسكر سنجر، وتبعهم الغز قتلا وأسرا، وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء، وضرب الغز أعناق الأمراء، ولكن أمراءهم اجتمعوا وقبلوا الأرض بين يدي السلطان سنجر، وقالوا: نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك، فقد علمنا أنك لا تريد قتالنا، وإنما حُمِلتَ عليه، فأنت السلطان ونحن العبيد!

وبقي الأمر على هذه الحال شهرين، أو ثلاثة، لقي فيها سنجر منهم الاستخفاف فاعتزل الملك ودخل إلى خانقاه مرو مع الصوفية، واستولى الغز على البلاد، وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله، وثارت عليهم نيسابور في رمضان سنة 548 فنهبوها نهبا مجحفا، وجعلوها قاعا صفصفا، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها، وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها، ولم يسلم من خراسان شيء لم تنهبه الغز غير هَراة ودهستان لأنها كانت حصينة فامتنعت.

وممن قتله الغز في نيسابور الإمام الشافعي أبو سعد محيي الدين النيسابوري، محمد بن يحيى بن منصور، تلميذ الإمام الغزالي، وهو فقيه كبير كان رئيس الشافعية فيها، من كتبه: المحيط في شرح الوسيط وكتاب الانتصاف في مسائل الاختلاف.

وفي سنة 551 هرب السلطان سنجر مع مجموعة من أمرائه من يد الغز، وسار إلى ترمذ فاستظهر بها وتوجه إلى خراسان ليلم شتات ملكه الذي توزعه أقاربه ومماليكه، ودان له من حوله من الأمراء والملوك، ولكن أيامه لم تطل فتوفي في مرو إثر مرضه في 24 من ربيع الأول من سنة 552، ودفن في قبة بناها لنفسه سماها دار الآخرة.

ولما وصل خبر وفاته إلى الخليفة العباسي ببغداد المقتفي لأمر الله أمر بقطع الخطبة للسلطان السلجوقي، وكتب كذلك إلى بلاد الجزيرة الفراتية والشام بقطع الخطبة، وعادت العراق وبغداد تحت سلطة الخلفاء العباسيين الفعلية بعد أن كانوا تحت سيطرة المتغلبين من الملوك وليس للخليفة معهم إلا الاسم.

نشرت 2013 وأعيد تنسيقها ونشرها 7/10/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين