حدث في الثاني عشر من صفر

في الثاني عشر من صفر من سنة 1076 توفي في إستانبول القاضي الفقيه محمد بن فضل الله بن محمد البِركوي المعروف بعصمتي، على عادة متأدبي وفقهاء العثمانيين في ذلك الزمان، وترجمته مستقاة في أغلبها من مما أورده المحبي رحمه الله في كتابه خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، وكان عصمتي صديقاً لوالده، وهذه الترجمة تصلح أنموذجاً لما كانت عليه حياة الفقهاء في تلك الحقبة من تاريخ السلطنة العثمانية.

ولد عصمتي سنة 1022 في بيت فضل وصلاح، فقد كان جده محيي الدين محمد بن بير علي بن اسكندر البركلي الرومي، المولود سنة 929 والمتوفى سنة 981،  عالماً بالعربية، نحوا وصرفا، له اشتغال بالفرائض ومعرفة بالتجويد، ومن أشهر كتبه كتاب الطريقة المحمدية في الموعظة إلى جانب كتاب الآداب وكتب أخرى في النحو والصرف، وهو في الأصل من أهل بالي كسرى وكان مدرسا في بركي فنسب إليها، وبركي Birgi بليدة تقع على بعد 120 كيلومتراً شرقي إزمير، وكانت عاصمة علمية في حقبة الدويلات التركية، والنسبة إليها بالتركية البرِكلي وبالعربية البِرِكَوي.
ودرَس والدُه الشيخُ فضل الله العلومَ على والده ثم قدم إلى القسطنطينية في حدود سنة 1020 وتولى فيها دروس الوعظ والتفسير في جامع السلطان سليم ثم جامع السلطان بايزيد، وكان عالما فصيح اللسان حسن البيان، باهر الشان، وكان للناس عليه إقبال تام وكانت وفاته في سنة 1030.
نشأ عصمتي في رعاية والده وتعلم في ظله، ثم اتصل في أوائل أمره بشيخ الإسلام يحيى بن زكريا بن بيرام، المولود سنة 999 والمتوفى سنة 1053، فصيره ملازماً، ثم أراد أن يترك طلب العلم وينخرط في سلك الصوفية المولوية وشيخهم آدم الأنطالي المعروف بمُلا خداوند كار والمتوفى سنة 1066، وكان للمولوية حشمة كبيرة وجاه عريض، وقبول عند السلاطين، فلم يتيسر له ذلك، فرجع إلى طلب العلم على منهج جده ووالده، وضمه شيخ الإسلام يحيى إليه واستخلصه لنفسه، وجعله مدرساً شرعياً بمدارس القسطنطينية، حتى آل به الترقي إلى أن صار مدرساً في أوسكودار في المدرسة التي جددتها والدة السلطان مراد الرابع فاتح بغداد، وهو ثاني من درس بها، والمعروفة اليوم بمسجد الوالدة.
قال شيخ الإسلام يحيى: لما وجهت إليه المدرسة المذكورة اتفق أن السلطان طلبني لأمر، وعرفت أنه يسألني عمن وجهت إليه مدرسةَ والدته، وكان عندي كتاب شرح المفتاح بخط عصمتي، فأخذته معي، فقال لي السلطان: لمن وجهتَ المدرسة؟ فقلت: لصاحب هذا الخط، وهو حفيد الشيخ محمد البركلي. فأعجبه خطه وسألني عن فضله، فذكرت له فضله وزكيته، فقال لي: سمعت نبله من الأفواه. ثم أخذ الكتاب وأبقاه عنده لإعجابه به
قال والد المحبي: ولقد أخبرني عصمتي أنه بعد وفاة السلطان وصل إليه الكتاب على يد بعض الكتبيين فاشتراه.
ثم ولي عصمتي قضاء الشام في سنة 1049 فتوجه إليها، وصدف أن كبا به فرسه في طريقه إلى دمشق فانصدعت رجله، فأنشده الأديب الدمشقي محمد بن يوسف الكريمي ارتجالاً هذه الأبيات في مجلس الترحيب به، فقال:
انهض فلا قعدت بك الأيام ... وسما بك الإقدام والأقدام
قدمُ العُلى انصدعت فلما صُدَّعت ... صُدِعَ الفؤادُ فلا يكاد ينام
وكان من عادة قضاة الشام في العهد العثماني أن ينزلوا في حرستا، ولكنه طرح تلك العادة ودخل دمشق، وأنشده الفاضل عبد اللطيف بن يحيى المنقاري أبياتاً ضمنها تاريخ قدومه على حساب الجمل على عُرف ذلك الزمان، فقال:
زمانُك يا شمس المعالي مشرق ... وعصرك يا بدر الكمال لطيفُ
وفضلك بين الخلق قد ضاء نوره ... وقدرك ما بين الأنام منيف
وأنك في جمع الكمالات مفرد ... وأنك في حكم القضاء عفيف
ولِيتَ دمشقاً حاكماً في رعية ... بعدل له ظل عليك وريف
ولما أتيتَ الشام قلت مؤرخا ... قدومك عيد عندنا لشريف
واستعان عصمتي بأحد أفاضل الشام النبلاء محمد بن أبي الصفا بن محمود بن أبي الصفا الأسطواني الدمشقي الحنفي، المولود سنة 1024 والمتوفى سنة 1077، وهو خال المؤرخ المحبي، وكان متصفاً بالكمال والمعرفة والتضلع من الأدب وحسن الخط بأنواعه، والنزاهة والعبادة، فصيره كاتبه.
ولم تطل أيام عصمتي في قضاء الشام فقد عزل سنة 1051، وطُلِبَ إلى إستانبول لأنه لم يحسن التصرف، قال المحبي: وهذا المترجَم مع فضله الباهي هو أحد القضاة المذمومين بالشام، وذلك لأنه قرَّب جماعة من أهل دمشق معروفين بالبغي، وسلمهم أمره، فبالغوا في التعدي، ونُسِبَ ذلك إليه فعُزل، وسافر من دمشق فصحبه والدي إلى الروم وألف رحلته الأولى باسمه. ووالد المحبي هو فضل الله بن محب الله بن محمد المحبي، المولود سنة 1031 والمتوفى سنة 1082،  وكان ذا معرفة بالأدب والطب والتاريخ.
وكان رئيس الوزراء الصدر الأعظم قره مصطفى باشا قد نوى أن يعاقب عصمتي عقوبة شديدة، ولما وصل عصمتي إلى القسطنطينية زار شيخ الإسلام الذي كان يعاني من مرض شديد، فسُرَّ الشيخ برؤية تلميذه، ثم زار رئيسُ الوزراء شيخَ الإسلام عائداً في مرضه، فسأله عن حاله فقال: الحمد لله تعالى؛ حصل ليَّ الشفاء بقدوم عصمتي. فكانت كلمة شيخ الإسلام سبباً ليعدل رئيس الوزراء عن العقوبة ويعفو عن عصمتي.
ثم جرى تعيينه قاضياً ببروسه - وهي اليوم بورصة - ثم عزل بعد فترة وجيزة، وفي هذه الفترة توفي شيخ الإسلام يحيى بن زكريا، فقال عصمتي مؤرخاً وفاته بحساب الجمل:
مفتي الورى يحيى به ... سما العُلى وحية
لما مضى مولياً ... عن هذه الدنية
سمعت من جهزه ... بأحسن التحية
يقول تأريخاً له: ... في جنة علية
وفقد عصمتي بوفاة شيخ الإسلام من كان يعضده ويرشحه للمناصب، فبدلاً من ترقيته عُين قاضياً على بلاد أدنى شأناً من بورصة مثل أيوب شمالي إستانبول، وإزمير، ورقَّ حالُه وركبه دَين عظيم.
وفي سنة 1059 ولي فتيا السلطنة محمد بن عبد العزيز بن محمد بن حسن جان الشهير بالبهائي، المولود سنة 1010 والمتوفى سنة 1064، فاهتم بعصمتي وجعله قاضياً بالقسطنطينية عشرة أيام ثم  نقله إلى قضاء سلانيك، وحصل من سلانيك مالا جزيلاً، ثم عزل مدة طويلة، حتى تولى الوزارة الصدر الأعظم محمد باشا كوبرولو في سنة 1066 فجعله قاضي العسكر بالأناضول وروم أيلي، ثم عين صدراً في ولاية روم أيلي.
ويبدو أن والد المحبي قد زاره في رحلته الثانية إلى تركيا في سنة 1073، وقال: وتشرفت به في سفرتي الثانية إلى الروم، فرأيته منعَّما بها وقد دارت رحى رحاله على قطبها، وذكَّرني بأشياء كنت نسيتها لطول الغيبة بل تناسيتها، وقد صدئت مرآة فهمي لطول المدة عن حضرته، وتكدر ماء خاطري لبعد العهد عن خدمته.
فإن الصارم الصمصام ينبو ... شباه لطول عهد بالصِّقال
ورأيته لم يتغير عن معاملتي في الحقيقة، وهذا خلاف مشربه المشهور عند الخليقة، وتقيد بأحوالي وهو في صدارة الروم، على حسب ما أمكنه عند السادة القروم، وقد شمت من كرمه بارق سحاب، وحصلت من وعوده على أخصب جناب، ومن زرَعَ خيرا ًحصد الجزاء، فحالت غيوم سوء الحظ بين طرفي المنى والإحسان، فلم يساعد على الأمنية المقصودة الزمان، وكتبت إليه في تلك الأيام قصائد ورسائل، وفصولا هي لشرح حالي وسائل.
توفي عصمتي في الثاني عشر من صفر من سنة 1076، ودفن بباب أدرنه من أبواب إستانبول، ولم يخلف ولدا.
كان عصمتي من أجل فضلاء الروم وأفصحهم وأظرفهم، مميزَاً بينهم بالمعرفة والفضل، وكل من عرفه يصفه بالفضل والذكاء وجودة الطبع وحسن الشعر والفصاحة، وكان ظرفاء الروم يتنافسون في حضور مجلسه، ويتفاخرون في مكالمته، وذكر المحبي أن عبد القادر قاضي العسكر الشهير بقدري، وصاحب الفتاوى المشهورة بفتاوى قدري، كان إذا أراد المناقشة في الأدب والشعر أحال على عصمتي الذي كان من ندمائه.
وممن جالس عصمتي وكان من ندمائه، الأديب عبد البَر بن عبد القادر الفيومي، الذي تولى بعد المناصب في الدولة العثمانية وتوفى في القسطنطينية معزولاً سنة 1071، وكتب كتاب منتزه العيون والألباب في بعض المتأخرين من أهل الآداب، وذكر الفيومي عصمتي في كتابه، ونقل عنه المحبي قوله: له أدبٌ كزهر الرياض، وشعرٌ كماء حلا وعذب في الحياض، فهو كُمامة الزهر بل نادرة الدهر، تشرفت به، وربطت سببي بسببه، فشنَّف سمعي، وبعشرته رقَّ طبعي، فكم تلقيت من فيه، ما هو نزهة النبيه، وكم تلقفت منه زهر الآداب الندية، وبيان الفصاحة الأدبية، فمن درره الزاهرة وأشعاره الباهية الباهرة هذه المقاطيع:
أهلا بمن فاق السماك مُخجِلاً ... شمسَ الضُحى في رفعة وسناء
فكأنَّ لي فوق الثريا منزلا ... علقت بسدته حبال رجائي
وقوله في صدر مكاتبة:
يا سراج التقى وبدر المعالي ... دُمْ منيراً وهاديا للعباد
كنتُ من قبل ألثمُ اليد بالإجلال والآن نال ذاك مدادي
وكتب إلى شيخ الإسلام أبي السعود في صدر كتاب وهو:
لا زلتَ في فلك السعادة ساطعاً ... أنت الكفىُّ بحاجتي وحسيبي
أمَّلتُ حُظوة نظرة من أجلها ... أشغلتُ ساحتكم ببسط كروبي
قال ولما قرأت عليه في تاريخ ابن خلكان قول ابن عبد ربه:
نعقَ الغراب فقلت أكذب طائر ... إن لم يصدقه رغاء بعير
أنشدني لنفسه:
ورَدَ النسيمُ فقلت أصدق قائل ... إذ كان من ألم الغرام خبيرا
وذكر المحبي في ترجمة عصمتي أن أدباء الشام مدحوه بقصائد كثيرة، وكان له مجالس معهم مدونة، ولكنه للأسف لم يورد شيئاً منها، ولكنه أورد شيئاً من نثره، وهو نثرٌ لا طلاوة عليه، كتبه عصمتي تقريظاً لشجرة نسب لأحد كبار مشايخ الصوفية بدمشق، وهو عبد الحق بن محمد الأدهمي الحنبلي الصوفي القادري، المعروف بالمرزباني نسبة لأحد أجداده، والمنسوب لسلطان الأولياء إبراهيم بن الأدهم، والمولود سنة 991 والمتوفى سنة 1070، فقال:
ومما رأيته من آثار قلمه ما كتبه على نسبة أدهمية لابن المرزباني بدمشق:
الحمد لله الذي جعل الأنساب في بعض الفروع النجباء وسائط لاستفاضة الأنوار، والهمم العالية من الأصول الأتقياء عُصِّياً يتوكؤون عليها ويدركون بها غاية المنى، ويرتقون إلى مدارج العلى، ولهم فيها مآرب أخرى، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، النور الأول، والظهور الآخر، فاتحة مصحف الوجود، وخاتمة رسالة الرسالة، محمد المصطفى الذي هو حجته الكبرى، من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها ذل وهوى، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وعترته، الذين هم حبل الهدى، وشجرة التقوى، وسفينة النجاة العظمى، وعروة الدين الوثقي، وبعد.
فلما تشرفت بصاحب هذا النسب الجليل، وجدته رفيق المجد وخليله، نزيل الصلاح وزميله، تناول الفضل كابرا عن كابر، وأخذ الفخر عن أسرة ومنابر، في ناصية تلوح عليها آثار السعادة كالنور، وفي جبينه الانتساب إلى من هو كالتاج على مفرق هذا المنشور سطور، فمن نظر إلى جميل خلقه، وحسن فعاله، كاد ينشد لسان حاله بالله صلى الله تعالى على النبي وآله، والشيخ الكامل الواصل إلى مقام العبودية المدعو لهذا النسب بعبد الحق، ولا ريب في أن ألسنة الخلق أقلام الحق، من سر العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم، الذي ببركة أنفاسه القدسية تبتهج الدنيا، وعلى عماده تضرب خيام الزهد والتقوى، سيدنا وسندنا الأكمل الأتم، إبراهيم بن أدهم، قدس الله سره، وأفاض علينا خيره وبره.
وذكر الزركلي رحمه الله في الأعلام أن لعصمتي في مكتبة الأزهر كتاب مخطوط عنوانه مجمع المهمات في فعل الطاعات، فرغ منه سنة 1070، وذكر كذلك أن له ديوان شعر بالتركية، وهو مطبوع باللغة التركية القديمة واللاتينية.
رحمه الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين