حدث في الثاني والعشرين من شوال
في الثاني والعشرين من شوال لسنة 588 توفي في نابلس بفلسطين الأمير سيف الدين المشطوب، علي بن أحمد بن أبي الهيجاء الِهكَّاري الكردي، الأمير الكبير والشجاع الخطير ورفيق صلاح الدين الأيوبي في الحروب الصليبية، وسمي بالمشطوب لشطبة في وجهه من أثر طعنة في إحدى غزواته، والهكاري نسبة إلى منطقة الهكارية شمال الموصل وفي جزيرة ابن عمر.
كان المشطوب من الأمراء الذين أرسلهم نور الدين زنكي مع أسد الدين شيركوه إلى مصر لمساعدة العاضد الفاطمي في الدفاع عنها في وجه الغزو الصليبي،  ولما توفي أسد الدين سنة 564 تطلع عدد من الأمراء إلى أن يكون الأمير بعده، منهم الأمير عين الدولة الياروقي، وقطب الدين خسرو بن تليل وهو ابن أخي أبي الهيجاء الهذباني الذي كان صاحب إربل، ومنهم شهاب الدين محمود الحارمي وهو خال صلاح الدين، وكذلك سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وجده كان صاحب القلاع الـهِكَّارية
فأرسل الخليفة الفاطمي العاضد إلى صلاح الدين، وأمره بالحضور في قصره ليخلع عليه خلع الوزارة ويوليه الأمر بعد عمه، وكان الذي حمل العاضد على ذلك ضعف صلاح الدين، فإنه ظن أنه إذا ولي صلاح الدين وليس له عسكر ولا رجال، كان في ولايته مستضعفاً يحكم عليه ولا يجسر على المخالفة، وأنه يضع على العسكر الشامي من يستميلهم إليه، فإذا صار معه البعض أخرج الباقين، وتعود البلاد إليه، وعنده من العساكر الشامية من يحميها من الفرنج ونور الدين.
وامتنع صلاح الدين عن هذا المنصب فألزمه العاضد أخذه كارهاً، إذ لما حضر في القصر خلع عليه خلع الوزارة من الجبة والعمامة وغيرهما، ولقبه بالملك الناصر، وعاد صلاح الدين إلى دار أسد الدين شيركوه فأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه.
وكان الفقيه ضياء الدين عيسى بن محمد الهكاري معه، فسعى مع الأمير المشطوب حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وغيرهما، فمال إلى صلاح الدين، ثم قصد شهاب الدين الحارمي وقال له: إن هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك، وقد استقام الأمر له، فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه، ولا يصل الأمر إليك، ولم يزل به حتى مال إليه، ثم فعل مثل هذا بالباقين، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي، وكان أكبر الجماعة وأكثرهم جمعاً، فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف أبداً. وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء، وثبت قدم صلاح الدين في مصر على أنه نائب عن نور الدين.
وبقي سيف الدين المشطوب مع السلطان صلاح الدين إلى آخر عمره، وبعد أن استتب لصلاح الدين أمر مصر، أقام المشطوب ببلاد الشام أغلب وقته في رتبة كبير أمرائها.
وفي سنة 573 خرق الفرنج الهدنة وهاجموا حماة، وكان صاحبها شهاب الدّين محمود الحارمي خال صلاح الدين مريضاً في مرض الموت، وكان سيف الدين المشطوب قريباً منها، فهرع إلى نجدتها، وانهزم الفرنج بعد حصارهم لهم أربعة أيام، وأرسل سيف الدين  المشطوب رسالة إلى صلاح الدين يخبره فيها أن القتلى من الفرنج تزيد على ألف رجل ما بين فارس وراجل.
وفي سنة 575 هزم صلاح الدين الفرنج في معركة مرج عيون، وأسر من ملوكهم جماعة، وكان سيف الدين المشطوب من مقدمي جيشه، ولكن ملك الروم قرا رسلان بعث يطالب بحصن رعنان، ويزعم أن نور الدين زنكي اغتصبه منه، فلم يجبه إلى ذلك صلاح الدين، فبعث صاحب الروم عشرين ألف مقاتل يحاصرونه، فأرسل السلطان ابن أخيه تقي الدين عمر في ثمانمائة فارس منهم سيف الدين المشطوب، فأغاروا عليهم ليلاً وهزموهم.
وكان صلاح الدين يشاور المشطوب كثيراً ويستنير برأيه، وفي سنة 581 نمى إلى صلاح الدين أن صاحب الموصل وسنجار عز الدين زنكي، مسعود بن مولود المتوفى سنة 589، اتصل بالفرنج وحرضهم على قتاله، فأقبل صلاح الدين من دمشق واستولى على حلب وسنجار وحاصر الموصل مدة فأرسل إليه عز الدين والدته ومعها ابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي وغيرهما من النساء، يطلبون منه المصالحة، وبذلوا الموافقة والإنجاد بالعساكر ليعود عنهم، فأحضر صلاح الدين أصحابه واستشارهم، فأشار أكثرهم بالإجابة للصلح، ولكن الفقيه عيسى وسيف الدين المشطوب، وهما من بلد الهكارية من أعمال الموصل قالا: مِثْلُ الموصل لا يترك لأجل امرأة! فأخذ صلاح الدين برأيهما.
وسير صلاح الدين الأمير سيف الدين المشطوب إلى قلعة الجديدة من بلد الهكارية، فحصرها واجتمع عليه من الأكراد والهكارية كثير، وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل.
عين صلاح الدين الأمير سيف الدين المشطوب نائباً له على صيدا، وفي سنة 586 وضمن الحملة الصليبية الثالثة، قام الملك الفرنجي غي لوسينيان على غير المتوقع بمحاصرة عكا معتمداً على مساعدة أسطول بيزا له، وطال أمد الحصار سنتين أنفق فيها صلاح الدين أموالاً طائلة، وجاءت لوسينيان إمدادات فرنسية وفلمنكية واسكندنافية وألمانية وإيطالية، وجاءت فُرجة في الحصار عندما حلَّ الشتاء، وعصفت الرياح، فخاف الفرنج على مراكبهم التي كانت تضرب الحصار خارج الميناء، فسيروها إلى صور، فانفتح الطريق إلى عكا في البحر، فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدماً على جندها، وشاور صلاح الدين أمراءه فأشار جماعة منهم عليه ألا يجليهم بل يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة، ويأمرهم بالمقام، فإنهم قد جَرَّبوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه، فلم يفعل، وظن فيهم الضجر والملل، وأن ذلك يحملهم على العجز والفشل، فكان الأمر بالضد.
وأمر صلاح الدين بترتيب تبديل للعسكر، وإخراج من في عكا، وإنفاد المشطوب إليها، وأمر أخاه الملك العادل بمباشرة ذلك، فانتقل إلى جانب البحر، ونزل تحت جبل حيفا، وجمع المراكب، وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها، وأخرج عوضهم.
وكان كبير الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين المشطوب، وكان فيهم بهاء الدين قراقوش خادم صلاح الدين، وكان دخولهم عكا أول سنة 587.
ثم إن الفرنج جاءتهم الأمداد من داخل البحر واستظهروا على المسلمين بعكا، وضايقوهم أشد مضايقة إلى أن غلبوا عن حفظ البلد، فخرج المشطوب إلى ملك فرنسا فيليب الثاني وكان قائد الحصار، وبذل له تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه، ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم، فلم يجبه إلى ذلك، فعاد إلى البلد وقد وهن من فيه، وضعفت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمتهم أنفسهم.
ثم إن أميرين ممن كان بعكا، لما رأوا أن الفرنج لم يجيبوا إلى الأمان، ركبوا ليلاً في زورق صغير مع بعض أصحابهم، وخرجوا سراً ولحقوا بعسكر المسلمين، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهناً إلى وهنهم، وضعفاً إلى ضعفهم، وأيقنوا بالعطب.
ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في تسليم البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشرط بينهم أن يطلق مِنْ أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا، وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت، فلم يقنعوا بما بذل، فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يداً واحدة ويسيروا مع البحر ويحملوا على العدو حملة واحدة، ويتركوا البلد بما فيه، ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، يقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به، فشرعوا في ذلك، ولكنهم اشتغلوا لقلة تدبيرهم وغفلتهم عن تنفيذ الأوامر بجمع أموالهم لاستصحابها معهم، فما فرغوا من ذلك حتى أسفر الصبح، فبطل ما عزموا عليه لظهوره.
فلما أصبحوا زحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم، فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون، وكانت هي العلامة إذا حزبهم أمر، فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل، وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم ظناً منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا، وصلاح الدين يحرضهم، وهو في أولهم.
وكان الفرنج قد زحفوا من خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد، فقرب المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم، فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم.
فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع، ولا يدفع عنهم ضراً، خرج إلى الفرنج، وقرر معهم تسليم البلد، وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم، وبذلك لهم عن ذلك مئتي ألف دينار وخمسمئة أسير من المعروفين، وإعادة صليب الصلبوت، وأربعة عشر ألف دينار للمركيز صاحب صور، فأجابوه إلى ذلك، وحلفوا له عليه، وأن تكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين.
فلما حلفوا له سلم البلد إليهم، ودخلوه سلماً، فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحبسوهم، وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم، وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يطلقوا من عندهم، فشرع في جمع المال، وكان صلاح الدين لا مال له، إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولاً بأول، ثم أطلق الفرنج سراح المشطوب على غير توقع، فعاد إلى صلاح الدين، قال ابن شداد في تاريخه: دخل سيف الدين المشطوب على السلطان بَغتةً وعنده أخوه الملك العادل، فنهض واعتنقه، وسُرَّ به سروراً عظيماً، وأخلى المكان، وتحدث معه طويلاً.
وأقطعه السلطان صلاح الدين مدينة نابلس كلها، وكان دخله في السنة ثلاثمئة ألف دينار، فظلم أهلها قليلاً، فشكوه إلى السّلطان، فعتب عليه، ثمّ لم يطل به الأمد فتوفي بنابلس، وكان بين خلاصه من الأسر وموته دون مئة يوم.
ولم يكن في أمراء دولة صلاح الدين من يضاهي المشطوب شأنا ومرتبة، وكان يلقب بالأمير الكبير، وكان له ولد من الأمراء الشجعان هو عمادُ الدّين أحمد، وأقطعه السلطانُ بعد وفاة والده ثلث نابلس، ووقف ثلثيها على القدس الشريف
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين