حدث في الثلاثين من ذي الحجة

للأستاذ محمد زاهد أبوغدة

في الثلاثين من ذي الحجة من عام 334 توفي في بغداد عن 90 عاماً، الوزير أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح، الوزير الفاضل والعالم التقي، كان في الوزراء، كعمر بن بن عبد العزيز في الخلفاء.
 
وأخبار هذا الوزير الصالح التقي كثيرة في كتب الأدب وتواريخ الوزراء، وحقه أن تفرد سيرته في كتاب مستقل، وقد قام في سنة 1928 المستشرق البريطاني هارولد بوين Harold Bowen بعمل كتاب بالإنكليزية أسماه حياة علي بن عيسى وعصره: الوزير الصالح The life and times of Ali ibn Isa, the good vizier وطبع في كمبردج سنة 1928 م، في 420 صفحة، ولم أطلع عليه.
ولد علي بن عيسى سنة 245 في أسرة علم وفضل، فارسية الأصل، وكان داود جده من دير قُني على شاطىء دجلة بين بغداد وواسط، وكان من وجوه الكتاب، له كتاب في التاريخ يجمع كثيراً من أخبار الفرس وغيرها من الأمم، وكذلك أبوه عيسى، وعُرِفَ علي بن عيسى من حداثته بالستر والصيانة والصلاح والديانة، ولما تولى الوزارة كان كما سنرى عفيفاً في ولايته، محموداً في وزارته، كثير البر والمعروف.
بدأ علي بن عيسى حياته في العمل السلطاني وهو في العشرين من عمره، وفي سنة 286 عيَّنه الخليفة العباسي المعتضد على ديوان المغرب، وجعل على ديوان المشرق عمَّه محمد بن داود بن الجراح، ثم أصبح عليٌّ كاتباً - أي نائباً - للوزير القاسم بن عبيد الله هو والعباس بن الحسن الجرجرائي، وأشار القاسم وهو في مرض موته سنة 291 على المكتفي بتوزير أحدهما، فقدم العباس للوزارة، ولما توفي المكتفي سنة 295 كان للوزير العباس أكبر دور في تعيين المقتدر خليفة وهو شاب في الثالثة عشرة من عمره، ثم قُتِلَ العباس سنة 296 ضحية محاولة انقلابية فاشلة لخلع المقتدر وتعيين المعتز بالله، وذُكِرَ فيها اسم علي بن عيسى رئيساً للدواوين، وعفى المقتدر عن بعض رجال الدولة الذين شاركوا في هذه المحاولة وورد اسم علي بن عيسى في التعيينات الانقلابية، ولكنه نجا من الإعدام لكونه لم يباشر أي عمل من ذلك، وكان عقابه أن نفي إلى مكة المكرمة والياً عليها وعلى اليمن.
وكانت مكة المكرمة في تلك السنوات تعاني من شح في توفر الماء، وأصحاب السلطان يُسَخِّرون جِمالَ الناس وحميرَهم لنقله من جدة إليها، فابتاع عدداً كثيراً من الجمال والحمير ووقفها على حمل الماء، وأقام لها العلوفة الراتبة، ومنع من السخرة وحظرها، وحفر بئراً عظيمة في الحناطين، فخرجت عذبةً شروبا وسماها الجراحية، وابتاع عينا غزيرة بألف دينار، وفتحها ووسعها حتى كثر ماؤها، واتسع الماء بمكة، ووصل الرفق به إلى أهل الضعف والمسكنة. وكان لعلي بن عيسى أثر طيب في اليمن في مكان قصرغمدان بصنعاء، فقد بنى فيه سقاية وحفر فيه بئرًا.
 
 
وعين المقتدر أبا الحسن ابن الفرات، علي بن محمد بن موسى، وزيراً له، ثم سرحه في آخر سنة 299 واستوزر أبا علي محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، الذي أساء السيرة وبالغ في أخذ الرُشا، حتى كان يرتشي من جماعة على المنصب الواحد، حتى قيل فيه:
 
وزيرٌ لا يمل من الرقاعه ... يولي ثم يعزل بعد ساعة
 
ويدني من تعجل منه مال ... ويبعد من توسل بالشفاعة
 
إذا أهل الرُشا صاروا إليه ... فأحظى القوم أوفرهم بضاعه
 
فأرسل المقتدر في طلب علي بن عيسى من مكة، وعزل ابن خاقان وعين علي بن عيسى وزيراً لأول مرة في سنة 301، دون رغبة منه أو سعي، وتم الاستلام والتسليم بين الوزيرين بطريقة فيها عبرة للمعتبر، فقد التقى علي بن عيسى بالمقتدر بالله، وخاطبه وقلده وزارته وتدبير أمره، وخرج الوزير المعين ومعه الحاجب مؤنس، وابن خاقان الوزير المعزول دون أن يدري جالس في مجلس جرت العادة أن يجلس فيه قبل الوصول إلى الخليفة، فقال مؤنس للحجاب وخواص الغلمان: اتبعوا الوزير وامشوا بين يديه. فارتاع ابن خاقان وقال: من الوزير؟ فقال له مؤنس: أبو الحسن علي بن عيسى. فقال أبو علي: الله الله يا أبا الحسن في دمي، فإنني ما أردت الدخول في هذا الأمر، وإنما أُجبرت عليه. فأجابه جواباً سكته فيه، ونُقِلَ إلى الاعتقال في موضع أُعد له، ومضى علي بن عيسى إلى داره، والناس في موكبه، وبكر إلى الدار من غد وخلعت عليه الخلع السلطانية.
 
ووفقاً للتقاليد الذميمة كان على الوزير الجديد أن يشرع في تعذيب الوزير المعزول واستخلاص أمواله، فكان محمد ابن خاقان وابنيه عبيد الله وعبد الواحد في سجن الوزير علي بن عيسى، فأطلق عبد الواحد وقال: إنه مظلوم؛ وعامل محمداً وعبيد الله أحسن معاملة، ورفق بهما.
 
وكان ابن خاقان لما شعر بقرب عزله، قد كاد للدولة فأصدر توقيعات كثيرة بأموال طائلة لكثير من الناس، فتأمل علي بن عيسى هذه التوقيعات، فأسقطها، وكان منها ما ثبت في الدواوين وما لم يثبت، وعمل على إعلام المقتدر بالله ما على بيت المال من الوهن والنقص بإمضائها واستأذنه في ردها وإبطالها.
 
جاءت الوزارة علي بن عيسى ولم يكن حريصاً عليها فقد كان يحب الاعتزال، وقبلها محتسباً يريد الإصلاح وتحقيق العدل والخير للناس، وكان يقول: ما كنت أحتسب بمقامي في هذا الأمر إلا أني مجاهد في سبيل الله، خوفاً من فتنة لا تبقي ولا تذر. وضبط علي بن عيسى أمر الملك، ومنع الأيدي من الظلم، وجلس للمظالم فأنصف الناس وأخذ للضعيف من القوي، وتناصف الناس بينهم، ولم يروا أعف بطناً ولساناً وفرجاً منه، وكان يحمل إلى بيت المال ما يرد عليه مما كان الوزراء قبله يأخذونه لأنفسهم، ومنع الحاشية بعدله من تقاضي الأموال على قضاء حوائج الناس في الديوان. واشتكى بعض الرعية على عامل له، فاستفسر منه الوزير عن جلية الأمر، فأجابه العامل جواباً لم يقنعه، فأرسل إليه كتاباً يأمره بإنصافهم ويقول له فيه: فانظر أي دعوى أدعيتها لنفسك، وماذا تحتج به غداً عند ربك؟ واعلم أن أقبح الناس في الدنيا ذكراً، وأعظمهم عند الله وزراً، من وصف عدلاً وأتى جوراً، وأحسن قولاً وأساء فعلاً.
 
ونزل يوماً في طياره - زورق سريع - فاجتمع عليه قوم يسألونه توقيعاً فقال: نعم وكرامةً حتى أرجع وأوقع، ثم قال: ومن لي بأن أرجع؟ ووقع لهم قائماً ثم قال: اقتديت في هذا الفعل بعمر بن عبد العزيز، فإنه وقف على متظلمٍ وأطال الوقوف حتى قضى حاجته. وقال الوزير رحمه الله: إن الخير سريع الذهاب، وخشيت أن أفوته على نفسي.
 
ومن طبعه الرحيم ورغبته الدائبة في عمل الخير، نجد الوزير علي بن عيسى ِفي سنة 301 وقد كثرت فيها الأمراض والأوبئة، يأمر أن تشمل الرعاية الطبية السجون وسكان الريف بغض النظر عن ديانتهم، وكان كبير الأطباء إذ ذاك سنان بن ثابت بن قرة الحراني، الطبيب ابن الطبيب، والمتوفى مسلماً سنة 331، فأصدر إليه الوزير أوامراً يعبر عنه المؤرخون بالتواقيع جاء فيها:
 
فكرتُ - مدَّ الله في عمرك - في أمر من في الحبوس، وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض، وهم معوقين من التصرف في منافعهم، ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم، فينبغي - أكرمك الله - أن تُفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة، وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس ويعالجوا من فيها من المرضى ويريحوا عالمهم فيما يصفونه لهم، إن شاء الله تعالى.
 
وجاء في توقيع آخر: فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم، لخلو السواد من الأطباء، فتقدم مد الله في عمرك بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد، ويقيمون فِي كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينقلون إلى غيره.
 
وانتهى أطباء سنان إلى بلد تدعى سُورا تقع غربي الكوفة والغالب على أهلها اليهود، فكتب سنان إلى الوزير علي بن عيسى يعرفه ورود كتب أصحابه من السواد بأن أكثر من بسورا ونهر ملك يهود، وأنهم استأذنوا في المقام عليهم وعلاجهم أو الانصراف عنهم إلى غيرهم، وأنه لا يعلم بما يجيبهم بِه، إذ كان لا يعرف رأيه في أهل الذمة، وأعلمه أن الرسم في بيمارستان الحضرة بغداد قد جرى بمعالجة الملي والذمي. فوقع الوزير توقيعاً جاء فيه: ليس بيننا خلاف فِي أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب، فاعمل أكرمك الله على ذلك واكتب إلى أصحابك به، وأوص بالتنقل في القرى والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة والأمراض الفاشية، وإن يجدوا بذرقة - مرافقة من الشرطة - توقفوا عن المسير حتى يصح لهم الطريق، ويصلح السبيل، فإنهم إذا فعلوا هذا وفقوا إن شاء الله تعالى.
 
ولما تولى الوزارة علي بن عيسى كانت قد مضت خمس سنوات على فتنة القرامطة واستفحل أمرهم من القطيف إلى البصرة، وهاجموا قوافل الحجاج حتى توقف الحج، فأراد الوزير أن يسلك معهم طريق السياسة ليتوقفوا عن مهاجمة الحجيج، فاستأذن الخليفة المقتدر في مكاتبة رأس القرامطة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي فأذن له، فكتب كتابا طويلا يدعوه فيه إلى السمع والطاعة، ويوبخه على ما يتعاطاه من ترك الصلاة والزكاة وارتكاب المنكرات، وإنكارهم على من يذكر الله ويسبحه ويحمده، واستهزائهم بالدين واسترقاقهم الحرائر، ثم توعده الحرب وتهدده بالقتل.
 
ووصل الكتاب بعد أن لقي أبو سعيد منيته غيلة على يد خادم له، وعهد بالأمر من بعده لولده سعيد، فغلبه على ذلك أخوه سليمان، فلما قرأ كتاب الوزير أجاب عليه بكتاب فيه حمد الله عز وجل والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم الخليفة، وشكر ما يبلغهم عن الوزير من العدل، وقال في الكتاب: إنا لم نخرج من الطاعة، ولكنا كنا قوماً مستورين فنقم علينا ذلك فُجَّارٌ من الناس لا دين لهم، فشنعوا علينا وقذفونا بالكبائر، ثم خرجوا إلى سَبِّنا وضربنا، ثم نادوا قد أجلَّناكم ثلاثة أيام فمن أقام بعدها أحل بنفسه العقوبة، فخرجنا فوثبوا علينا قبل الأجل، وضربونا وأغرمونا الأموال، فسألناهم أن يؤمنونا على أنفسنا فلم يفعلوا، وأمر صاحب البلد بقتلنا فهربنا، فأخذوا حرمنا وسلبوهم سلباً قبيحاً، وانتهبوا منازلنا فلجأنا إلى البادية، فخرج ناس إلى المعتضد بالله فشنعوا علينا، فصدق مقالتهم وبعث إلينا من يخاصمنا، فدافعنا عن أنفسنا فقويت وحشتنا من الخلق، وأما ما ادُعيَ علينا من ترك الصلاة وغيرها، فلا يجوز قبول دعوى إلا ببينة، وإذا كان السلطان ينسبنا إلى الكفر بالله تعالى فكيف يسألنا أن ندخل في طاعته؟!
 
فلما وصل كتابهم كتب الوزير إليه كتاباً جميلاً يعدهم فيه بالخير، ورفع الحظر التجاري عنهم وأطلق لهم ما أرادوا من البيع والشراء.
 
واشتد جو العدل والإنصاف على من اعتاد الكسب الحرام والرشوة من رجال القصر ونسائه، وكانت أم المقتدر وقهرماناتها وحاشية القصر تتحكم بالخليفة الشاب، فسعوا دون كلل أو ملل لعزل هذا الوزير القوي الأمين، حتى نجحوا بعد أربع سنين، إذ جرت بينه وبين أم موسى القهرمانة نفرة شديدة، فامتنع من كلامها، وواصل الاستعفاء،فأصدر المقتدر أمره في سنة 304 بعزله وسجنه وتعيين أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، فقبض عليه وعلى أنسابه، ونهبت دورهم دونه، وصادر المقتدر أمواله، وسُمِعَ بعضُ العوام يوم خُلِعَ يقول باللهجة العامية البغدادية: والَك خذ إليك: أخذوا منا مصحفاً وأعطونا طُنبوراً! فبلغ ذلك الخليفة، فتأكدت لديه محبة الناس للوزير علي بن عيسى وحسن نيتهم فيه، فأمر بالإحسان إليه والتوسيع عليه في سجنه.
 
ولما حاسب الوزير الجديد ابن الفرات عليَّ بن عيسى قال له: أبطلت الضرائب وأخللت بالدخل، فقال: أي رسم أبطلت ودخل أنقصت؟ قال: المكس بمكة، فقال له: قد أزلت هذه وأشياء كثيرة، منها ومنها وعدد الضرائب التي رفعها، وكان مال ذلك في السنة خمسمائة ألف دينار، فلم أستكثرها مع ما حططته عن أمير المؤمنين من الأوزار بها، وغسلته من الأدران عن دولته فيها!
 
ذلك إنه من إنجازاته في هذه الوزارة إسقاط الجمارك على الواردات بمكة المكرمة وتسمى المُكس، وألغى ضريبة فرضت على الأفراد بديار ربيعة، وألغى رسوم خراج إضافية فرضت على زراعة الغلال بفارس والأهواز وتسمى التكملة وكانت جد عالية، واستوفاها من زراعة الثمار الشجرية، وكتب الكتاب بذلك عن لسان المقتدر بخطه وهو واقف بوجود المقتدر حتى أنفذه، فقال له الإمام النحوي المفسر إبراهيم بن السري الزَّجاج وكان حاضراً: لقد حكمت بحكم، لو كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاضراً ما تجاوزه.
 
ومن إنجازات علي بن عيسى اقتراحه على الخليفة المقتدر أن يجعل وقفاً للحرمين والثغور يكون لها مصدراً دائماً للمال، وأن يفرد لهذه الوقف ديواناً سماه ديوان البِر، فأوقف المقتدر عقاراً ببغداد غلته ثلاثة عشر ألف دينارٍ في كل شهرٍ، وأوقف ضياعه الموروثة بالسواد وإيجارها السنوي نيف وثمانون ألف دينارٍ، وأشهد على نفسه الشهود.
 
وكان علي بن عيسى أبعد الناس عن استغلال منصبه لفائدة شخصية، فقد أعطاه الخليفة عندما قلّده الوزارة أربعة طواحين مائية قيمتها عشرة آلاف دينار، فتظلم مجاوروها من استئثارها بالماء وقصوره عنهم، وإضرار ذلك بزروعهم وأثرها في نقص دخلهم، وذكروا له أنها أنقصت مياه الشرب لمن كان وراءها من السكان، فأمر بهدم الطواحين ونقضها وعمل مسجد في موضعها، وتوفر الماء على أهل الزراعة والشرب.
 
وبقي علي بن عيسى في السجن 18 شهراً، وكتب وهو في السجن بخط يده عدة مصاحف، وكان في يوم الجمعة يلبس ثيابه ويتوضأ للصلاة ويقوم ليخرج لصلاة الجمعة، فيرده المتوكلون فيرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم أشهدك أنني أريد طاعتك ويمنعني هؤلاء. وندم المقتدر على سجنه ومصادرة أمواله وقال: قد استحييت من الله في مال علي ابن عيسى، فإني أخذته ظلماً. وأحاله به على مال مصر، فاشترى به الوزير المعزول ضياعاً ووقفها على مكة والمدينة.
 
وكان الوزير علي بن عيسى في منهجه واستقامته وإعراضه عن المناصب استثناء بين وزراء ذلك الزمان، الذين كانوا يبذلون الأموال الطائلة لتولي الوزارة ويرتعون في أموال الدولة والرعية بلا تردد أو حساب، لعلمهم أن العزل ليس ببعيد، والمصادرة لا ريب فيها، فعليهم أن يسترجعوا ما بذلوه أو وعدوه أضعافاً مضاعفة، وسنرى في استعراضنا لتسلسل الخلفاء والوزراء في حياة الوزير علي بن عيسى هُزال الدولة وتقلب مناصبها وتلاعب رجالها بالخلفاء الذين كانوا يختارونهم صغاراً أوشباباً ليتصرفوا في الأمور على ما تهوى أنفسهم.
 
عزل الخليفة المقتدر الوزيرَ أبا الحسن ابن الفرات في سنة 306 وأمر بسجنه، وعين مكانه حامد بن العباس، فتوجَّهت جماعة من متنفذي القصر تضم أم موسى القهرمانة ونصر الحاجب وشفيع المقتدريّ وابن الحوارى إلى الوزير علي بن عيسى، واستشاروه في حامد بن العباس فقال: حاذق بالعمل لا يصلح للوزارة! فقيل له: قُدِّم! فقال: بارك الله لأمير المؤمنين فيما أمضاه! فقالوا له: إنه ضعيف عن أمرها، فاخرج أنت من السجن فتقلَّدها، قال: لا أفعل. قالوا: فعاونه ودع الإسم يكن له، والأمر كلّه لك، فأبى، فعرّفوا الصُّورة المقتدر، فأمر بإجباره على ذلك، وقيل لحامد: إنا جعلنا علي بن عيسى عوناً لك، فشكر ذلك، وذكره بخير.
 
وجاء عليُّ بن عيسى فجلس بين يدي حامد فرفعه وجذبه حتى صار في موازاته، ثم تحدث معه سراً في مطالبة الوزير المخلوع ابن الفرات بالأموال، وكان علي بن عيسى أبعد الناس عن إجراء المصادرة وترويع الناس فاعتذر منه قائلاً: أما الأعمال كلها فأعملها للوزير وأكفيه أمرها، وأمّا مطالبة هؤلاء فالوزير أولى بها وأقدر عليها. فكتب له حامد كتاباً قلده فيه دواوين الخراج والضياع العامّة والخاصة والمحدثة والمقبوضة، فكان اسم الوزارة لحامد وحقيقتها لعلي بن عيسى، حتى قال بعض الشعراء:
 
قل لابن عيسى قولةً ... يرضى بها ابن مجاهدِ
 
أنت الوزير وإنما ... سخروا بلحية حامد
 
جعلوك عنده سترةً ... لصلاح أمرٍ فاسد
 
وإذا شككت فقل له: ... كم واحداً في واحد
 
وكان حامد يلبس السواد ويجلس في دَست الوزارة، وعلي بن عيسى يجلس بين يديه كالنائب وليس عليه سواد ولاشيء من زي الوزراء، إلا أنه هو الوزير على الحقيقة، فقال بعض الشعراء:
 
أعجبُ من كل ما رأينا ... أن وزيرين في بلاد
 
هذا سواد بلا وزير ... وذا وزير بلا سواد
 
واشتغل حامد بن العباس بالثأر من ابن الفرات، وعذبه بأنواع العذاب حتى استخرج منه ألف ألف دينار، ولكنه مع مهارته في المصادرة تبين ضعفه في الوزارة فسقطت حرمته عند المقتدر وبان عجزه.
 
وفي سنة 309 أمر الوزير علي بن عيسى بقتل الحسين بن منصور الحلاّج، وذلك أن الحلاج ادعى الربوبية وأوهم بعض الناس بأنه يجترح المعجزات، ووجدت له رقاع يدعو فيها الناس إلى الضلالة والجهالة بأنواع من الرموز، ويقول في مكاتباته كثيرا: تبارك ذو النور الشعشعاني.
 
وكان الوزير في سنة 301 قد أمر به فأُحضِرَ مُشهَّراً إلى بغداد، وجئ به إلى مجلس الوزير فناظره فإذا هو لا يقرأ القرآن ولا يعرف في الحديث ولا الفقه شيئا، ولا في اللغة ولا في الأخبار ولا في الشعر شيئا، فقال له الوزير: تعلمك الطُهور والفروض أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها، ثم تدعي – ويلك - الإلهية، وتكتب إلى تلاميذك: من النور الشعشعاني! ما أحوجك إلى الأدب. ثم أمر به فصُلِب حياً ثلاثة أيام صَلْبَ الإشهار، ثم حُبس مدة طويلة في دار الخلافة، فجعل يُظهر لهم أنه على السُّنة، وأنه زاهد، حتى اغتر به كثير من الخدام وغيرهم من أهل دار الخلافة من الجهلة، حتى صاروا يتبركون به ويتمسحون بثيابه، وفحش أمره فأخرج من الحبس، فقطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، ثم أحرق بالنار.
 
وفي سنة 311 عزل المقتدر حامد بن العباس وعين ابن الفرات في الوزارة للمرة الثالثة، وكان ابنه المحسن هو المتنفذ في هذه الوزارة، فقبض على حامد بن العباس وعذَّبه وأنزل به المكاره، وأخذ منه أموالاً عظيمة، ثم لم يلبث حامد ان توفي عقب إطلاق سراحه في سنة 312.
 
وأراد المحسن بن علي بن الفرات قتل علي بن عيسى، فلم يدعه أبوه، وخشي ابن الفرات إن بقي علي بن عيسى في بغداد أن يعود الخليفة إلى تعيينه في الوزارة، واستقر الأمر على نفيه وإبعاده، فاختار هو الخروج إلى مكة للحج والمجاورة، وأرسل المحسن معه في الطريق أناساً أمرهم بدس السم له إن تمكنوا أو قتله بمكة، وعرف علي بن عيسى ذلك فتحرز في مأكله ومشربه، وكان قاضي مكة أحمد بن موسى الرازي داهيةً ذا مكر، ولعلي بن عيسى عليه يدٌ سبقت فهو الذي عينه عندما كان وزيراً، فلما اجتمع علي بن عيسى معه حدثه بحديثه، وسأله إعمال الحيلة في تخليصه من هؤلاء المتربصين، فأثار عليهم جماعة من أهل مكة كادوا أن يفتكوا بهم، فطرح علي بن عيسى نفسه عليهم حتى خلصهم وأخرجهم ليلاً إلى بغداد، بعد أن أعطاهم نفقةً، وصفا له بعد رحيلهم المقام بمكة المكرمة، ولكنهم عملوا حتى نفوه إلى اليمن.
 
وكان معه في مكة صاحبه ووكيله المحدث أبو سهل القطان، أحمد بن محمد المتوفى سنة 350، وجرت معه قصة تدل على أنه ممن لو أقسم على الله لأبرَّه، قال أبو سهل القطان: دخلنا في حر شديد وقد كدنا نتلف، فطاف علي بن عيسى بالبيت الحرام وسعى، وجاء فألقى بنفسه وهو كالميت من الحر والتعب، وقلِقَ قلقاً شديداً، وقال: أشتهي على الله شَربة ماء مثلوج، فقلت له: سيدنا - أيده الله - يعلم أن هذا ما لا يوجد بهذا المكان، فقال: هو كما قلتَ، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا القول، فاستروحتُ إلى المُنى.
 
وخرجت من عنده فرجعت إلى المسجد الحرام، فما استقررت فيه حتى نشأت سحابة وكثفت، فبرقت ورعدت رعداً متصلاً كثيراً شديداً، ثم جاءت بمطر يسير وبَرَد، فبادرت إلى الغلمان فقلت اجمعوا، فجمعنا منه شيئاً عظيماً وملأنا منه جراراً كثيرة، وجمع أهل مكة منه شيئاً عظيماً.
 
وكان علي بن عيسى صائماً، فلما كان وقت المغرب خرج إلى المسجد الحرام ليصلي المغرب، فقلت له: أنت والله مقبل، والنكبة زائلة، وهذه علامات الإقبال، فاشرب الثلج كما طلبت. وجئته إلى المسجد بأقداح مملوءة من أصناف الأسوقة والأشربة مكبوسة بالبَرَد، فأقبل يسقي ذلك مَن بالقُرْبِ منه من الصوفية والمجاورين في المسجد الحرام والصفا، ويستزيد ونحن نأتيه بما عندنا من ذلك، وأقول له اشرب، فيقول حتى يشرب الناس، فخبأت مقدار خمسة أرطال، وقلت له لم يبق شيء، فقال: الحمد لله، ليتني كنتُ تمنيت المغفرة بدلاً من تمني الثلج، فلعلي كنت أُجاب. فلما دخل البيت حلفتُ عليه أن يشرب منه، وما زلت أداريه حتى شرب منه بقليل سويق وتقوّت ليلته بباقيه.
 
ولم يطل المقام بعلي بن عيسى في المنفى، فقد عين المقتدر وزيراً جديداً في سنة 313 هو أبو العباس الخصيبي، أحمد بن عبيد الله، فسعى بعض رجالات القصر في السماح لعلي بن عيسى في العودة من مكة، فصدر الإذن بذلك، ثم سعوا لدى المقتدر فأمر بتعيينه والياً على الشام فذهب إليها.
 
وفي طريق عودته إلى الشام نزل علي بن عيسى وبصحبته صاحبه أبو سهل القطان على أحد الأمراء، فأرسل الأمير مع أبي سهل هدية إلى علي بن عيسى وهي وعاء من للطيب على شكل سمكة، مصنوع من الفضة ومرصع بالياقوت والجواهر، يزيد وزنه على خمسة آلاف درهم، فامتنع علي من قبولها من قبولها على عادته في ذلك، وأعادها مع أبي سهل إلى مهديها، فوهبها الأمير له ولم يتجاسر على قبولها إلا بعد استئذان الوزير، فأذن له فكانت أصل ثروته.
 
ثم عزل المقتدر الوزير أبا العباس الخصيبي بعد سنة وشهرين في أواخر سنة 314، وأعلن أنه قد قلد علي بن عيسى الوزارة وهو بدمشق، وإلى أن يقدم يصرِّفُ الأمور عبيد الله الكلواذي، وجاء علي بن عيسى في أوائل سنة 315، فلما خُلِع عليه بالوزارة أنشد:
 
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها... فكيف ما انقلبت يوماً به انقلبوا
 
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت... يوماً عليه بما لا يشتهي وثبوا
 
وخشي الذين أساءوا إلى علي بن عيسى أن تدور عليهم الدوائر، ويمسهم انتقامه، فقال: ليس من مذهبي أن أذكر إساءة أحد، ولما خلصني الله تعالى من صنعاء وعدت إلى مكة عاهدته سبحانه على ترك مقابلة كل من سعي علي في ولايتي ونكبتي، ووكلت جميعهم إلى الله. قال ابنه أبو القاسم: أنشدني أبي، وكان كثيراً يتمثل بهذا البيت:
 
والله ما صان وجهَه رجلٌ ... كافا لئيماً بسوء ما صنعا
 
ومن إنجازات علي بن عيسى في وزارته الثانية تخفيف الضُرِّ عن أسرى المسلمين لدى الإمبراطورية البيزنطية التي تولى الحكم فيها شراكة اسطفان وقسطنطين أبناء الإمبراطور رومانوس الأول، وأساءا معاملة أسرى المسلمين، قال مَكْرَم بن بكر القاضي: كنت خَصيصاً بالوزير أبي الحسن علي ابن عيسى، فأقبلت عليه يوماً وهو مهموم جداً، فقدرت أنه بلغه عن المقتدر بالله ما يشغل قلبه، فقلت: أرى الوزير أيده الله مفكراً، فهل حدث شيء؟ وأومأت إلى جهة الخليفة، فقال: ليس ما أنا مغموم به من ذلك الجنس، بل لما هو أعظم في نفسي منه: كتب إليّ عاملنا بالثَغر أن أُسارى المسلمين في بلد الروم كانوا على رفق وصيانة، إلى أن ولي آنفاً مُلكَ الروم حَدَثان منهم، فعسفا الأسارى، وأجاعاهم، وأعرياهم، وعاقباهم، وطالباهم بالتنصر، وأنهم في عذاب شديد، ولا حيلة لي في هذا، والخليفة لو يساعدني لكنت أنفق الأموال وأجهز الجيوش إلى القسطنطينية، فقلت: ها هنا أمر سهل يبلغ به الغرض، فقال: قل يا مبارك! قلت: إن بأنطاكية عظيماً للنصارى، يقال له: البطرك، وبالقدس آخر يقال له: الجاثليق، وأمرُهما ينفذ على الروم وعلى ملوكهم، والطاعة لا تلزم جمهور رعيتهم إلا بقولهما، وربما حرما الواحد منهم فيحرم عندهم، والرجلان في ذمتنا، والبَلَدان في سلطاننا، فيأمر الوزير بمكاتبة عاملي البلدين بإحضارهما وإعلامهما ما يجري على الأسارى في بلد الروم وأنه مما لم تجر به عادة، فإن لم يُزل لم يطالب بتلك الجريرة غيرهما.
 
فاستدعى الوزير في الحال كاتباً وأملى عليه في هذا المعنى كتاباً وكيدةً، وأنفذها وقال لي: سرَّيتَ عني قليلاً، وخففت عن قلبي شغلاً.
 
فلما كان بعد شهرين جاءني رسوله يطلبني، فجئت فوجدته مسروراً فقال:جزاك الله عن نفسك ودينك وعني خيراً، كان رأيك أبركَ رأيٍ وأسدَّه، هذا رسول العامل قد ورد، وقال له: خبّرْ بما جرى، فقال: أنفذني العامل مع رسول البطرك والجاثليق إلى القسطنطينية، وكتبا إلى ملكيهما أنكما قد خرجتما بما فعلتما عن ملة المسيح عليه السلام، وليس لكما الإضرار بالأسارى، فإنه يخالف دينكما وما يأمركما به المسيح عليه السلام، فإما زلتما عن هذا الفعل وإلا حرمناكما ولعناكما على هذين الكرسيين.
 
فلما وصلنا إلى القسطنطينية حُجبنا أياماً، ثم أُوصل الرسولان إليهما واستدعياني، فقال الترجمان: يقول لكما الملكان: الذي بلغ ملك العرب من فِعلنا بالأسارى كَذِبٌ وتشنيع، وقد أذِنّا لك في دخولك لتشاهدهم على ضد ما قيل، وتسمع شكرهم لنا.
 
فدخلت فرأيت الأسارى وكأن وجوههم قد خرجت من القبور، تشهد بما كانوا فيه من الضُر، ورأيت ثيابهم جميعاً جدداً فعلمت أني حُجِبتُ تلك الأيام لتغيير حالهم، فقال لي الأسارى: نحن شاكرون للملكين فعل الله بهما وصنع، وأومأ إليّ بعضُهم أن الذي بلغكم كان صحيحاً، إنما خُفِفَ عنا لما حصلتم ها هنا، فكيف بلغكم أمرنا؟ فقلت: ولي الوزارة عليُّ بن عيسى، وبلغه حالكم ففعل كذا وكذا. فضجوا بالدعاء والبكاء، وسمعتُ امرأة منهم تقول: قُرَّ يا علي بن عيسى، لا نسي اللهُ لك هذا الفعل! فلما سمع الوزير ذلك أُجهش بالبكاء، وسجد شكراً لله تعالى.
 
فقلت: أيها الوزير، أسمعك كثيراً تتبرم بالوزارة في خلواتك، وترغب في الانصراف عنها تحرجاً من آثامها، فلو كنت معتزلاً لها ومتخلياً منها، هل كنت تقدر على تحصيل هذا الثواب لولا الوزارة؟ فشكر لي، وانصرفت.
 
وفي هذه الوزارة أراد علي بن عيسى من الفقيه الإمام الكبير أبي علي الحسين بن صالح بن خيران الشافعي، المتوفى سنة 320، أن يتولى القضاء ببغداد، فامتنع تورعاً، وكان يقول: هذا الأمر لم يكن فينا، وإنما كان في أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى، فختم الوزير على بابه ستة عشر يوماً ليقبل، وهو مع ذلك يمتنع عليهم، ولم يل لهم شيئا، قال أبو عبد الله بن الحسن العسكري: كنت صغيراً وعبرت مع أبي على باب أبي علي بن خيران، وقد وَكَّل به الوزيرُ علي بن عيسى، وشاهدت الموكَلين على بابه فقال لي أبي: يا بني ابصر هذا حتى تتحدث إن عشت؛ أن إنساناً فُعِلَ به هذا فامتنع عن القضاء. ثم إن الوزير عفا عنه وقال: ما أردنا بالشيخ أبي علي إلا خيراً، وأردنا أن نُعلِم الناس أن في ملكنا رجلاً يعرض عليه قضاء الشرق والغرب وهو لا يقبل.
 
وفي سنة 315 هاجم القرامطة الكوفة، فأرسل المقتدر قائده يوسف ابن أبي الساج على رأس جيش كبير، ولكن القرامطة هزموه وأسروه، وتحركوا نحو الأنبار فردتهم القبائل العربية بزعامة أبو الهيجا عبد الله ابن حمدان وإخوته، ثم رده القرامطة، والخليفة الشاب معزول عن حقيقة الأحداث فقد كانت أم المقتدر تطوي عن ابنها الأخبار من الرزايا والفجائع، وتقول: إظهارها يؤلم قلبه!
 
وتخاذل عسكر الخليفة النظامي وطلبوا زيادة في النفقة، فاهتم لذلك الوزير ونهض فدخل على المقتدر وقال: قد تمكنت هيبة هذا الكافر من القلوب، فخاطِبْ السيدة في مال تنفقه في الجيش، وإلا فمالك إلا أقاصي خراسان. فأخبر أمه بذلك، فأخرجت خمسمئة ألف دينار، وأخرج المقتدر ثلاثمئة ألف دينار، ونهض ابن عيسى في استخدام العساكر، وحفر الخنادق على بغداد، ولكن هيبة المقتدر سقطت من القلوب، وشتمته الجند، وتمرد عليه في سنة 316 أبو الهيجا ابن حمدان في محاولة لم يكتب لها النجاح .
 
وبعد قرابة سنة عزل المقتدر في سنة 316 عليّ بن عيسى، وعين في الوزارة أبا عليّ بن مقلة صاحب الخط الذي يضرب بجودته المثل، وكان سبب ذلك أنّ علياً ورث من الذي سبقوه نقصاً ذريعاً في الواردات، وزيادة في النفقات، سواء للجند الذين زادهم المقتدر في أرزاقهم مئتي ألف وأربعين ألف دينار في السنة، أو كثرة النفقات للخدم والحَرَم، لا سيّما والدة المقتدر، فهاله ذلك، وعظم عليه، واستعفى من الوزارة، واحتجّ بالشيخوخة وضعف الهمة، فأمره المقتدر بالصبر، وقال له: أنت عندي بمنزلة والدي المعتضد؛ فألحّ عليه في الاستعفاء، وبلغ الخبر أبا عليّ بن مقلة، محمد بن علي، فجدّ في السعي، وضمن على نفسه الضمانات، وواصل الهدايا إلى نصر الحاجب، فأشار على المقتدر به فاستوزره، وأمر بالقبض على الوزير علي بن عيسى، وأخيه عبد الرحمن، وخلع على أبي عليّ بن مقلة، وتولّى الوزارة.
 
ولما صار علي بن عيسى في سجن ابن مقلة زاره أحد أصدقائه، وروى ماجرى بينهما فقال: حادثته وسكنت منه، وسألته عما يريده من الأشربة والطعام لأتقدم بحمله، فوجدته طيب النفس حسن اليقين، وقال لي: الآن تم لي ديني وتفرغت لصلاتي وأداء مفترضاتي، وقد كنت أحب العزل وترك هذا الأمر، ولكنني احتسبت قيامي به قيام المجاهد في سبيل الله. فمن تقلد الوزارة؟ قلت: ابن مقلة. قال: حَدَثٌ يحب الرئاسة ويراعي يومه دون غده، يا أبا عمرو، أليس تدبير الخلافة إلى قوم مبلغ عقولهم أنهم يظنون أن ابن مقلة ينهض بما أعجز أنا عنه، ويستقل بما أتفادى منه؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. ذهبت والله الدنيا وضاعت الأمور. فقلت: ما قدروا ذلك ولا توهموه، ولكنهم أرادوا من يأخذ أموال الناس ويعطيهم إياها ويطلقهم فيما منعتهم منه. فقال: الله المستعان.
 
وفي سنة 318 عزل المقتدر وزيره أبا علي ابن مقلة، وأراد تعيين علي بن عيسى فاعتذر وأبى، فاستشاره فيمن يصلح لهذا المنصب فأشار عليه بسليمان بن الحسن بن مخلد بن الجرّاح، فولاّه الوزارة وأمر عليَّ بن عيسى بالإشراف على سائر الدواوين والأعمال وبمعاضدة سليمان، ولا يتصرّف سليمان ولا يقلّد أحداً عملاً ولا يعمل شيئاً إلاّ بعد موافقة علي بن عيسى،وبقي سليمان في الوزارة قرابة سنة ثم عُزل.
 
ثم قلد المقتدر عبيد الله الكلواذي الوزارة في سنة 319، وجعل علي بن عيسى بن الجراح مشرفا عليه ومجتمعا معه على تدبير الأمر، ثم عزله بعد شهرين، وأعاد تعيين سليمان بن الحسن.
 
وبعد 14 شهراً عزل المقتدر سليمان وقبض عليه وعين مكانه أبا علي الحسين بن القاسم بن عبيد الله، ولم يطل به المقام إلا سبعة أشهر ثم عزل وقبض عليه، وعين بعده أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات.
 
ولم تطل الحال بالفضل إلا قرابة ستة أشهر، فقد ضاق عقلاء الدولة ذرعاً بحال المقتدر ووالدته من الإنفاق بلا حدود والالتهاء عن أمور الدولة، فعصى الخادم مؤنس على المقتدر وانحاز إليه قسم كبير من الجند، وقُتِلَ المقتدر بالله في سنة 320.
 
ونقف هنا لنقول: لما تولى المقتدر الخلافة كان في بيت مال الخاصة خمسة عشر ألف ألف دينار، وفي بيت مال العامة ستمئة ألف دينار ونيف، وكانت الجواهر الثمينة في الحواصل من لدن بني أمية وأيام بني العباس، قد تناهى جمعها، فما زال يفرقها في حظاياه وأصحابه حتى أنفدها، وعلَّق على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية فقال: وهذا حال الصبيان وسفهاء الولاة!
 
وتولى محمد بن أحمد المعتضد الخلافة سنة 320 بعد المقتدر، وتلقب بالقاهر بالله، وعمره 34 سنة، وخُلِعَ القاهر في سنة 322، وكانت مدة ولايته استوزر فيها أبا علىّ محمد بن مُقلة، ثم محمد بن القاسم بن عُبيد الله، ثم أبا العباس الخصيبي، أحمد بن عُبيد الله، الذي كان قد ولي الوزارة للمقتدر في سنة 313.
 
وتولى أحمد بن المقتدر الخلافة في سنة 322 بعد القاهر، وتلقب بالراضي بالله، وعمره 25 سنة، وتوفي الراضي في سنة 329، واستوزر أبا علّيِ محمد بن مُقلة، ثم ابنه أبا الحسين علي بن محمد، ثم عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجرَّاح، ثم محمد بن القاسم الكَرْخيّ، ثم سُليمان بن الحَسن بن محمد بن الجراح، ثم الفَضل بن جعفر بن الفرات، ثم أبا عبد الله أحمد بن محمد اليزيديّ.
 
وتمرد أبو عبد الله البريدي نائب الأهواز في سنة 326، فسار بَجْكَم الدَيْلَمي إلى بغداد بإذن الخليفة، وقمَعَ تمرد البريدي، ونهب جنود بجكم بعض دور الكبراء، ولكنهم عندما اجتازوا على محلة الوزير علي بن عيسى تجنبوها وقالوا: ها هنا دار الوزير الصالح.
 
ولما عزل الراضي ابن مقلة وقبض عليه، أحضر علي بن عيسى بن الجراح وأراده على الوزارة، فأبى وامتنع وأظهر العجز، فاستشاره فيمن يوليه، فاشار بأخيه عبد الر

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات