حدث في الخامس عشر من ذي القعدة سنة 5 هـ

 

 

رجوع الأحزاب عن المدينة بعد حصارها شهرا

 

 

في الثاني والعشرين من ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ظافراً من الخندق بعد أن رجعت عن المدينة الأحزاب؛ قريش ومحالفيها، بعد أن حاصروا المدينة المنورة قرابة شهر، وكما سنرى تجلت في هذه الغزوة الصفات القيادية السياسية والعسكرية للرسول صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن نشير إلى أن تاريخ الغزوة ومدة الحصار موضع خلاف شديد بين أهل السير.

 

وتعود أسباب غزوة الأحزاب لتحريض يهود بني النضير لقريش وغيرها من قبائل العرب على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد أن أجلاهم عن ديارهم إلى خيبر بسبب تآمرهم على اغتياله عندما أتاهم طالباً مساعدتهم المالية ليدفع دية رجلين من بني عامر، قتلهم عمرو بن أمية الضّمري في إبان عهد وأمان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بني عامر.

 

وخرج من خيبر إلى قريش بمكة بضعة عشر رجلاً منهم كعب بن الأشرف، وكان عربياً من طيئ، وحُيى بن أخطب النضرى، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، فحرضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. وسألهم أبو سفيان سؤال المستوثق: هذا الذي أقدمكم ونزعكم؟ قالوا: نعم، جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله. قال أبو سفيان: مرحبا وأهلا، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد. ودخل نفر من الطرفين بين أستار الكعبة فحلفوا جميعا عندها بالله لا يخذل بعضنا بعضا، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل، واتفقوا على الخروج إلى المدينة في موعد ضربوه.

 

ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة إذا ساروا، فأسرع في الاستجابة لهم عيينة بن حصن، وتابعته غطفان، وجعلوا للخروج موعداً ضربوه، وخرج وفد خيبر حتى جاءوا بني سُليم، فوافقوا على الخروج إذا سارت قريش.

 

وأخذت قريش تتجهز للمعركة الكبيرة، وألّبت أحابيشها ومن تبعهم، ودعت قبائل العرب إلى نصرها، وعقدت لواء حربها في دار الندوة، واستطاعت حشد جيش يتكون من 4.000 مقاتل ويضم 300 فرس و 1.500 بعير، وذلك بقيادة أبي سفيان ابن حرب، وإضافة إلى جيش قريش، خرجت بنو فزارة في 1.000 مقاتل يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع في 400 مقاتل يقودهم مسعر بن رخيلة، وذلك دون أن تستوعب جميع المحاربين في صفوفها، وخرجت سليم في 700 مقاتل يقودهم سفيان بن عبد شمس، وخرج 400 من بني مُرة بقيادة الحارث بن عوف، وبلغ تعداد القوات التي احتشدت 10.000 مقاتل، في ثلاثة جيوش رئيسية، وكانت قيادتها إلى أبي سفيان بن حرب.

 

ولما فصل جيش قريش من مكة إلى المدينة، خرج إلى المدينة على جناح السرعة نفر من قبيلة خزاعة، وكانت حليفة للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بخروج قريش وتحالفها مع القبائل الأخرى ذلك، وعقد الرسول صلى الله عليه وسلم شوراه، وكانت هذه سنته في الحرب، فأخبر الناس بما وصله من خبرتحالف قريش وغطفان وغيرهم على الهجوم على المدينة، وشاورهم في كيفية التصدي للهجوم الوشيك، والذي كان يضم أعداداً أكثر من أن يستطيع المسلمون مواجهتها في معركة مفتوحة تبقى نتائجها غير مضمونة بالحسابات المادية، وسألهم: أنبرز لهم من المدينة؟ أم نكون فيها؟ أم نكون قريبا ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟ فاختلفوا، فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف، وقالت طائفة: ندع المدينة خلفنا، فقال سلمان الفارسي: يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين وتذكروا يوم أُحد حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ولا يخرجوا، فكرهوا الخروج وأحبوا البقاء في المدينة، فوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله، وباشروا في حفر الخندق.

 

ولم يكن الخندق الذي حفره المسلمون يحيط بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، بل كان في المناطق التي تصلح لهجوم جيش قريش على المدينة المنورة، كما حقق ذلك المؤرخون المعاصرون في مؤلفاتهم عن السيرة النبوية والغزوات المحمدية، وقد حقق ذلك البحاثة المحقق المرحوم المقدم عاتق بن غيث البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية، قال رحمه الله: ولما كانت المدينة المنورة محاطة بالحِرَار من ثلاث جهات، فإن الجهة الوحيدة التي تصلح أن يحشد فيها المشركون هي الجهة الشمالية الغربية، بين سَلْع وأسفل حَرَّة الوَبَرَة، وتسمى اليوم حَرّة المدينة الغربية، والجهة الشمالية الشرقية بين سلع أيضا وحرة واقِم، فحُفِرَ الخندق بين الحرتين مطيفا بجبل سلع من ورائه، بعمق يصعب على العدو أن يخرج منه لو هبطه، واتساع يصعب على خيل المشركين قفزه.

 

وكان المسلمون في سباق مع الزمن لحفر الخندق واستكماله قبل وصول العدو، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق على مجموعات من المهاجرين والأنصار، لكل عشرة منهم أربعين ذراعا ليحفروها، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رءوسهم في المكاتل، وكانوا إذا رجعوا بالمكاتل جعلوا فيها الحجارة يأتون بها من جبل سلع، وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان يسطرون الحجارة مما يليهم، وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم بها.

 

وشارك الرسول صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق ونقل مخلفاته مع الصحابة لينشر فيهم روح الجد والمبادرة، وترغيباً لهم في الأجر والثواب، وبخاصة أن الأيام كانت شديدة البرودة بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، واستغرق حفر الخندق 6 أيام، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه رجلا قويا، فقال المهاجرون: يا سلمان، احفر معنا. وقال الأنصار: لا أحد أحق به منا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سلمان منا أهل البيت. وفي أثناء الحفر عرض حجر صلب لهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم معولا من أحدهم فضربه به ثلاثا، فكسر الحجر في الثالثة، فأبصر سلمان عند كل ضربة بَرقةً ذهبت في ثلاث وجوه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت كهيئة البرق، ذهبت إحداهن نحو المشرق، والأخرى نحو الشام، والأخرى نحو اليمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: نعم، قد رأيت ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الأولى فإن الله عز وجل فتح علي بها اليمن، وأما الثانية، فإن الله عز وجل فتح علي بها الشام والمغرب، وأما الثالثة، فإن الله فتح علي بها المشرق. فقال المنافقون: نحن نخندِق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم!

 

ولم تك تلك النبوة الوحيدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قال لعمار بن ياسر رضي الله وهو يمسح رأسه: بؤس ابن سمية تقتلك الفئة الباغية.

 

وكانت أقوات المدينة شحيحة آنذاك، فربط الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه ليكف من جوعها، وكان طعام المجموعة الواحدة من أهل الخندق صحفةٌ فيها ملء كف من شعير محشوش قد صنع بدهن من الشحم تغيرت ريحه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إن النعيم نعيم الآخرة. وبرزت في أثناء حفر الخندق معجزات لرسول الله صلى الله عليه في إطعام أصحابه، دعت عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير ابنة لها فأعطتها حفنة من تمر فى ثوبها ثم قالت: أى بنية، اذهبى إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما. قالت: فأخذتها فانطلقت فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالى، فقال: تعالى يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: قلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى، بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغديانه. قال: هاتيه. قالت: فصببته فى كفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتُهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ فى أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب!

 

وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من بعض حديث طويل له: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخندق وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فكانت معى شويهة غير جد سمينة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق قلت: يا رسول الله، إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلى ورجلٌ أو رجلان. فلما قلت له ذلك قال: نعم. فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سُؤْرًا فحيَّ هَلاً بكم. فاستحييت حياء لا يعلمه إلا الله، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى الله ثم أكل، وتوارد الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.

ولما كان الرجز في العمل اليدوي الجماعي من المنشطات للعمل المخففات للتعب، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتجز وهو يحفر، قال البراء بن عازب: رأيت التراب قد وارى بياض بطنه، وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة، يقول :

 

والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

 

فأنزِلَنْ سكينة علينا ... وثبِّت الأقدام إن لاقينا

 

إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا

 

فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته: أبينا أبينا.

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتجز:

 

اللهم إن الخير خير الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره

 

فيجيبوه:

 

نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا

 

ومن تحبب رسول الله لصحابته ومداعبتهم له، أن أحد الصحابة كان يدعى جُعيل، أي تصغير جعل وهو الحشرة التي تدفع الروث، فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم  وسماه عمر، فكان الصحابة يداعبونه ويرتجزون:

 

سماه من بعد جعيل عُمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا

 

وكانوا إذا قالوا: عمرا، قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرا. وإذا قالوا: ظهرا قال لهم: ظهرا.

 

وتجرأ المنافقون لما رأوه من ضعف المسلمين ولما تخيلوه من هزيمتهم المحتومة، فأعرضوا عن المشاركة في حفر الخندق، وكانوا يقدمون للرسول صلى الله عليه وسلم أعذاراً واهية، وكان رسول الله يأذن لهم ولا يناقشهم في أعذارهم الواهية، وكان من المنافقين من تسلل إلى أهله بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وبرز المؤمنون الصادقون في هذا الوقت العصيب، فقد كان الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التى لا بد له منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه فى اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة فى الخير واحتسابا للأجر، فأنزل الله الآيات في آخر سورة النور: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?.

 

ومن ناحية أخرى أخذ الرسول في الاستعداد للقتال، فجنّد المقاتلين، واستعرض الجيش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفض في غزوة بدر تجنيد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وذلك لصغر سنه، فلما تقدم هذه المرة أجازه في الجيش، وكان رسول الله لا يقبل في جيشه من كان دون الخامسة عشرة، وبلغ عدد جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم 3.000 مقاتل، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحاول أبو سفيان تحقيق انتصار من خلال هجوم مباغت في الليل، فجعل كلمة سر للتعارف بين جنوده المسلمين، وقال: إن بُيِّتُم، فإن دعواكم: حم لا يُنصرون.

 

ويبدو أن الرسول الكريم بايع المسلمين كما هي عادته قبل المعارك الحاسمة، ويبدو أن البيعة اقتصرت على المسلمين القادمين من خارج المدينة، فقد روى الحارث بن زياد الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وهو يبايع الناس على الهجرة، فقلت: يا رسول الله بايع هذا، قال: ومن هذا؟ قلتُ: ابن عمي، قال: لا، إنكم معشر الأنصار لا تهاجروا إلى أحد، ولكن الناس يهاجرون إليكم، والذي نفسي بيده لا يحب الأنصار رجل حتى يلقى الله، إلا لقي الله وهو يحبه، ولا يبغض الأنصار رجل حتى يلقى الله، إلا لقي الله وهو يبغضه.

 

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذرارى والنساء فجعلوا فى حصون صغيرة في المدينة، تدعى الآطام جمع أُطم، وكانت عائشة وأم سعد بن معاذ في حصن بني حارثة.

 

وجاءت قريش فنزلت بمجمع الأسيال من رُومة بين الجَرْف وزَغَابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نَقْمى، إلى جانب أُحد، قال المرحوم المقدم عاتق بن غيث البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية: مجمع الأسيال، قرب مسجد القبلتين، حيث يجتمع سيل بطحان وسيل العقيق، وقد صار اليوم من أحياء المدينة الغربية، ورُومة: بئر ما زالت معروفة في آخر حرة المدينة الغربية، والجرْف: مكان غربي المدينة يرى من جبل سلع مغيب الشمس، يظلله عشيا جبل سامق يسمى جبل الشظفاء، وزغابة: بين مقصر حرة المدينة الغربية وسلع، ونَقْمى: واد يمر شمال أحد عن قرب، وفيه جبل ثور، وهم اليوم يقولون: وادي النقمي، بياء النسبة.

 

وفوجئت قريش بالخندق، وقالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها! وجاء فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، فتيمموا مكانا من الخندق ضيقا، فضربوا خيولهم فاقتحموا، فجالت في سبخة بين الخندق وسلع، وتصدى لهم علي رضي الله عنه في نفر معه من المسلمين، حتى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا، وكان فيهم عمرو بن عبد وُد من فوارس قريش المعدودين، قد خرج مُعْلِماً ليرى مكانه، وطلب البراز فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقتله، وهرب بقية القوم الذين كانوا معه.

 

وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن عوف وعيينة بن حصن قائدي غطفان وفاوضهما على أن ينسحبا بغطفان ويعطيهما حصة من ثمار المدينة، ليكسر من شوكة قريش ويخذِّل بين الأحزاب، فأرسل إليه عيينة: إن جعلتَ لي الشطر فعلت، فأرسل إلى سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وإلى سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، فقال لهما: إن عيينة بن حصن قد سألني نصف ثمركما على أن ينصرف بمن معه من غطفان، ويخذل بين الاحزاب، وإني قد أعطيته الثلث، فأبى إلا الشطر، فماذا تريان؟ قالا: يا رسول الله! إن كنت أُمِرتَ بشئ فامِض لأمر الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت أُمِرت بشئ لم أستأمركما، ولكن هذا رأيي أعرضه عليكما؛ أردت أن أصرف وجوه هؤلاء عني ويفرغ وجهي لهؤلاء. فقالا له: ما نالت منا العرب في جاهليتنا شيئا إلا بِشِرى أو قِرى، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم! فرد الرسول الحارث وعيينة خائبين، إزاء هذا الموقف الصلب من سيدي الأنصار،الذين سيكونون أكثر الناس تضرراً من أية هزيمة قد تحيق بالمسلمين.

 

وطرأ في هذه الأثناء تطور آخر، فقد كان كعب بن أسد كبير بني قريظة قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك وعاهده، فأمِن المسلمون أن يأتيهم خطر من تلك الناحية، ولكن حُيَىَّ بن أخطب بعد أن ضمن تحرك قريش والأحزاب قصد حصن بني قريظة ليحولهم إلى صفه، فلما سمع كعب بحيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيى: ويحك يا كعب افتح لى. فقال: ويحك يا حيى إنك امرؤ مشؤوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، قال: ويحك افتح لى أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. فعيره حُيي بالبخل وقال: والله إن أغلقتَ دونى إلا على جَشِيشتك أن آكل معك منها!

 

ففتح له كعب خشية تلك الكلمة، فقال له حُيَيّ: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحر طام! جئتك بقريش وبغَطَفان قد حاصروا المدينة، وقد عاهدونى وعاقدونى على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتنى والله بذُلِّ الدهر، ما مثلك إلا كسحاب قد أراقَ ماءَه فهو يَرعُد ويَبرُق وليس فيه شىء، ويحك يا حيى فدعنى وما أنا عليه فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حُيَىّ بكعب حتى استماله، وذلك بعد أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك.

 

وانتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه أن زعيم بني قريظة كعب بن أسد قد نقض عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله سيدا الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقا فالحَنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا فى أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس.

 

فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: مَن رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد! فشاتمهم سعد ابن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حِدّة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا أربى من المشاتمة.

 

ثم أقبلا ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، ثم قالوا: عَضَلٌ والقَارَة. أى كغدر عضل والقارة بخُبيب بن الأرت وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين.

 

وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، وكان ذلك كما وصفه الله تعالى في سورة الأحزاب: ?إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا?، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قلنا يوم الخندق يا رسول الله: هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر. قال: نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. وكان من دعائه كذلك يوم الخندق: اللهم مُنْزِل الكتاب، سريع الحساب، مُجرِيَ السحاب، اهزمهم وزلزلهم.

 

ونَجَمَ النفاق من بعض المنافقين، حتى قال قائل منهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! وصار المنافقون يتركون الجيش المرابط وراء الخندق بحجة انكشاف بيوتهم، واجتمعت بنو حارثة من الأنصار فبعثوا أوس بن قَيْظِيّ من بني النّبِيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن بيوتنا عورة؛ وليس دار من دور الأنصار مثل دارنا، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأْذَن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا بذلك وتهيئوا للانصراف، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لا تأذن لهم، إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة قط إلا صنعوا هكذا! ثم أقبل عليهم فقال لبني حارثة: هذا لنا منكم أبدا، ما أصابنا وإياكم شدة إلا صنعتم هكذا. فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى في ذلك قوله في سورة الأحزاب: ?يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا?.

 

وكان التهديد من طرف بني قريظة أخوف على المسلمين من طرف قريش والخندق، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لقد خفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريش وغطفان، ولقد كنت أُوفي على سَلْع فأنظرُ إلى بيوت المدينة، فإذا رأيتهم هادين حمِدت الله عز وجل، فكان مما رد الله به قريظة عما أرادوا أن المدينة كانت تُحرس.

 

وفي البداية لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوزع قواته بين الخندق وبين جهة بني قريظة، فكان يرسل طليعة يستطلع حصونهم ويرى إن كانوا يستعدون للتحرك أو الهجوم، ولخطورة هذه المهمة كان الرسول ينتدب المسلمين إليها انتداباً لا أمراً، فقال:  مَنْ رجلٌ يأتينا بخبر بني قريظة؟ قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنا. فذهب على فرسه فجاء بخبرهم، ثم قال الرسول بعدها في يوم آخر فقال الزبير: أنا. فذهب ثم عاد بخبرهم، وندب الرسول ثالثة فقال الزبير: أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حَواريٌّ، وحواريَّ الزبير. وجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواه، فقال له: فداك أبي وأمي.

 

وكانت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُطم يدعى فارع وعليهم حسان بن ثابت، فأقبل عشرة من بني قريظة يطوفون بالحصن، وصعد واحد منهم الحصن، فقالت لحسان: قم إليه فاقتله، فقال: والله ما كان ذلك فيّ، ولو كان ذلك في لكنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت له: اربط هذا السيف على ذراعي. فربطه فقامت إليه فضربت رأسه حتى قطعته، وقالت لحسان: ارم به عليهم، فقال: والله ما ذلك في. فرمت به عليهم، فتضعضعوا وهم يقولون: قد علمنا أن محمدا لم يكن ليترك أهله خُلُوفا ليس معهن أحد.

 

وهمت بنو قريظة أن يغيروا على بيضة المدينة ليلا، فأرسلوا حيي بن أخطب إلى قريش أن يأتيهم منهم ألف رجل ومن غطفان ألف فيغيروا بهم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بذلك فعظم البلاء، فشكل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة تقوم بحراسة المدينة ليلاً من جهة بني قريظة، وعهد بها إلى سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مئتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمئة، ومعهم خيل المسلمين، وأمرهم بأن يظهروا التكبير حتى يعرف العدو أن هجومه لن يكون مباغتاً ولن يكون سهلاً.

 

وخرجت مجموعة صغيرة من بني قريظة بقيادة نباش بن قيس في عشرة من أشدائهم للإغارة على المدينةعلى حين غرة، فلما انتهوا إلى بقيع الغرقد، كشفتهم قوة سلمة بن أسلم بن حريش، وتصدت لهم بالنبل فانهزموا، وبلغ خبر الغارة سلمةَ بن أسلم فأقبل في أصحابه حتى انتهوا إلى حصون بني قريظة، فطافوا حولها في تحدي لبني قريظة، وردموا بئرين لهم خارجها، ولم يخرج إليهم أحد من بني قريظة وخافوا خوفا شديدا.

 

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خَوَّات بن جبير في مهمة خاصة يستطلع بها أخبار بني قريظة، فقال: انطلق إلى بني قريظة فانظر هل ترى لهم غرة أو خللا من موضع فتخبرني. وذهب خوات فكمن على مقربة من الحصون يراقبها، ولكن النوم غلبه فلم يشعر إلا وهو أسير لطليعة من بني قريظة، ولكنه استطاع قتله والعودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ما أن رآه قد قال: أفلح وجهك. فقال: ووجهك يا رسول الله. قال: أخبرني خبرك. فأخبره أنه لم يرى لهم تحركاً خطيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أخبرني جبريل.

 

ورابط المسلمون رباطاً كان متصلاً في بعض الأحيان لا تتخلله راحة أو هدوء، بسبب خوفهم من هجمات مباغتة لقريش أو محالفيها من القبائل العربية أو من يهود بني قريظة، وفي مرة من المرات رابط الرسول الكريم على فرضة من فرض الخندق وقت أربع صلوات في أوقاتها، فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا. ولما اطمأنوا في الليل نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحان ودعا بلالا فأمره فأقام الظهر، فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضا، ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد.

 

وإلى جانب تجاوز عقبة الخندق ومحاولة اختراق دفاعات المسلمين من بعده، واجهت قريش مشكلة تعبوية تتعلق بقلة العلف المتوفر لإطعام خيلها في منطقة معسكرها، فقد كانت المدينة في جدب في تلك الأيام، ولم يكن فيها زرع لأن الناس حصدوا قبل الهجوم بشهر فأدخلوا حصادهم وأتبانهم إلى المدينة، وكانت قريش تسرِّح رِكابها في وادي العقيق، وكان شجره عِضاهٌ شوكي، فلم يكن ثمة علف للخيل إلا ما حملوه معهم من الذرة، وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها في عِضاهِ الجرف، وكانت غطفان ترسل خيلها في أثر الحصاد بالعرض فيصيبها ذلك بالإمساك، وكادت إبلهم تهلك من الهزال.

 

وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمُرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: إن قريشا وغَطَفان ليسوا كأنتم؛ وإنهم قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين محمد، فليسوا كأنتم: البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم، ضمانا لكم. فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لهم: إنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عني. فقالوا: نفعل قال: إن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسلَ إليهم أن نعم. قال نعيم لقريش: فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا. ثم خرج نعيم حتى أتى غطفان، فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

 

وأرسلت قريش إلى بني قريظة فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسلت بنو قريظة إليهم: لسنا بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك منه. فقالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحقّ! فأرسَلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا إن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم وخذَّل الله بينهم.

 

وبعد حصار قارب الشهر، جاءت ريح شديدة باردة هزم الله بها الأحزاب، وردهم عن المدينة خائبين، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استطلاع خبر قريش وحلفائها في الليل مع هذه الريح، فقال: مَنْ رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع، أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم، من شدة الخوف والجوع والبرد، فلما لم يقم أحد، ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان فتردد وقال: والله ما بي أن أقتل، ولكني أخشى أن أؤسر. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إنك لن تؤسر. فقال حذيفة: مٌرني يا رسول الله بما شئت. فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا. ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، حتى ترده إليّ.

 

قال حذيفة رضي الله عنه: فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد، فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء، فما تركت لهم نارا إلا أطفأتها، ولا بناء إلا طرحته، وجعلوا يتترسون من الحصبا. وتنادى القوم بالرحيل، وسرعان ما قوضوا خيامهم وسارعوا في العودة إلى مكة، فعاد حذيفة وأخبر الرسول صلى الله عليه سلم بما رأى، فركع وسجد، وانسحبت قريش ثم تلتها غطفان، وزال الخطر عن المدينة، وانصرف رسول الله في صباح ذلك اليوم عن الخندق إلى المدينة ووضع المسلمون السلاح، ولما انصرف الأحزاب عن المدينة بعد الخندق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم.

 

قال ابن هشام: فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، معتجرا بعمامة من إستبرق، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكةُ السلاح بعد، إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم.

 

واستشهد من المسلمين في غزوة الخندق ستة من الأنصار، وممن قتل بسببها سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان من أعظم الناس وأطولهم، رماه بسهم حِبَّان بن عبد مناف خال خديجة بنت خويلد، ويقال له ابن العَرِقِة نسبة لكنية كُنيت يها أمه لطيب ريحها، فلما رماه قال: خذها وأنا ابن العرقة، فأصابه في عرق الأكحل وسط الذراع، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عرَّق الله وجهك في النار! وانتقض جرح سعد، وكان لرُفيدة الأسلمية خيمة في المسجد النبوي تداوي فيها الجرحى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوه في خيمة رفيدة لأزوره من قريب. ثم مات بعد قرابة شهر فحزن عليه الرسول حزناً شديداً، وقال لسعد وهو يكيد بنفسه: جزاك الله خيراً من سيد قوم، فقد صدقت الله ما وعدته، وهو صادق ما وعدك.

 

وقُتِلَ من المشركين 3 أشخاص منهم عمرو بن ود، وقد سبق ذكره، وقتل منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي؛ وثب بفرسه ليقتحم الخندق فوقع فيه وقُتِل، فكبُر ذلك على المشركين وأعطوا بجسده الدية؛ عشرة آلاف درهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا في جسده ولا ديته، إنه خبيث الدية خبيث الجيفة. وخلى بينهم وبينه.

 

وقال شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك رضي الله عنه في غزوة الخندق عدة قصائد، منها واحدة رد بها على ضرار بن الخطاب:

 

وسائلةٍ تُسائل ما لقينا... ولو شهدت رأتنا صابرينا

 

صبرنا لا نرى لله عَدلا... على ما نابنا متوكلينا

 

وكان لنا النبي وزيرَ صدق... به نعلو البريةَ أجمعينا

 

نقاتل معشرا ظلموا وعقوا... وكانوا بالعداوة مُرصِدينا

 

نعاجلهم إذا نهضوا إلينا... بضرب يُعجل الـمُتسرعينا

 

وفي أيماننا بيض خفاف... بها نشفي مِراح الشاغبينا

 

بباب الخندقين كأن أُسدا... شَوابكهن يحمين العرينا

 

فوارسُنا إذا بَكَروا وراحوا... على الأعداء شُوسا مُعْلَمينا

 

لننصر أحمدا واللهَ حتى... نكون عباد صدق مُخلِصينا

 

ويعلم أهلُ مكة حين ساروا... وأحزابٌ أتوا متحزبينا

 

بأن الله ليس له شريك... وأن الله مولى المؤمنينا

 

فإما تقتلوا سعدا سِفاها... فإن الله خير القادرينا

 

سيدخله جنانا طيبات... تكون مُقامةً للصالحينا

 

كما قد ردكم فَلاًّ شريدا... بغيظكم خزايا خائبينا

 

خزايا لم تنالوا ثَمَّ خيرا... وكدتم أن تكونوا دامرينا

 

بريح عاصف هبت عليكم... فكنتم تحتها مُتَكَمّهِينَا

 

قال الله تعالى في سورة الأحزاب:

 

?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا?

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين