حدث في الثلاثين من ربيع الآخر

 

في الثلاثين من ربيع الآخر من سنة 463 توفي في شاطبة بالأندلس، عن 95 عاماً، الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النَّمَري القرطبي، أمام الأندلس في علم الشريعة والحديث، وأحد أعلام العلماء ديناً ونزاهة، وصاحب التصانيف الهامة في الحديث والسيرة والأنساب والرجال والتاريخ والأدب.
 
ولد ابن عبد البر في قرطبة سنة 368، وكان والده من فقهاء قرطبة، صالحاً عابداً مجتهدا، درس الفقه على شيخ المالكية بقرطبة أبي إبراهيم التجيبي، إسحاق بن إبراهيم المتوفى سنة 350، وكان له ملازماً، وكان التجيبي من أهل العلم، والفهم، والعقل، والدين المتين، والزهد، والبعد من السلطان، لا تأخذه في الله لومة لائم. وتوفي الوالد سنة 380 عن 50 عاماً، ولم يسمع منه ابنه أبو عمر لصغره.
وأخذ ابن عبد البر الحديث عن ابن الزيات، أبي محمد التجيبي، عبد الله بن محمد، المتوفى سنة 390، والذي رحل إلى المشرق مرتين في طلب الحديث، وكان صدوقاً كثير الحديث.
وأخذ ابن عبد البر الحديث عن الحافظ الإمام المتقن أبي القاسم ابن الدباغ، خلف بن قاسم بن سهل القرطبي، المولود سنة 325 والمتوفى سنة 393، وكان أبو عمر ابن عبد البر لا يقدم عليه من شيوخه أحدا، وبالغ في وصفه، وقال: كتب بالمشرق عن نحو ثلاث مئة شيخ، وكان من أعلم الناس برجال الحديث وأكتبهم له، وهو محدث الأندلس في وقته. وكان ابن الدباغ قد قام برحلة واسعة في المشرق، جمع فيها مسانيد المحدثين، قال الإمام ابن عبد البر: ناولني خلفُ بن القاسم الحافظُ مسندَ ابن ناجية، وهو في 132 جزءاً، بروايته عن أبي قتيبة سلم بن الفضل البغدادي، عن ابن ناجية، رحمه الله تعالى. وابن ناجية محدث بغدادي حافظ توفي عن سن عالية سنة 301.
ومن كبار مشايخ ابن عبد البر أبو محمد الجهني الطليطلي المالكي، عبد الله بن محمد، المولود سنة 310 والمتوفى سنة 395، وكان فقيهاً أديباً محدثاً مسنداً، سمع بالأندلس ورحل إلى مصر والحجاز، وكان لا يعير كتاباً إلا لمن يثق به ولا يُسمِعُ من غير كتابه.
ودرس ابن عبد البر على الإمام الحافظ المحقق، أبو عمر ابن الباجي، أحمد بن عبد الله اللخمي الإشبيلي، المولود سنة 332 والمتوفى سنة 396، وكان إماما مشهورا عارفا بالحديث ووجوهه، ذا وقار وسمت، قال عنه ابن عبد البر: كان يحفظ كتابي غريب الحديث لأبي عبيد، وابن قتيبة، وكان فقيه عصره، وإمام زمانه، لم أر بالأندلس مثله، كتبت عليه مصنف ابن أبي شيبة سنة 395. ومصنف ابن أبي شيبة كتاب ضخم مشحون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين، وكنز كبير لأهل الفقه والحديث.
ودرس ابن عبد البر على الحافظ الكبير أبي الوليد ابن الفرضي القرطبي، عبد الله بن محمد، المولود سنة 351 والمتوفى قتيلاً في فتنة البربر سنة 403، والذي كان محدثاً فقيهاً عالماً في جميع فنون العلم، حسن البلاغة والخط، وله كتبٌ في الرجال والأسماء والتاريخ، أهمها كتاب تاريخ علماء الأندلس، وكان قاضي بلنسية، وعنه أخذ ابن عبد البر كثيراً من الحديث وعلوم الرجال، وقال عنه: كان فقيهاً عالماً في جميع فنون العلم في الحديث، وعلم الرجال. وله تواليف حسان، وكان صاحبي ونظيري. أخذت معه عن أكثر شيوخه، وأدرك من الشيوخ ما لم أدركه أنا، كان بيني وبينه في السن نحو من خمس عشرة سنة، صحبته قديماً وحديثاً. وكان حسن الصحبة والمعاشرة، حسن اللقاء، قتلته البربر في سنة الفتنة وبقي في داره ثلاثة أيام مقتولا، وحضرت جنازته عفا الله عنه، وأورد له ابن عبد البر أبياته المشهورة، وأولها:
أسير الخطايا عند بابك واقفٌ ... على وجلٍ مما به أنت عارف
يخاف ذنوباً لم يغب عنك عيبها ... ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائف
ودرس ابن عبد البر مدونة سحنون في الفقه المالكي على أبي عمر ابن المكوي المالكي، أحمد بن عبد الملك، المولود سنة 324 والمتوفى سنة 401، وكان كبير المفتين بقرطبة، حافظاً للمذهب مقدماً فيه، بصيراً بأقوال أصحاب مالك دعي لقضاء قرطبة مرتين فأبى، وصنف كتاب الاستيعاب في رأي مالك، فجاء به في مائة جزء، قال تلميذه أبو محمد بن الشقاق الفقيه يوم دفنه على قبره: رحمك الله أبا عمر، فقد فضحت الفقهاء بقوة حفظك في حياتك، ولتفضحنهم بعد مماتك، أشهد أني ما رأيت أحداً حفظ السنة كحفظك، ولا علم من وجوهها كعلمك.
ودرس ابن عبد البر المدونة كذلك على ابن الجسور، أبي عمر، أحمد بن محمد القرطبي، المتوفى سنة 401 وله نيف وثمانون سنة، وقرأ عليه كذلك تفسير ابن عيينة والموطأ.
وانتهت إليه رئاسة الحديث بالأندلس، وصار محدث الأندلس هو والإمام أبا حفص الزهراوي، عمر بن عبيد الله، المولود سنة 361 والمتوفى سنة 454.
وكان ابن عبد البر ظاهرة نادرة بين كبار المحدثين، فهو كثير الشيوخ على أنه لم يخرج عن الأندلس، لكنه سمع من أكابر أهل الحديث بقرطبة وغيرها، ومن الغرباء القادمين إليها، وقد جمع شيوخَ ابن عبد البر ورتبهم على حروف المعجم، المؤرخُ البحاثة أبو القاسم خلف بن عبد الملك ابن بَشكوال، المولود سنة 494 والمتوفى سنة 578، صاحب كتاب الصلة في ذيل تاريخ علماء الأندلس لأبي الوليد الفرضي.
ثم فارق ابن عبد البر قرطبة وجال في غرب الأندلس مدة ثم سكن دانية وبلنسية وشاطبة في أوقات مختلفة وتولى قضاء لشبونة وشنترين .
 
ابتدأ الإمام ابن عبد البر حياته الفقهية متبعاً للمذهب الظاهري، ولعل ذلك سبب علاقته الوثيقة بابن حزم الظاهري، علي بن محمد، المولود سنة 384 والمتوفى سنة 465، ثم تحول إلى المذهب المالكي، الذي لم يقبل أهل الأندلس عنه بديلاً، ولكنه كان كما يقول تلميذه الحميدي رحمه الله يميل في الفقه إلى اقوال الشافعي رحمة الله عليه. وعقب على ذلك الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: ولا يُنكَر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الائمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته، بان له منزلتُه من سعة العلم، وقوة الفهم، وسيلان الذهن، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه، ونغطي معارفه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه.
 
ومن معاصري ابن عبد البر الإمام المحدث الفقيه أبو الوليد الباجي، سليمان بن خلف المولود سنة 403 والمتوفى سنة 474، سمع الحديث بالأندلس، ثم رحل إلى المشرق فأخذ الفقه والحديث وعلم الكلام، وبرز فيها، ورجع إلى الأندلس بعد 13 سنة بعلوم كثيرة حصّلها مع الفقر والتّعفّف، وله مناظرات جميلة مع ابن حزم الظاهري، وروى عنه ابن عبد البر، مع أنه أسنُّ منه، وذلك لوفرة ما حصله من الحديث، رحمه الله تعالى. وقد أثنى الباجي على ابن عبد البر فقال: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث؛ أبو عمر أحفظ أهل المغرب.
 
ومن مشاهير من أخذ عن ابن عبد البر أبو عبد الله الحَميدي، محمد بن فتّوح، المولود سنة 429 والمتوفى ببغداد سنة 488، الحافظ العلامة مؤلف كتاب الجمع بين الصحيحين، وكان ظاهريّ المذهب، دؤوباً على طلب العلم، كثير الاطلاع، ذكياً فطناً صيِّناً ورعاً أخبارياً متفنِّناً، كثير التصانيف، حجة ثقة رحمه الله.
 
وقد أكثر الحميدي النقل عن ابن عبد البر في كتابه جذوة المقتبس في ذكر ولاة الاندلس وأسماء رواة الحديث وأهل الفقه والأدب وذوي النباهة والشعر، وهو كتاب ألفه ببغداد ليعرف بعلماء الأندلس، وقال فيه عن ابن عبد البر: وقد لقيناه وكتب لنا بخطه في فهرسة مسموعاته ومجموعاته، مجيزاً لنا، وكاتباً إلينا، بجميع ذلك كله، وتركته حياً وقت خروجي من الأندلس سنة 448، ثم بلغني وفاته.
 
 
 
وممن اختص بابن عبد البر من المحدثين المحدث أبو الحسن طاهر بن مفوز المعافري الشاطبي، المولود سنة 427 والمتوفى سنة 484، وعني بالحديث العناية الكاملة وشهر بحفظه وإتقانه، وكان حسن الخط جيد الضبط مع الفضل والصلاح والورع والانقباض والتواضع والزهد، وله شعرٌ حسنٌ منه قوله:
 
عدة الدين عندنا كلمات ... أربع من كلام خير البرية
 
آتق المشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملن بنيه
 
ولطاهر بن مفوز، أخ اسمه عبد الله توفي سنة 475، وكان من أهل العلم والفهم والصلاح والورع والزهد مشهوراً بذلك، روى كذلك عن أبي عمر ابن عبد البر كثيراً، ثم زهد فيه لصحبته السلطان، وكان ابن عبد البر يقبل صلات الحكام، وبلغه وهو بشاطبة أن أقواماً عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه، وذلك أمرٌ ورد عن كثير من الصحابة والتابعين، فقال:
 
قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراءِ
 
أنت من جهلك هذا ... في محلّ السفهاء
 
وأخذ عن ابن عبد البر الحافظ أبو علي الغساني الجياني، الحسين بن محمد بن أحمد، المولود سنة 427 والمتوفى سنة 498، رئيس المحدثين بقرطبة، بل الأندلس، وقال الغساني إن أبا عمر بن عبد البر قال له: أمانةُ الله في عنقك، متى عبرت على اسم من أسماء الصحابة لم أذكره، إلا ألحقته في كتابي الذي في الصحابة.
 
وممن أخذ عن ابن عبد البر سبطه أبو محمد اللخمي، عبد الله بن علي بن أحمد بن علي الشاطبي، المولود سنة 443 والمتوفى سنة 533، فقد أسمعه جده الحديث، ومنحه الإجازة بمصنفاته في سنة 462، وولي السبط قضاء مدينة أغمات في المغرب. وعلى ذكر الإجازة فقد كان ابن عبد البر يقول: الإجازة في العلم رأس مال كبير.
 
وممن أخذ عن ابن عبد البر سيدة فاضلة ومحدثة من محدثات الأندلس هي طوية بنت عبد العزيز ، المكناة بحبيبة، والمولودة سنة 437 والمتوفاة سنة 506، وهي زوج أبي القاسم بن مدير الخطيب المقرئ، فقد أخذت عنه كثيرا من كتبه وتواليفه، وكانت حسنة الخط فاضلة دينة.
 
كان ابن عبد البر موفقا في التأليف، معانا عليه، ألف كتباً كثيرة نافعة في مواضيع متنوعة، ونجد الموطأ موضوع أهم كتبه، لأن مذهب الإمام مالك رحمه الله أصبح مذهب أهل الأندلس رعاة ورعية، فأقبل عليه علماؤها بالشروح والتعليقات، وصنف فيه الإمام ابن عبد البر كتابه التقصي لما في الموطأ لمالك بن أنس، وكتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، وللدلالة على ما سبق نجد معاصره أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي يؤلف كذلك كتاب المنتقى في شرح الموطأ.
 
واهتم ابن عبد البر بعلم الرجال والتراجم لأنه لصيق بكل العلوم، وقال في ذلك: معرفة أعمار العلماء والوقوف على وفياتهم من عِلم خاصة أهل العلم، وأنه لا ينبغي لمن وسم نفسه بالعلم جهل ذلك، وانه مما يلزمه من العلم العناية به والقيام بحفظه. ومن أهم مؤلفات ابن عبد البر:
 
كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، وخدم ابن عبد البر بكتابه هذا الموطأ خدمة بالغة، فإنه ترجم فيه لرواة مالك في الموطأ ورتبهم على حروف المعجم، وتحدث على متون الأحاديث، ووصل المقطوع منها، وذكر الموقوف والمرفوع، وهو كتاب كبير في سبعين جزءا، تتبين فيه غزارة علم ابن عبد البر، قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا، فكيف أحسن منه؟
 
وقد قام الإمام المقرئ الشاطبي الرعيني، أبو محمد القاسم بن فِيرَّة، المولود بشاطبة سنة 528 والمتوفى بمصر سنة 590، بنظم قصيدة دالية من 500 بيت من حفظها أحاط بكتاب التمهيد.
 
ولابن عبد البر في كتابه التمهيد أبيات تبين علاقته الوثيقة بهذا الكتاب العظيم، وهي علاقة الحبيب بالمحبوب:
 
سميرُ فؤادي من ثلاثين حجة ... وصاقلُ ذهني والمفرِّجُ عن همي
 
بسطت لكم فيه كلام نبيكم ... لما في معانيه من الفقه والعلم
 
وفيه من الآداب ما يُقتدى به ... إلى البر والتقوى وينئي عن الظلم
 
كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب، وقد سماه بالاستيعاب لتقديره أنه استوعب فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أورد فيه ابن عبد البر 3500 من الصحابة، ولما كان هذا العمل الموسوعي مما تقصر دونه الأعمار لا سيما في زمان المخطوطات، فقد كان من الطبيعي أن يكون فيه زيادة لمستزيد، وأن يفوت ابن عبد البر عدد كبير من الصحابة، وقد صنف علماء الأندلس والمشرق لهذا الكتاب مختصرات ومستدركات تسمى عادة بالذيول، وأتمها كتاب أُسْدُ الغابة في معرفة الصحابة، إذ اشتمل على 7554 شخصاً، والذي صنفه الإمام عز الدين أبي الحسن ابن الأثير الجزري، المولود سنة 555 والمتوفى سنة 630، وصاحب كتاب الكامل في التاريخ.
 
وقال ابن عبد البر رحمه الله في مقدمة الاستيعاب:
 
فإن أولى ما نظر فيه الطالب، وعُنيَ به العالم، بعد كتاب الله عز وجل، سنن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهي المبينة لمراد الله عز وجل من مجملات كتابه، والدالة على حدوده، والميسرة له، والهادية إلى الصراط المستقيم؛ صراط الله، من اتبعها اهتدى، ومن سلك غير سبيلها ضل وغوى، وولاه الله ما تولى، ومن أوكد آلات السنن المعينة عليها، والمؤدية إلى حفظها، معرفة الذين نقلوها عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة، وحفظوها عليه، وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها، ناصحين محسنين، حتى كمل بما نقلوه الدين، وثبتت بهم حجة الله تعالى على المسلمين، فهم خير القرون وخير أمة أخرجت للناس.
 
كتاب الإنباه على قبائل الرواة، وهو كتاب صغير، ولكنه بمثابة المدخل إلى كتاب الاستيعاب، وقد قال في مقدمته:
 
فإني ذكرت في كتابي هذا أمهات القبائل التي رَوت عن رسول الله، وقربت ذلك واختصرته وبيّنته، وجعلته دليلا على أصول الأنساب، ومدخلاً إلى كتابي في الصحابة، ليكون عوناً للناظرين فيه، ومنبهاً على ما يُحتاج إليه من معرفة الأنساب، فإنه عِلْمٌ لا يليق جهلُه بذوي الهمم والآداب، لما فيه من صلة الأرحام، والوقوف على ما نَدب إليه النبي بقوله: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم.
 
كتاب جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله، وهو كتاب فريد في بابه، لا يستغني عنه طالب علم لما حواه من أدب العلم والتعلم، قال ابن عبد البر رحمه الله في المقدمة:
 
فإنك سألتني رحمك الله عن معنى العلم، وفضل طلبه، وحمد السعى فيه، والعناية به، وعن تثبيت الحجاج بالعلم، وتبيين فساد القول في دين الله بغير فهم وتحريم الحكم بغير حجة، وما الذي أجيز من الاحتجاج والجدل؟ وما الذي كره منه؟ وما الذي ذم من الرأي؟ وما حمد منه؟ وما جوز من التقليد وما ذم منه؟
 
ورغبت أن أقدم لك قبل هذا من آداب التعلم وما يلزم العالم والمتعلم التخلق به، والمواظبة عليه، وكيف وجه الطلب، وما حمد ومدح منه من الاجتهاد والنصب إلى سائر أنواع التعلم وفضل ذلك، وتلخيصه بابا بابا مما روي عن سلف هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين لتتبع هديهم، وتسلك سبيلهم، وتعرف ما اعتمدوا عليه من ذلك مجتمعين أو مختلفين في المعنى منه، فأجبتك إلى ما رغبت، وسارعت فيما طلبت رجاء عظيم الثواب، وطمعا في الزلفى يوم المآب، ولما أخذه الله تعالى على المسئول العالم بما سئل عنه من بيان ما طلب منه، وترك الكتمان لما علمه، قال الله تعالى﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار».
 
كتاب بهجة المجالس وأنس المُجالِس، في الأدب والملح والحكم والأشعار، وقد قال في مقدمته:
 
وقد جمعت في كتابي هذا من الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والحكم البالغة، والحكايات الممتعة في فنون كثيرة وأنواع جمة، من معاني الدين والدنيا، ما انتهى إليه حفظي ورعايتي، وضمّته روايتي وعنايتي، ليكون لمن حفظه ووعاه، وأتقنه وأحصاه زيناً في مجالسه، وأنساً لمُجالسه، وشحذاً لذهنه وهاجسه، فلا يمر به معنى في الأغلب مما يذاكر به، إلا أورد فيه بيتاً نادراً، أو مثلاً سائراً، أو حكاية مستطرفة، أو حكمة مستحسنة، يحسن موقع ذلك في الأسماع، ويخفف على النفس والطباع، ويكون لقارئه أنساً في الخلاء، كما هو زين له في الملاء، وصاحباً في الاغتراب، كما هو حلي بين الأصحاب.
 
وجمعت في الباب به منه المعنى وضده، لمن أراد متابعة جليسه فيما يورده في مجلسه، ولمن أراد معارضته بضده في ذلك المعنى بعينه، ليكون أبلغ وأشفى وأمتع.
 
وقد قربته، وبوبته ليسهل حفظه، وتقرب مطالعته، وافتتحت أكثر أبوابه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم تبركاً بتذكاره، وتيمناً بآثاره، وإلى الله أبتهل في حسن العون والتأييد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
 
وإلى جانب ما سبق فللإمام ابن عبد البر مؤلفات كثيرة، منها كتاب آداب العلم، وكتاب الأجوبة الموعبة في الأسئلة المستغربة، وكتاب أخبار أئمة الأمصار، وكتاب اختلاف أصحاب مالك بن أنس واختلاف روياتهم عنه، كتاب الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار مما رسمه مالك في موطئه من الرأي والآثار، شرح فيه الموطأ على وجهه ونسق أبوابه، وكتاب الاستغنا في معرفة الكُنى، وكتاب الإشراف في الفرائض، وكتاب الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو ابن العلاء والحجة لكل واحد منهما، وكتاب الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم، وقد ردَّ فيه ابن عبد البر على منتقدي هؤلاء الأئمة وبين فضلهم إنجازاتهم، وقد حقق الكتاب والدي رحمه الله تعالى، وكتاب الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف، وكتاب البيان عن تلاوة القرآن، وكتاب التجويد والمدخل إلى العلم بالتحديد، وكتاب التقصي لما في الموطأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب الدرر في اختصار المغازي والسير، وكتاب الشواهد في إثبات خبر الواحد، وكتاب العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم عن الحكماء والعلماء، وكتاب القصد والأَمَم في التعريف بأنساب العرب والعجم، وأول من تكلم بالعربية من الأُمم، وهو كتاب صغير في بيان أصول القبائل وانتشارها، والآراء الشائعة فيها، وعلاقاتها بالأقوام المجاورة للعرب ودرجة اختلاطها، وكتاب الكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه، اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوبه وقربه فصار مغنياً عن التصنيفات الطوال في معناه.
 
وجمع الإمام ابن عبد البر ما وجد من زهديات وشعر أبي العتاهية في الحكمة والعظة، قال الأستاذ الزركلي رحمه الله في الأعلام: منه مخطوطة حديثة في دار الكتب بمصر، اطلع عليها أحد الآباء اليسوعيين فنسخها ورتبها على الحروف وشرح بعض مفرداتها، وسماها الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية.
 
وكان أبوعمر ابن عبد البر فارساً في الأدب والشعر، وله أشعار لطيفة تدل على شخصيته الأبية واعتزازه بعلمه، ومنها قوله:
 
إذا فاخرتَ فافْخَرْ بالعلومِ ... ودَع ما كان من عَظْم رميمِ
 
فكم أمسيتُ مُطَّرَحاً بجهْلٍ ... وعلمي حلَّ بي بين النجوم
 
وكائنٍ من وزيرٍ سار نحوي ... فلازَمني ملازمة الغريم
 
وكم أقبلتُ مُتَّئِداً مُهاباً ... فقام إليَّ من مَلِكٍ عظيم
 
وركبٍ سار في شرق وغرب ... بذكري مثل عَرْفٍ في نسيم
 
وله رحمه الله:
 
تعفُّف المرء عن سؤاله ... وكسبه الحلّ باحتياله
 
وسعيه في الصلاح عيشٍ ... لمن يواريه من عياله
 
مروءةٌ بالغٌ بها ... من يبلغها منتهى كماله
 
ومن يصن وجهه يزنه ... صيانة الوجه من جماله
 
رضى الفتى بالقضاء عزٌُّ ... وذلَّة الوجه في ابتذاله
 
وقال رحمه الله:
 
عفت المنازل غير أرسم دمنة ... حيّيتها من دمنةٍ ورسوم
 
كم ذا الوقوف ولم تقف في منسكٍ ... كم ذا الطواف ولم تطف بحريم
 
فكِلِّ الديارَ إلى الجنائب والصّبا ... ودع القفار إلى الصدى والبوم
 
وكان ابن عبد البر رحمه الله حاضر البديهة حلو المحاضرة، قال عبد الرحمن بن عبد العزيز بن ثابت الأموي خطيب المسجد الجامع بشاطبة، المولود سنة 446 والمتوفى سنة 509: زارنا أبو عمر ابن عبد البر في منزلنا فأنشد وأنا صبي صغير فحفظته من لفظه:
 
ليس المزار على قدر الوداد ولو ... كانا كفيين كنا لا نزال معا
 
كان للإمام ابن عبد البر ولد هو أبو محمد عبد الله، كان من أهل الأدب البارع والبلاغة الرائعة، والتقدم في العلم والذكاء، وصار كاتباً لصاحب إشبيلية المعتضد ابن عباد، عباد بن محمد المولود سنة 405 والمتوفى سنة 461، فضاق به ابن زيدون ذرعاً، فخشي على نفسه، فقد كان المعتضد سريعاً إلى إراقة الدماء، فسار أبوه الإمام أبو عمر بن عبد البر في أمره إلى إشبيلية من شرق الأندلس، فلأول دخوله على عباد نادى رافعاً صوته: ابني يا معتضد! ابني يا معتضد! فشفعه فيه، وانصرفا عنه محفوفين بالإكرام، ومكنوفين بالاحترام، وعمل بعدها مع ملوك الطوائف، وتوفي قبل أبيه رحمه الله تعالى سنة 458، ودوَّن الناس رسائله وشعره، ومن قوله:
لا تكثرن تأملاً ... واحبس عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك
ولابن عبد البر قصيدة يوصي فيها ابنه، منها:
تجاف عن الدنيا وهوِّن لقدرها ... ووفِّ سبيل الدين بالعروة الوثقى
وسارع بتقوى الله سراً وجهرة ... فلا ذمة أقوى - هديتَ - من التقوى
ولا تنس شكر الله في كل نعمة ... يمنّ بها فالشكر مستجلب النّعمى
فدع عنك ما لا حظّ فيه لعاقلٍ ... فإن طريق الحقّ أبلج لا يخفى
وشحَّ بأيّامٍ بقين قلائلٍ ... وعمرٍ قصيرٍ لا يدوم ولا يبقى
ألم تر أنّ العمر يمضي مولّياً ... فجدّته تبلى ومدّته تفنى
نخوض ونلهو غفلةً وجهالةً ... وننشر أعمالاً وأعمارنا تطوى
تواصِلُنا فيه الحوادثُ بالردى ... وتنتابنا فيه النوائب بالبلوى
عجبت لنفسٍ تبصر الحقّ بيّناً ... لديها وتأبى أن تفارق ما تهوى
وتسعى لما فيه عليها مضرّةٌ ... وقد علمت أن سوف تجزى بما تسعى
ذنوبي أخشاها ولست بآيس ... وربّي أهلٌ أن يخاف وأن يرجى
وإن كان ربي غافراً ذنب من يشا ... فإنّي لا أدري أأكرم أم أخزى
توفي الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى بشاطبة Xativa جنوبي بلنسية، ومما قاله حول موته:
تذكرتُ من يبكي عليَّ مداوماً ... فلم أُلف إلا العلمَ بالدين والخبر
علومَ كتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله في صحة الأثر
وعلم الألى من ناقديه وفهم ما ... له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر
رحمه الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين