حدث في الحادي والعشرين من رمضان

 

حدث في الحادي والعشرين من رمضان
 
في الحادي والعشرين من رمضان من سنة 732 توفي في القاهرة، عن 50 عاماً، شهاب الدين النُّويري أحمد بن عبد الوهاب البكري، النويري، الشافعي.
ولد النويري لأسرة عربية صميمة تنتمي إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قرية إخميم من صعيد مصر - بمحافظة بني سويف الآن - ودرس في القاهرة واشتغل في مقتبل عمره بنسخ الكتب الجليلة نظراً لجمال خطه وسرعة كتابته، يكتب في كل يوم ثلاث كراريس، وكان يكتب النسخة ويقابلها، وينقل الطِّباق عليها ويجلّدها، والطباق هو سجل بسند راوي الكتاب وأسماء من حضر قراءة الكتاب، وهي مهمة يُعهَد بها إلى كاتب حسن الخط تسهل قراءة خطه، وثَبْتٍ لئلا يغلط أو يصحف، وأمين لئلا يُدْخِلَ في السماع من لم يكن حاضراً. وكَتَبَ النويري صحيحَ البخاري ثمان مرات، وكان يبيع كل نسخة من البخاري بخطه بألف درهم.
كان النويري فقيهاً فاضلاً، مؤرخاً بارعاً، وله مشاركة جيدة في علوم كثيرة، وجمع تاريخاً كبيراً في ثلاثين مجلداً سماه نهاية الأرب في فنون الأدب، وباعَ نسخة منه بألفي درهم للقاضي إبراهيم جمال الدين المعروف بجمال الكفاة.
وهذا الكتاب هو موسوعة كبرى للكُتَّاب ليراجعوها في كل ما قد يعرض لهم في أمور الديوان وإنشاء الرسائل فيجدوا فيها بغيتهم، وقسمها النويري إلى خمسة فنون أو أقسام يدخل كل قسم في عدة أبواب:
الأول: السماء والآثار العلوية، والأرض والآثار السفلية.
الثاني: الإنسان وما يتعلق به من ذكر وأنثى، وأعضاء كل منهما وصفاتهما، وأحوالهما، وشئونهما كالكلام بأنواعه، والحب والعشق، والأخلاق المحمودة والمذمومة، والخمر والغناء والشعر، والملك والخلافة والقضاء وما قيل في ذلك كله من نظم ونثر.
الثالث: الحيوان الصامت، ويقول - وما أجمل ما قال - في أول هذا القسم:
قد جمعتُ في هذا الفن - أعزك الله تعالى - من أجناس الحيوان بين الكاسر والكاشر، والنافر والطائر؛ والصائد والصائل، والناهق والصاهل؛ والحامل والحالب، واللاذع واللاسب؛ والكانس والسانح، والراسخ والسائح؛ فمن أسدٍ انفرد عظماً بنفسه، وترفّع عن الإلمام بما سواه من جنسه؛ إن وطئ أرضاً مالت الوحوش عن آثاره، أو قصد جهة نفرت من جواره؛ وإن فغر فاه أبرز المُدى وإن مد خطاه قرّب المدى؛ ونمرٍ حديد الناب، موشّى الإهاب؛ وفهدٍ سريع الوثوب والاختطاف، وكلب إن طفئت النيران فهو الجالب للأضياف؛ وضَبُعٍ إن رأت قتيلاً طافت به ومالت إليه، وذئب ما رأى بصاحبه دماً إلا أغار عليه؛ إلى غير ذلك من أنواع الوحوش والآرام، والخيل والبغال والأنعام؛ وذوات السموم القواتل منها وغير القواتل، وأصناف الطير التي تكون تارة محمولة وتارة حوامل؛ وآونة تختطف من الهواء، وحالة تقتنص الوحشَ من البيداء؛ وما شاكل منها الكلب والبهيمة، وما حُبس لسماع صوته فعلت قيمتُه كل قيمه؛ وما ينوح وما يغرد، وما يتلو ويردد؛ وميزت كل حيوان منها بمحاسنه ومناقبه، ونبزته بمعايبه ومثالبه؛ ولولا خشية الإطالة، لوصفت كل حيوان منها برساله؛ لكني استغنيت بما ألّفه من منقولي، عما أصنّفه من مقولي؛ وعلمت أنني أقصُر عن حق هذه الرتبة فأحجمت وأقف دون بلوغ هذه الحلبة فأمسكت؛ وقد تقدمني من بالغ في هذا وأطنب ووجد المقال فبسط القول وأسهب، وحاز المعاني فما ترك لسواه مذهب؛ فاختصرتُ عند ذلك المقال، واقتصرت عل هذه النُّبذة التي أشبهت طيف الخيال؛ ووضعته على أحسن ترتيب، ورتبته على أجمل تقسيم وتبويب.
الرابع: النبات، ويقول في أول هذا القسم:
وهذا الفٌّن وإن جل مقدارُه، وحسنت آثارُه، وأشرقتْ أنوارُه، وزها نُوارُه، وتفّيأتْ خامات زروعِه، ونبت أصوله تحت فروعِه، وتدبّجت خمائله، وتأرجتْ بُكره وطابت أصائله، وابتهج إغريضه، واتسق نضيده، وتسلسلت غُدرانُ مائه وزهت أرضه على سمائه، وتعددت منافعُه، وعذبتْ منابعه، وكان منه ما هو للنفس قوتا، وما حكت ألوانُه زمردا وياقوتا، وما أشبه الٌّلجَيْنَ والعقيان، وما غازل بعيونه مُقل الحِسان، وما نسبت إليه الوجناتُ في احمرارها، وألوان العشاق في اصفرارها، وأشبهته القدود عند تمامها، والثغور في انتظامها، والنهودُ في بروزها وارتفاعها، والخصور في هيفها، والسرور في اتساعها، وما اختلفت ألوانه وطعوم ثماره وإن ائتلفت أراضى مغارسه ومجارى أنهاره، وما تضوع عرفه وفاح نشرُه، وحُسنَ وصفه ولاح بشره، وبقيت أثاره بعد ذبوله أحسن منها يوم زفافه، وحصل الانتفاع به في حالتى غضاضتِه وجفافه، ووصف الطيب في دوائه وعلاجِه، ونص عليه الحكيم في أقْراباذِينِه ومناهجه، وكان هذا الفن أحد شطرى النّامى، وقسيم النوع الحيواني.
فإنا لم نقصدْ بإيرادِه استيعاب نوعِه، واستكمال جِنسه، واستيفاء منافعه ولإحاطة بمجموعه، ولا تصدينا لذلك، ولا تعرضنا لخوض هذه الجج وطُروِق هذه المهالك، لأمور: منها تعذر الإمكان، وضيق الزمان، ولأن هذا الفن عجز عن حصره فلاسفة الحكماء، ومشاهير الأطباء، وسكان البوادي، ومن جمعتهم الرحاب وضمتهم النوادي، ومن لازموا النبات من حين استهلت عليه الأنواء وباكرته الغوادي، فأطلع كل منهم على ما لم يطلع الآخر عليه، وشاهد مالم تنته فكرة غيره إليه، وعلم التركماني منه مالم يعلمه البدوي، وعرف الجبلٌّى مالم يعرفه النبطىّ، وصنف فيه الحكماء الكتب المطوله، وأظهروا من منافعه ومضاره كل فائدة خفية وخاصيةٍ مهمله، وتعددت فيه تصانيفهم، وتواردت واشتهرت تآليفهم، ومع ذلك فما قدروا على حصرِه، ولعلهم لم يقفوا إلا على جزءٍ يسيرٍ من شطرِه.
بل قصدنا بإيراده أن نذكر منه ما عليه وصف للشعراء، ورسائل للبلغاء والفضلاء، لأن ذلك مما لا يستغني عنه المحاضِر، ويضطر إليه الجليس والمسامر، وينتفع به الكاتب في كتابته، ويتسع به على المنشئ مجال بلاغته، فأوردنا منه ما هو بهذه السبيل، استقصينا ما هو من هذا القبيل، وإن كنا زدنا في بعضه على هذا الشرط، وخرجنا من هذا الخط، وتعدينا من وصفه إلى ذكر منافعه ومضاره، وانتهينا إلى إيراد بارده وحاره، ورطبِه ومعتدلِه ومحرقهِ وقابضه وملينه ومطلقه، ونبهنا على توليده وأصلِه، وخساستهِ وفضلهِ، فهذه الزيادة إنما وردت على سبيل الاستطراد، لا على حكم الالتزام والاستعداد، وهي مما تزيد هذا الفن إلى حسنهِ حسنا، وتبدو بها فضائله فرادى ومثنى، ووصلنا فن النبات بالمصوغ والأمنان، لأنهما من توابعه وفروعه، وحلبنا ألبان التكملة له بهما من ضروعه، وألحقنا ذلك بقسم يشتمل على أصناف الطيب والبخورات، والغوالي والمستقطرات، فختمنا الفن منه بمسك، ونظمناه معه في سلك، وحصرنا هذا الفن وما يتعلق به في خمسة أقسامٍ تندرج تحتها أبواب، ولخصناه من أكرِم أصولٍ وأعرقِ أنسابٍ وأوثق أسباب.
ثم القسمالخامس:وخصصه لأخبارالملةالإسلامية،وذكرشيءمنسيرةالرسولالكريمصلىاللهعليه وسلم،وسيرةالخلفاءالراشدين، وجعلتحتهذاالقسماثنيعشرباباً،يشتملالأخيرعلىأخبار الملوك العبيديينالذيننُسبواإلىعليبنأبي طالب،وانتهىبالسلطان قلاوونالصالحي،الذيعاصرهالمؤلف،ودعالهقائلاً: خلّداللهملكهعلىمرالزمان.
وقال في مقدمة هذا القسم:
والتاريخ مما يحتاج إليه الملك والوزير، والقائد والأمير، والكاتب والمشير والغني والفقير، والبادي والحاضر، والمقيم والمسافر.
فالملك يعتبر بما مضى من الدول ومن سلف من الأمم، والوزير يقتدي بأفعال من تقدمه ممن حاز فضيلتي السيف والقلم؛ وقائد الجيش يطلع منه على مكايد الحرب،ومواقف الطعن والضرب؛ والمشير يتدبر الرأي فلا يصدره إلا عن رويه ويتأمل الأمر فكأنه أعطى درجة المعية وحاز فضيلة الألمعيه؛ والكاتب يستشهد به في رسائله وكتبه، ويتوسع به إذا ضاق عليه المجال في سربه، والغنى يحمد الله تعالى على ما أولاه من نعمه ورزقه من نواله، وينفق مما آتاه الله إذا علم أنه لابد من زواله وانتقاله؛ والفقير يرغب في الزهد لعلمه أن الدنيا لا تدوم، ولتيقنه أن سعتها بضيقها لا تقوم، ومن عدا هؤلاء يسمعه على سبيل المسامرة، ووجه المحاضرة والمذاكرة؛ والرغبة في الأطلاع على أخبار الأمم، ومعرفة أيام العرب وحروب العجم.
ثم ينتقد منهج من أرخ على السنين سنة بعد سنة، وهو منهج أغلب مؤرخي المسلمين: ولما رأيت غالب من أرخ في الملة الإسلامية وضع التاريخ على حكم السنين ومساقها، لا الدول واتساقها؛ علمت أن ذلك ربما قطع على المطالع لذة واقعة استحلاها، وقضية استجلاها؛ فانقضت أخبار السنة ولا استوعب تكملة فصولها ولا انتهى إلى جملتها وتفصيلها؛ وانتقل المؤرخ بدخول السنة التي تليها من تلك الوقائع وأخبارها، والممالك وآثارها، والدولة وسيرها، والحالة وخبرها؛ فتنقل من الشرق إلى الغرب، وعدل عن السلم إلى الحرب؛ وعطف من الجنوب إلى الشمال وتحول من البكور إلى الآصال؛ وقد تجول به خيل الاستطراد فيبعد، وتحول بينه وبين مقصده السنون فيغور تارة وتارة ينجد، فلا يرجع المطالع إلى ما كان قد أهمه إلا بعد مشقة، وقد يعدل عنه إذا طالت المسافة وبعدت عليه الشقة.
فاخترت أن أقيم التاريخ دولاُ، ولا أبغى عن دولة إذا شرعت فيها حِولا؛ حتى أسردها من أوائلها إلى أواخرها، وأذكر جملاً من وقائعها ومآثرها؛ وسياقة أخبار ملوكها، ونظم عقود سلوكها؛ ومقر ممالكها، وتشعب مسالكها.
فإذا انقضت مدتها، وانقرضت عدتها؛ وانتقلت من العين إلى الأثر، ومن العيان إلى الخبر؛ رجعت إلى غيرها فقفوت أثرها، وشرحت خبرها، وبينت خبرها؛ وذكرت أسبابها، وسردت أنسابها؛ وبدأت بأصلها، وتفوهت بأخبار من نبغ من أهلها؛ واستقصيتها دولة بعد دولة، وجالت بي خيول المطالعة جولة ناهيك بها من جولة؛ ورغبت مع ذلك في الاختصار دون الاقتصار، وأوردت ما يحتاج إلى إيراده من غير تكرار أو إكثار.
والكتاب بحق موسوعة شاملة استمد المؤلف رحمه الله موادها من تآليف من سبقوه من الكتاب والعلماء والأدباء والمؤرخين، وهو مدهشٌ في شموله واستيفائه، ويدل على منهج موسوعي راسخ، وموهبة وقدرة على تقديم المعلومات في ثوب مختصر مفيد، وتتبين في ثنايا الكتاب الشخصية العلمية للنويري رحمه الله تعالى، فهو أمين في نقله وعزوه لمن ينقل عنهم، وهو مفيد في اختياراته واختصاراته التي يبينها ويعللها، وغني بشروحاته على الأمور التي تحتاج إلى مزيد من الإيضاح والبيان، ويضيف كذلك ملاحظاته وتجربته الشخصية، ويتبين في ذلك كله تقواه وورعه رحمه الله تعالى، وأوُردُ أمثلة على ما سبق فما يلي.
فعندما تناول أعياد الفرس قال رحمه الله: وأعياد الفرس كثيرة جداً، وقد صنف علي بن حمزة الأصفهاني فيها كتاباً مستقلاً ذكر فيه أعيادهم، وسببَ اتخاذهم لها، وسنن ملوكهم فيها. وقد رأيت أن أقتصر على المشهور منها، وهي ثلاثة أعياد: النيروز، والمهرجان، والسدق.
وفي حديثه عن أخبار المنافقين من الأوس والخزرج وما أُنزِل فيهم من القرآن قال: وقد رأيتُ ان أجمع ما فرقه أهل السير من أخبار المنافقين، وأضم بعضه إلى بعض، وأورده جملة واحدة، فإن ذلك لم يكن في وقت واحد ولا في سنة بعينها بل أورده أهل السير بحسب ما وقع، وفرقوه في الغزوات وغيرها، فآثرتُ جمعهُ في هذا الموضع، وما كان قد وقع في غزاة أو حادثة نبهت عليه في موضعه على ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
وفي حديثه عن وصية تركها السلطان المملوكي الملك الصالح نجم الدين أيوب، في مرض موته وهو يحارب الفرنج، لولده الملك المعظم تورانشاه قال النويري: واشتمل كتابه على جملةٍ من الوصايا، وقد وقفتُ على الكتاب المذكور - وهو بخط السلطان الملك الصالح بجملته - وقد رأيت أن أشرح ما تضمنه، لما فيه من الوصايا التي يتعين على الملوك التمسك بها والرجوع إليها، والاعتماد عليها.
وفي حديثه عن الحيوانات المائية تناول النويري السلحفاة فذكر ما قاله علماء المسلمين عنها ثم أضاف: وقد رأيت في سنة 707 بالقاهرة سلحفاةً تحمل الرجل وتمشي به وهو قائم على ظهرها، وما ينزل البحر يعظم حتى لا يكاد الحمار يحمله!
وتتضح تقواه رحمه الله عندما ذكر مهارات الكُتَّاب في الأجوبة المحكمة، أراد أن يذكر بعضاً من أخطائهم فقال: لنَصِلْ هذا الفصلَ بذكر هفوات الأمجاد وكبوات الجياد، وقد رأيت بعض أهل الأدب ممن يستحق الأدب - يعني التأديب - تعرض في هذا الفصل إلى ذكر قصص الأنبياء صلوات الله عليهم كآدم ويوسف وداود وسليمان فكرهتُ ذلك منه، ونزَّهتُ كتابي عنه، قال الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ فكانت هذه هفوةً من المسلمين غفرها الله وعفا عنها.
وقد طبعت دار الكتب المصرية ثمانية عشر مجلداً من الكتاب، ثم تابعت الهيئةالمصريةللكتاب تحقيقه وطباعته فوصلت إلى 31 مجلداً، ولم ينته الكتاببعد، لأن المجلد انتهى إلى أول سنة700 والمؤلف توفي عام 732.
قال الأستاذ العلامة المؤرخ محمد عبد الله عنان رحمه الله في حديثه عن الموسوعات الأجنبية:
يجدر بنا أن نشير إلى الدور الذي أداه التفكير العربي في هذا الميدان؛ فقد عرفت الآداب العربية فكرة الموسوعة بمعناها الشامل، وحققت في هذا الباب جهوداً خليقة بالإعجاب والتقدير. ومنذ القرن الثالث الهجري يبدو أثر هذا الميل إلى التصنيف الشامل واضحاً في كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر واضحاً في كثير من الآثار العربية مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وهي مصنفات يطبعها طابع الموسوعة فيما تتناول من مختلف الموضوعات والأخبار.
كذلك نجد روح الموسوعة ظاهراً في كثير من المصنفات التاريخية العربية؛ فكتاب الكامل لابن الأثير مثلا يعتبر بحق موسوعة تاريخية شاملة تجمع بين مزايا التعميم والترتيب المدهش، وكتاب الوفيات لابن خلكان بلا ريب من أقيم موسوعات التراجم. ومما يلاحظ أن الموسوعة الأوربية الحديثة بدأت كما سنرى بهذا النوع من المصنفات والمعاجم التاريخية الشاملة.
على أن الآداب العربية عرفت في مصر نوعاً أتمَّ من الموسوعة الكبيرة الشاملة؛ ونستطيع أن نقول إن القرن الرابع عشر الميلادي في مصر كان عصر الموسوعات؛ وإذا لم تكن فكرة الموسوعات الجامعة في الأدب العربي مصرية محضة، فقد بلغت ذروتها على الأقل في مصر، وأخرج الكتاب المصريون أعظم وأبدع نماذجها، وكان شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري هو أول كُتَّاب الموسوعات ورأس هذه المدرسة الغزيرة الباهرة، وقد وضع لنا موسوعته الفريدة نهاية الأرب في فنون الأدب في أوائل القرن الثامن الهجري في أكثر من ثلاثين مجلداً كبيراً، فجاءت أثراً ضخماً لم تشهد مثله الآداب العربية من قبل في غزارة المادة وتنوع الموضوعات وطرافة الأوضاع. وأخرج ابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749 موسوعته الجغرافية والتاريخية العظيمة مسالك الأبصار في ممالك الأمصار؛ وفي أواخر هذا القرن وضع القلقشندي المتوفى سنة 821 موسوعته السياسية والإدارية الضخمة صبح الأعشى في صناعة الإنشا، وفي هذه الآثار النفيسة الشاملة نرى طابع الموسوعة وروحها بارزين لا من حيث الضخامة وسعة الأفق فقط، بل ومن الناحية العلمية والفنية أيضاً؛ فكتاب نهاية الأرب الذي يشغل نحو أربعين مجلداً ضخما هو موسوعة تاريخية وجغرافية وأدبية.
اتصل النويري بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون، المولود سنة 684 والمتوفى سنة 741، وحظي عنده وعمل لديه في كتابة الديوان وتولى الحسبة، ونالته على يد السلطان الشاب في سنة 710، قبل أن يرسخ قدمه ويظهر فضله، بعض الشدائد من وكيل السلطان أحمد بن علي بن عبادة الأنصاري الذي كان شديد النفوذ عند السلطان، فقد عيَّن الوكيلُ النويريَّ نائباً عنه لإدارة المدرسة الناصرية والمنصورية وغيرهما، وجعله يدخل على السلطان ويطالعه بالأمور، فاغترَّ النويري بذلك وانتقد تصرفات ابن عبادة أمام السلطان، الذي ذكر لابن عبادة ما قاله النويري في حقه، وسلَّمه إليه ومكنه منه، فضربه بالمقارع ضرباً مبرحاً وصادره.
كان النويري ذكي الفطرة، حسن الشكل، فيه مكرمة وأريحية وودّ لأصحابه، صام شهر رمضان وهو كل يوم بعد العصر يستفتح قراءة القرآن إلى قريب المغرب، ثم حصل له وجع في أطراف أصابع يديه قيل إنه كان سبب موته رحمه الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين