حدث في الثلاثين من رجب وفاة الإمام الشافعي

 

في آخر يوم من رجب لسنة 204 توفي في مصر، عن 54 عاماً، الإمام الشافعي، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد.

 

وهاشم هذا الذي في نسب الشافعي ليس هو هاشما جد النبي صلى الله عليه وسلم، ذاك هاشم بن عبد مناف، فهاشم هذا هو ابن أخي ذاك. والسائب جده صحابي أسلم يوم بدر؛ وكذا ابنه شافع، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع.

 

ولد الشافعي سنة 150 بغزة في فلسطين، وحكى عن ولادته فقال: ولدت بغزة سنة 150، وحمُلِتُ إلى مكة وأنا ابن سنتين، وهناك روايات تذكر عنه أنه ولد باليمن، ويقول ياقوت الحموي في معجم البلدان: وتأول بعضهم قولَه باليمن؛ بأرضٍ أهلُها وسكانها قبائل اليمن، وبلاد غزة وعسقلان كلها من قبائل اليمن وبطونها. ثم علَّق ياقوت: وهذا عندي تأويلٌ حسن إن صحت الرواية، وإلا فلا شك أنه ولد بغزة وانتقل إلى عسقلان إلى أن ترعرع.

 

ونشأ الشافعي يتيماً في حجر أمه، وكانت من قبائل الأزْد اليمنية، وكانت أمه فقيرة لم يكن معها ما تعطي المعلم في الكُتَّاب، فرضي منه المعلم أن يخلفه على التلاميذ إذا قام، وبانت عليه مخايل النباهة وهو في الكُتَّاب، قال تلميذه الربيع بن سليمان المصري المولود سنة 174 والمتوفى سنة 270: سمعت الشافعي يقول: كنت أنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها أنا، ولقد كنت وهم يكتبون أتمتم فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم أكون قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئا.

 

وحفظ الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين، واتجه الشافعي بعد الكُتَّاب إلى تعلم اللغة العربية في البادية، ولفقره وندرة الورق والجلد في زمنه، لجأ إلى المواد الرخيصة ليقيد عليها ما يسمعه، قال رحمه الله: ثم لما خرجت من الكتاب كنت أتلقط الخَزَف والدفوف وكَرَب النخْل وأكتاف الجمال، أكتب فيها الحديث وأجئ إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور فأكتب فيها حتى كانت لأمي حِباب - جِرار ضخمة - فملأتها أكتافا وخَزَفا وكربا مملوءة حديثا، ثم إني خرجت عن مكة فلزمت هُذيلا في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم.

 

ثم رجع الشافعي إلى مكة فلقي بها مصعب بن عبد الله بن الزبير بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، المولود سنة 156 والمتوفى سنة 236، والذي كان من وجهاء قريش، ويلتقي مع الشافعي في جده قصي بن كلاب، فكان كالموجه والراعي للشافعي، ونصحه بالتوجه للعلم الشرعي.

 

 قال الشافعي رحمه الله: فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمر بي مصعب بن عبد الله بن الزبير فقال لي: إلى كم هذا يا أبا عبد الله؟ لو طلبت الحديث والفقه كان أمثل بك، عزَّ عليَّ ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك!

 

درس الشافعي الفقه في مكة على التابعي الإمام مسلم بن خالد، المتوفى سنة 179، والمعروف بالزَّنجي لحمرته أو بياضه، وكان من كبار الفقهاء، وكان إمام أهل مكة، وأعجب بالشافعي وهو أول من أذن له بالإفتاء وهو دون العشرين من العمر. وكان الشافعي في تلك السن مغرماً بالرمي بالسهام يصيب الهدف من العشرة عشرة.

 

ثم رغب الشافعي في الدراسة على الإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة، والتعلم على يديه، فاستعان بمصعب بن عبد الله بن الزبير على ذلك، فذهب به إلى مالك بن أنس في المدينة وأوصاه به، ولما رآه مالك نظر إليه ساعة وكانت لمالك فراسة وقال له: ما اسمك؟ قال: محمد. فقال له: يا محمد، اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، ثم قال: نعم وكرامة، إذا كان غدا تجئ ويجئ من يقرأ لك. فقال الشافعي: أنا أقوم بالقراءة.

 

قال الشافعي: فغدوت عليه ، وابتدأت أن أقرأه ظاهرا والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: يا فتى زد! حتى قرأته في أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة حتى توفى مالك بن أنس سنة 179.

 

وبقي الشافعي حتى بعد أن صار إماماً يشار له بالبنان يثني على الإمام مالك ومصنفه الجليل الموطأ، وكان يقول: ما كتابٌ بعد كتاب الله تعالى أنفع من كتاب مالك بن أنس، وما نظرت في موطأ مالك إلا ازددت فهما.

 

أما قصة الإذن له بالفتوى، فقد روي عن الربيع بن سليمان أن الشافعي كان عند مالك وعنده سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجي فأقبل رجلان، فقال أحدهما: أنا الربيع القماري وقد بعت هذا قُمْرِياً، وحلفت له بالطلاق أنه لا يهدأ من الصياح، فلما كان بعد ساعة أتاني فقال: قد سكَتَ فُرد عليَّ دراهمي، وقد حنثتَ، فقال مالك: بانت منك امرأتك. فمر الشافعي، فقال للبائع: أردتَ أنه لا يهدأ أبداً وأن كلامه أكثر من سكوته؟ فقال: قد علمتُ أنه ينام ويأكل ويشرب، وإنما أردتُ كلامه أكثر من سكوته، فقال: ردّ عليك امرأتك. فأخبر مالكاً، فقال للشافعي: من أين قلت؟ فقال: حديث فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن معاوية وأبا جهم خطباني فقال: إن معاوية صعلوك، وإن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه. وقد كان ينام ويستريح، وإنما خرج كلامه على الأغلب، فعجب مالك فقال الزنجي: أفت فقد آن لك أن تُفتي.

 

ثم درس الشافعي على الإمام المحدث سفيان بن عيينة المولود بالكوفة سنة 107 والمتوفى بمكة سنة  198، وقال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز.

 

ولما رجع الشافعي إلى مكة كان في فاقة شديدة فلجأ إلى مصعب بن عبد الله الزبيري، قال الشافعي: فكلمته ليكلم بعض أهلنا فيعطيني شيئا من الدنيا، فإنه كان بي من الفقر والفاقة ما الله به عليم، فقال لي مصعب: أتيتُ فلانا فكلمته فقال لي: تكلمني في رجل كان منا فخالفنا، قال: فأعطاني مصعب مائة دينار وقال لي: إن هارون الرشيد كتب إلي أن أصير إلى اليمن قاضيا، فتخرج معنا لعل الله أن يعوضك ما كان من هذا الرجل يقرضك.

 

وخرج الشافعي مع مصعب إلى اليمن، فلما صار باليمن، وجالس الناس ارتفع شأنه فضاق به الحساد، فكتب أحد الأعوان إلى هارون الرشيد: إن أردت اليمن لا يفسد عليك ولا يخرج من يديك، فأخرِج عنه - وذكر أقواما من الطالبيين -  ومحمد بن إدريس الشافعي؛ يعمل بلسانه ما لا يقدر المقاتل عليه بسيف! فإن أردت أن تبقي اليمن عليك فأخرجهم إليك.

 

فبعث الرشيد إلى اليمن وحملوا الشافعي مع تسعة من العلوية وهو العاشر إلى بغداد، وكان الرشيد بالرقة فحملوا من بغداد إليه، وأدخلوا عليه ومعه قاضيه محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، وكان صديقا للشافعي وأحد الذين جالسوه في العلم وأخذوا عنه، فلما بلغه أن الشافعي في القوم الذين اتهموا بالخروج على الرشيد والسعي عليه، اغتم لذلك غمّا شديدا، وراعى وقت دخولهم على الرشيد الذي سألهم ثم أمر بضرب أعناق العلويين، ولما جاء دور الشافعي استجوبه الرشيد ومحمد بن الحسن جالس معه، فسعى في تخليصه، قال الشافعي: فقلت: يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي، وإنما أدخلت في القوم بغياً علي؛ وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولي مع ذلك حظ من العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك، وأنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. فقال لي: أنت محمد بن إدريس؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما ذكرك لي محمد بن الحسن، ثم عطف على محمد بن الحسن فقال: يا محمد ما يقول هذا هو كما يقوله؟ قال: بلى، وله من العلم محل كبير، وليس الذي رُفِع عليه من شأنه، قال: فخذه إليك حتى أنظر في أمره. فأخذني محمد وكان سبب خلاصي لما أراد الله عز وجل منه.

 

وهناك روايات أخرى تتحدث عن أن محمد بن الحسن، وفي رواية ومعه الإمام أبو يوسف، حرض الرشيد على قتل الشافعي، الذي خلص نفسه من خلال مناظرة طويلة أفحم فيها محمد بن الحسن، وقد دحض  الإمام ابن حجر الشافعي ذلك في كتابه "توالي التأسيس" فقال: وأما الرحلة المنسوبة إلى الشافعي ... مطولة ومختصرة ... في مناقب الشافعي بغير إسناد ... وهي مكذوبة وغالب ما فيها موضوع، وبعضها ملفق من روايات ملفقة، وأوضح ما فيها من الكذب: أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن حرضا الرشيد على قتل الشافعي، وهذا باطل من وجهين: أحدهما : أن الشافعي لما دخل بغداد كان أبو يوسف قد مات ولم يجتمع به الشافعي. والثاني: أنهما كانا أتقى لله من أن يسعيا في قتل رجل مسلم لاسيما وقد اشتهر بالعلم، وليس له إليهما ذنب إلا الحسد على ما آتاه الله من العلم، هذا ما لا يظن بهما وإن منصبهما وجلالتهما وما اشتهر من دينهما ليصد عن ذلك. والذي تحرر لنا بالطرق الصحيحة: أن قدوم الشافعي بغداد أول ما قدم كان سنة 184، وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنتين، وأنه لقي محمد بن الحسن في تلك القدمة، وكان يعرفه قبل ذلك من الحجاز وأخذ عنه ولازمه.

 

ولا شك أن العلاقة بين الشافعي ومحمد بن الحسن، المولود سنة 132 والمتوفى سنة 189، كانت قائمة على الاحترام بما هو معروف من سجاياهما الشخصية، وبما تقتضيه آداب العلماء، لا سيما وأن الشافعي كان في بعض الأحيان بموقع التلميذ من محمد بن الحسن.

 

 قال الشافعي: حملت عن محمد بن الحسن وقر بعير ليس عليه إلا سماعي. وتذكر الروايات أن محمد بن الحسن كان يصل الشافعي بالمال وهو في بغداد معدم فقير، وأنه دفع إليه خمسين درهما أول ما التقيا ، ثم أعطاه خمسين دينارا بعدما اشتُهِر أمره وكثرت مصاريفه،  ولما أعطاه محمد، قال له: لا تحتشم. فقال: لو كنتَ عندي ممن أستحيي منه، ما قبلت بِرَك.

 

ولا شك أن هذه العلاقة قد تخللتها مناظرات ومناقشات يقوى بها علم العالم ويستد به رأيه، وقد أكد هذه العلاقة الحافظ العالم أبو جعفر الرازي، أحمد بن أبي سريج، المتوفى بعد سنة 240 وهو من أبناء الثمانين، فقد قال: سمعت الشافعي يقول: أنفقتُ على كتب محمد بن الحسن ستين دينارا، ثم تدبرتها فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثا، يعني ردا عليه. ولكن الشافعي كان معجباً بسعة فكر محمد بن الحسن واستنباطه للمسائل وترحيبه بالمناظرة، فقد قال الشافعي: ما رأيت أحدا يسأل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه، إلا محمد بن الحسن. ولقي الشافعي في محمد بن الحسن عالماً فصيح اللسان قوي البيان فلاقى ذلك من نفسه هوى، كيف لا والشافعي من الفصاحة بمكان، قال الشافعي: ولو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن، لقلت لفصاحته. ويؤكد هذا كله أن أحد الجهال ممن لا يفرقون بين الخلاف والاختلاف بين العلماء تنقص محمداً بن الحسن عند الشافعي فقال له الشافعي: مه! لقد تلمظت بمُضغة طالما لفظها الكرام.

 

ويكفي أن نورد هنا منهج الإمام الشافعي الذي ذكره يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وهو تلميذ الشافعي وصاحبه، قال الصدفي: ما رأيتُ أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة.

 

تلك سجايا العلماء الصلحاء، وقد يفيد أن نذكر هنا أن الكتب في مناقب الشافعي كثيرة، ولكن أول من صنف في مناقب الشافعي الإمام داود بن علي الأصفهاني إمام أهل الظاهر، المولود سنة 201 والمتوفى سنة 270، رحمه الله تعالى.

 

وممن أخذ عنهم الشافعي في العراق: الإمام المحدث الفقيه وكيع بن الجراح الكوفي المولود سنة 129 والمتوفى سنة 197، وذكره الشافعي في بيتيه المشهورين:

 

شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي

 

وقال: اعلم بأن العلم نورٌ ... ونور الله لا يؤتى لعاصي!

 

وأخذ الشافعي كذلك عن الحافظ المحدث حماد بن أسامة الهاشمي الكوفي المولود سنة 121 والمتوفى سنة 201، والإمام المحدث عبد الوهاب بن عبد المجيد البصري المولود سنة 108 والمتوفى سنة 194.

 

وقدم الشافعي بعد ذلك إلى بغداد سنة 195 فأقام سنتين، واشتهرت مكانته بين علماء العراق من أهل الحديث والفقه وغيرهما، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه وتمسكوا بطريقته كأبي ثور، وصنف في العراق كتابه الذي حوى أول آرائه الفقهية والمسمَّى كتاب الحجة، والذي يرويه عنه أربعة من جلة فقهاء العراق منهم الإمام أحمد بن حنبل، وسيكون للشافعي بعد استقراره بمصر آراء فقهية مغايرة عرفت بالمذهب الجديد تضمنتها كتبه وكتب أصحابه المصنفة في مصر .

 

وذهب الشافعي رحمه الله إلى مصر سنة 198 أو 199، وسبب قدومه إلى مصر أن المأمون عين على مصر العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، المتوفى سنة 199، فاستخلف ابنه عبد الله، فاستصحب الشافعي، وقال الشافعي يذكر ذلك وهو بمكة:

 

لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها قطع المهامه والقفر

فوالله ما أدري أللفوز والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى القبر؟

 

وكان قدوم الشافعي إلى مصر في فترة سادتها الاضطرابات، فلم يلتفت الناس إليه ولم يظهر علمه ويبزغ نجمه، حدث الربيع بن سليمان قال: لما دخل الشافعي مصر أول قدومه إليها جفاه الناس لما رأوه لا يتبع مالكاً رحمه الله، فلم يجلس إليه أحد قال: فقال له بعض من قدم معه: لو قلت شيئا يجتمع إليك الناس، قال فقال: إليك عني، وأنشأ يقول:

 

أأنثر درا بين سارحة النَّعَمْ ... وأنظم منثوراً لراعية الغنم؟

لعمري لئن ضُيِّعتُ في شر بلدة ... فلست مضيعا فيهم غرر الكلم

لئن سهل الله العزيز بلطفه ... وصادفت أهلا للعلوم وللحكم

بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... وإلا فمكنون لدى ومكتتم

 

ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم

 

وانتهت الاضطرابات في سنة 200 عندما ولي مصر السري ابن الحكم واستقامت له، وكان يكرم الشافعي ويقدمه ولا يؤثر أحدا عليه، فاشتهر الشافعي وأحبه الكبراء والعوام لعلمه وفقهه، وحسن كلامه وأدبه وحلمه، وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام والعراق واليمن وسائر النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه الجديدة التي صنفها في مصر.

 

أمضى الشافعي 4 سنوات في مصر، بارك الله له فيها، لازم الاشتغال بالتدريس والإفادة في جامع عمرو، وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره، فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو حتى يقرب انتصاف النهار، ثم ينصرف إلى منزله.

 

وبث الشافعي في هذه الفترة المباركة علماً كثيراً نجده في كتاب الأم وفي الجوامع التي جمع فيها تلاميذه أقواله، وفي المختصرات التي اختصروا فيها مذهبه، وهذا مع كونه عليلاً شديد العلة من البواسير.

 

 قال الربيع تلميذه: أقام الشافعي ههنا أربع سنين، فأملى ألفا وخمسمئة ورقة، وخرج كتاب الأم ألفي ورقة، وكتاب السنن وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين، وكان عليلا شديد العلة.

 

وحدث المزني وهو إبراهيم إسماعيل بن يحيى قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله جل ذكره واردا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:

 

فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما

 

تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما

 

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما

 

تزوج الشافعي حميدة بنت نافع بن عنبسة بن عمرو بن عثمان ابن عفان، فولدت له محمدا، وكان قاضيا للجزيرة الفراتية، وتوفي بعد سنة 240، وولدت له فاطمة وزينب.

 

أصبح للشافعي في مصر تلاميذ ورواة صاروا أئمة من بعده توسعوا في أصوله وبنوا على ما أسسه لهم، وأولهم أبو يعقوب البويطي، يوسف بن يحيى القرشي المتوفى سنة 231 مسجوناً في المحنة بخلق القرآن في بغداد، وقام البويطي مقامه في الدرس والافتاء بعد وفاته، بوصية من الشافعي، فقد قال: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى، وليس أحد من أصحابي أعلم منه.

 

ويليه أبو إبراهيم المُزَني، إسماعيل بن يحيى، المولود سنة 175 والمتوفى سنة 264، قال الشافعي عنه: المزني ناصر مذهبي. وكان معجباً بقوة حجته وحضور ذهنه وسعة تفكيره، قال الشافعي عنه: لو ناظر الشيطان لغلبه! وكان المزني رحمه الله زاهدا عالما مجتهدا قوي الحجة، له كتب في المذهب: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر، والترغيب في العلم. وهو الذي غسل الإمام بعد موته.

 

ومن كبار أصحاب الشافعي: الإمام أبو موسى الصدفي، يونس بن عبد الأعلى، المولود سنة 170 والمتوفى سنة 264، صحب الشافعي وأخذ عنه، وكان عالما بالأخبار والحديث، وافر العقل، انتهت إليه رياسة العلم بمصر. قال الشافعي: ما رأيت بمصر أحدا أعقل من يونس.

 

ومن كبار أصحاب الشافعي : الإمام أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، المولود سنة 182 والمتوفى سنة 268، تفقه على مالك ثم صحب الشافعي وقرأ عليه، وكان من أهل الدين والورع مع علم دقيق بأقوال الصحابة والتابعين ومذهب الإمام مالك، ولكنه اعتزل المذهب لوحشة وقعت بينه وبين البويطي حول من هو أحق منهما بخلافة الشافعي في مجلسه. ودفن رحمه الله إلى جانب الإمام الشافعي مع أبيه وأخيه.

 

وهناك كذلك صاحب الإمام وراوي كتبه، أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي، وهو أول من أملى الحديث بجامع ابن طولون، وحدث بكتب الشافعي كلها ونقلها الناس عنه، وتوفي سنة 270.

 

أما من أخذ عنه في العراق من كبار أهل العلم فهم كثر، ويكفي أن منهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكنهم لم يتحولوا إلى مذهبه في الفقه، ولعل سبب ذلك أن مدرسته الفقهية ما كانت قد تبلورت بعد، فهي مثلها مثل المذاهب الأخرى قام بها تلاميذ الأئمة الأعلام فشادوا صروحها ونشروها في البلدان، ولا بد هنا من الحديث عن الإمام الفقيه أبي ثور الكلبي، إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، المولود في حدود سنة 170 والمتوفى ببغداد سنة 240، والذي كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وفضلا، له مصنفات كثيرة منها كتاب ذكر فيه اختلاف مالك والشافعي، وذكر مذهبه في ذلك، وهو أكثر ميلا إلى الشافعي في هذا الكتاب وفي كتبه كلها، وكان  في الأصل ممن يميل إلى المذهب الحنفي مع استقلال فيه، فلما أخذ عن الشافعي مال إليه.

 

وينبغي الإشارة هنا إلى أحد الرواة عن الشافعي رحمه الله، وهو ابن ابنته أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع، المتوفى سنة 295، وكان أبوه من فقهاء أصحاب الشافعي، فتزوج بابنة الشافعي زينب، فأولدها أحمد، وتفقه بأبيه وروى الكثير عنه عن الشافعي،وكان واسع العلم جليلاً فاضلاً لم يكن في آل شافع بعد الإمام أجل منه.

 

وكان الشافعي من أفصح الناس وأعلمهم بالعربية والأشعار وأخبار العرب، قال الإمام عبد الملك بن هشام صاحب السيرة المتوفى بمصر سنة 213: جالست الشافعي زمانا فما سمعته تكلم بكلمة إلا اعتبرها المعتبر، ولا يجد كلمة في العربية أحسن منها، والشافعي كلامه لغة يحتج بها.

 

وقال الحسن بن محمد الزعفراني المتوفى سنة 253، وهو راوية الإمام الشافعي: كان قوم من أهل العربية يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا ويجلسون ناحية، فقلت لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم، فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي. وقال مصعب الزبيري: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هُذيل حفظا، وقال: لا تُعلِم بهذا أحدا من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا.

 

قال يونس بن عبد الأعلى: كان الشافعي إذا أخذ في العربية، قلت: هو بهذا أعلم! وإذا تكلم في الشعر وإنشاده، قلت: هو بهذا أعلم! وإذا تكلم في الفقه، قلت: هو بهذا أعلم!

 

وللشافعي رحمه الله أشعار تروى، وديوان مجموع مطبوع، وتنسب إليه كثير من الأشعار في الحكمة والزهد، ومما يروي للشافعي رضي الله عنه:

 

أصبحت مطَّرَحا في معشر جهلوا ... حق الأديب فباعوا الرأس بالذنب

والناس يجمعهم شمل وبينهم ... في العقل فرق وفي الآداب والحسب

 

كمثل ما الذهب الإبريز يشركه ... في لونه الصُفر، والتفضيل للذهب

والعود لو لم تطب منه روائحه ... لم يفرق الناس بين العود والحطب

 

ومنها في تعزية:

 

إني أعزيك لا أني على طمع ... من الخلود ولكن سنة الدين

 

فما المعزَّى بباق بعد صاحبه ... ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حين

 

وكان للشافعي امرأة يحبها وهي تعرض عنه فقال:

 

ومن البلية أن تحب ... ولا يحبك من تحبه

 

ويصد عنك بوجهه ... وتلج أنت فلا تغبه

 

وجاء الشافعي من سفر ومعه في الركب رجلٌ في حجره عود، فاستغرب أصحابه ذلك، فقال الشافعي:

 

وأنزلني طولُ النوى دارَ غربة ... إذا شئت لاقيتُ امرأ لا أشاكله

أحامقه حتى تقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله

 

وقال الشافعي رحمه الله في الذي اغتنى بعد فقر فارتفع قدره بالمال وتملكه الغرور والضلال:

 

وأنطقت الدراهم بعد صمت ... أناسا بعد ما كانوا سكوتا

 

فما عطفوا على أحد بفضل ... ولا عرفوا لمكرمة ثبوتا

 

وللشافعي رحمه الله نصائح وحكم لتلاميذه وأصحابه حقها أن تكتب بماء الذهب، لا يتسع المجال لإيرادها كلها فنكتفي ببعضها، قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: أصعب الأعمال ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف. وقال ليونس بن عبد الأعلى: يا يونس، الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط اليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.

 

ونصح الشافعي تلميذه يونس بن عبد الأعلى فقال له: يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادر بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن الْقَه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تُسمي المبلِّغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئا. وإن اعترف بذلك فرأيتَ له في ذلك وجها بعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردتَ بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ماله وجه من العذر فاقبله، وإن لم يذكر لذلك وجها لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار، إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أبلغ للتقوى وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى في سورة الشورى: ?وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ?  فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فاذكر فيما سبق له لديك، ولا تبخس باقي إحسانه السالف لهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه، يا يونس، إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل.

 

وحدث يونس بن عبد الأعلى الصدفي قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: يا أبا موسى، رضا الناس غاية لا تدرك، ما أقوله لك إلا نصحا، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه، ودع الناس وما هم فيه، فإنه لا سبيل الى رضاهم.

 

وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وخانه.

 

أما نصائحه لطلبة العلم فهي مشكاة نورانية تضيئ لهم طريق المعرفة والتعلم، قال المُزني: سمعت الشافعي يقول: مَنْ تعلم القرآن جلَّ في عيون الناس، ومَنْ كتب الحديث قويت حجته، ومَنْ نظر في الفقه نبل مقداره، ومَنْ تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلّم الحساب جزل رأيه، ومَنْ لم يصن نفسه لم ينفعه علمه، وملاك ذلك كله التقوى، وطلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وقال الشافعي: طالب العلم يحتاج الى ثلاث: إحداها حسن ذات اليد، والثانية طول عمر، والثالثة يكون له ذكاء. وقال رحمه الله: من ضُحِكَ منه في مسالة لم ينسها ابدا.

 

وبين الشافعي منهجه في العلم والتعلم فقال: العالم يسأل عما يعلم وعما لا يعلم، فيثبت ما يعلم، ويتعلم ما لا يعلم، والجاهل يغضب من التعلم، ويأنف من التعليم، واستعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكر.

 

وكان الشافعي آية في التواضع ونكران الذات والبعد عن الكبرياء، كان يقول: لوددت أن الخلق يعلمون مني ولا يُنسب إليَّ منه شيء، و ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ بل أحب أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه، ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلهما مني إلا هبته واعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني.

 

وخرج الشافعي يوما من سوق القناديل متوجها إلى حجرته، فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت الشافعي إلى أصحابه وتلاميذه فقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادُّها كما شقي بها قائلها.

 

ونختم بإيراد أنموذج من المناظرات العلمية التي ساهمت في تلاقح الأفكار وتسديد الأراء، وهي مناظرة يرويها الإمام الحافظ إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه المروزي، المولود سنة 161 والمتوفى سنة 238 رحمه الله تعالى، وكان رحالة رحل إلى العراق والحجاز والشام واليمن، وأخذ عنه الامام أحمد ابن حنبل والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم،واجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد.

 

قال إسحاق بن راهويه: كنا في مكة عند سفيان بن عيينة نكتب أحاديث عمرو بن دينار، فجاءني أحمد بن حنبل فقال لي يا أبا يعقوب: قم حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله. قال: فقمت فأتى بي فناء زمزم فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل، وأجلسني إلى جانبه فقال له: يا أبا عبد الله، هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي فرحب بي وحياني، فذاكرته وذاكرني فانفجر لي منه علم أعجبني حفظه.

 

فلما أن طال مجلسنا قلت له: يا أبا عبد الله قم بنا إلى الرجل، قال: هذا هو الرجل، فقلت يا سبحان الله، أقمتنا من عند رجل يقول: حدثنا الزهري، فما توهمت إلا أن تأتي بنا إلى رجل مثل الزهري أو قريب منه. فأتيت بنا إلى هذا الشاب أو هذا الحدث، فقال لي يا أبا يعقوب: اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله. قال إسحاق: فسألته عن كِراء بيوت مكة، فقال: جائز، فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كره كرى بيوت مكة، وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة وقال: يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار؟ قال إسحاق: فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها ولا أرى أن أحدا فهمه، فقلت: أتأذن لي في الكلام؟ فقال نعم، فقلت: حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك.

 

ولم يكن الشافعي عرف إسحاق، فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ فقال: هذا إسحاق بن إبراهيم بن الحنظلي بن راهويه الخراساني. فقال له الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ قال إسحاق: هكذا يزعمون. قال الشافعي: لو قلت قولك احتجت إلى أن أسلسل أنا! أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول: عطاء وطاوس ومنصور وإبراهيم والحسن وهؤلاء لا يرون ذلك، هل لأحد مع رسول الله صلى عليه وسلم حجة؟

 

قال إسحاق لبعض من معه من المراوزة بلسانهم: الرجل مالاني، ومالان: قرية من قرى مرو وأهلها فيهم سلامة يدعون العلم، وليس لهم علم واسع. فلما سمع الشافعي تراطنه علم أنه قد نسبه إلى شيء، فقال تناظر؟ وكان إسحاق جريئا فقال: ما جئت إلا للمناظرة. فقال له الشافعي: قال الله عز وجل في سورة الحشر: ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ? نسبَ الدارَ إلى المالكين أو غير المالكين؟ قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. أنسبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الدارَ إلى مالك أو إلى غير مالك؟ قال إسحاق: إلى مالك. فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وذكر له جماعة من أصحاب صلى الله عليه وسلم اشتروا دور مكة وجماعة باعوها.

 

قال إسحاق: قال الله عز وجل في سورة الحج: ?سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ?، فقال الشافعي: اقرأ أول الآية. قال: ?وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ? والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: ?لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله عز وجل في سورة البقرة: ?وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ?، فدل ذلك أن قوله عز وجل: ?سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ? في المسجد خاص، فأما من ملك شيئا فله أن يكرى وأن يبيع، ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز أن تنشد فيها ضالة ولا ينحر فيها البدن ولا تنثر فيه الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة.

 

قال إسحاق: فلما تدبرت ما قال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار؟ علمتُ أنه قد فهم ما ذهب عنا، ولو كنت قد أدركني هذا الفهم وأنا بحضرته لعرفته ذاك، ثم نظرنا في كتبه فوجدنا الرجل من علماء هذه الأمة.

 

ومن كبار علماء البصرة في ذلك الزمان الحافظ عبد الرحمن بن مهدي اللؤلؤي البصري، المولود بالبصرة سنة 135 والمتوفى بها سنة 198، فلما قابل الشافعي ورأى ما يتمتع به من ملكة في وضع القواعد والأصول، طلب منه أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة، قال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي فيها. وقال الشافعي عن ابن مهدي: لا أعرف له نظيرا في الدنيا.

 

وقال أحمد بن حنبل: كان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي، ما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي، وإني لأدعو الله له في أدبار صلواتي فأقول: اللهم اغفر لي ولوالدي ولمحمد بن إدريس الشافعي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين