حدث في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة وفاة الامام الشاطبي

في الثامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة من عام 590 توفي في القاهرة، عن 52 عاماً، الإمام الشاطبي، أبو محمد القاسم بن فِيْرُّة الرُعَيني الشاطبي إمام القراءات وصاحب القصيدة الشاطبية. وفِيْرُّه: كلمة لاتينية Ferro معناه بالعربية: الحديد، والرُعَيني: نسبة إلى ذي رُعين، وهو أحد أقيال اليمن، نُسِبَ إليه خلق كثير.

ولد الإمام الشاطبي سنة 538 في بلده شاطبة Jativa في شرقي الأندلس جنوبي مدينة بلنسية، وكان ضريراً منذ ولادته، وقرأ رحمه الله تعالى بشاطبة القراءات، ثم انتقل إلى بلنسية فحفظ بها القرآن الكريم وقرأ على شيخه التفسير، وسمع بها الحديث، ودرس كذلك النحو والصرف والبلاغة والأدب، ومن أهم شيوخه في القراءات الشيخ الإمام المعَمَّر، أبو الحسن علي بن محمد ابن علي بن هذيل البلنسي، المولود سنة 471 والمتوفى سنة 564 رحمه الله تعالى. وكان ابن هذيل لا مثيل له في الفضل والزهد والورع مع العدالة والتقلل من الدنيا، صواماً قواماً، كثير الصدقة، طويل الاحتمال على ملازمة الطلبة له ليلا ونهارا. وكلها صفات تخلق بها الشاطبي رحمه الله تعالى كما سنرى.

ودرس كذلك على أبي جعفر بن سكينة القيسي السرقسطي، ثم الشاطبي، أحمد بن مسعود، المولو سنة 505 والمتوفى سنة 557، وكان محدثاً، حافظاً، متقناً، ورعاً، منقبضاً، متواضعاً، تزهد في آخر عمره، حتى عرف بإجابة الدعوة.

ثم أراده السلطان ليخطب الجمعة في شاطبة، فامتنع من ذلك تورعاً، لأجل مما كانوا يلزمون به الخطباء على المنابر من المبالغة في وصف الملوك بأوصاف لم يرها سائغة في الشرع، فتعلَّلَ بأنه قد وجب عليه الحج، وأنه عازم عليه، وترك شاطبة ولم يعد إليها.

ودخل مصر سنة 572، فسمع من أبي طاهر السِلَفي، أحمد بن محمد ابن سِلفة الأصفهاني، بالإسكندرية، وقيل عنه إنّه يحفظ وقر بعير من العلوم، ولما دخل قاهرة مصر أكرمه القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني وزير صلاح الدين الأيوبي وعرف مقداره، وأنزله في ضيافته، ولما بنى القاضي مدرسته التي بناها في درب الملوخية داخل القاهرة سنة 580، جعله شيخها وعظمه تعظيماً كثيراً، ثم أنه لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بيت المقدس توجه فزاره سنة 587 ثم رجع فأقام بالمدرسة الفاضلية يُقرئ، وبها نظم قصيدتيه اللامية والرائية، وقصده الخلائق من الأقطار حتى توفي سنة 590 ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى.

كان الشاطبي إماماً وعلامة محققاًً، أعجوبة في الذكاء، كثير الفنون، كثير المحفوظات بل آية من آيات الله تعالى في الحفظ، غاية في قراءات القرآن الكريم وعللها، وإليه انتهت الرئاسة في الإقراء، جامعاً لفنون العلم بتفسير كتاب الله تعالى، حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير العناية به، وكان إذا قُرِىء عليه صحيحُ البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على الموطأ في المواضع المحتاج إليها.

وكان بصيراً بالعربية، إماماً في اللغة، رأساً في الأدب، شاعراً مجيداً، عارفاً بعلم الرؤيا وتعبير الأحلام، مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع، والهيبة والوقار، والإخلاص في أفعاله وأقواله، وظهرت عليه كثير من كرامات الصالحين، وهو رحمه الله مع كل ذلك مجبول على حسن الأخلاق والتواضع، ولين الجانب، والتودد، والصبر على الطلبة، والسعي التام في مصالحهم بكل ممكن، ولذا شاع أمره وبَعُدَ صيتُه، وحكى عنه أصحابه ومن كان يجتمع به عجائب، وعظموه تعظيماً بالغاً حتى أنشد الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي، عبد الرحمن بن إسماعيل، رحمه الله من نظمه في ذلك:

رأيتُ جماعةً فضلاء فازوا ... برؤية شيخ مصر الشاطبي

وكلهم يعظمه ويثني ... كتعظيم الصحابة للنبي

وذكر بعض الشيوخ الثقات أن الشاطبي كان يصلي الصبح بغلس بالمدرسة الفاضلية ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السُّرى إليه ليلاً، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله من جاء أولاً فليقرأ، ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق، فاتفق في بعض الأيام أن بعض أصحابه سبق أولاً، فلما استوى الشيخ قاعداً قال: من جاء ثانياً فليقرأ، فشرع الثاني في القراءة، وبقي الأول لا يدري حاله، وأخذ يتفكر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذَنْبٍ أَوجَبَ حرمانَ الشيخ له، ففطن أنه أجنب تلك الليلة، ولشدة حرصه على النوبة نسي ذلك لما انتبه فبادر إلى الشيخ.

ثم إن ذلك الرجل بادر إلى حمام جوار المدرسة فاغتسل به، ثم رجع قبل فراغ الثاني، والشيخ قاعد أعمى على حاله، فلما فرغ الثاني قال الشيخ: من جاء أولاً فليقرأ! فقرأ.

ونظم الشاطبي قصيدتين في القراءات والرسم القرآني، سارت بهما الركبان، وخضع لهما فحول الشعراء، وحُذّاق القراء، وأعيان البلغاء، ولقد سهل بهما الصعب من تحصيل الفن، وحفظهما خلقٌ كثير.

نظم الشاطبي قصيدته المشهورة المباركة الموسومة بحرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وذكر أنه ابتدأ أولها بالأندلس ثم أكملها بالقاهرة، وعدتها 1173 بيتاً، ورُزِقَتِ الشهرة والقبول، وقد روي عنه أنّه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلاّ وينفعه الله عزّ وجلّ، لأني نظمتها لله تعالى مخلصاً.

وأضحت الشاطبية عُمدة القراء في نقلهم، فقلَّ من يشتغل بالقراءات إلا ويقدِّمُ حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وفيها قال مخلص الدين أبو العرب إسماعيل بن عمر بن يوسف بن قرناص الحموي:

جلا الرُعَينيُّ لنا مبدعاً ... عروسَه البكر ويا ما جلا

لو رامها مبتكرٌ غيره ... قالت قوافيها له الكلُّ: لا

ونظم الشاطبي قصيدة رائية في رسم القرآن الكريم سماها عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد، ونظم قصيدةً دالية في خمسمئة بيت أحاطت بكتاب التمهيد لابن عبد البر.

قال ابن خلدون رحمه الله في تاريخه يبين أهمية القراءات ولماذا اهتم بها أهل الأندلس في تلك الحقبة:

القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه، المكتوب بين دفتي المصحف، وهو متواتر بين الأمة، إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرق مختلفة في بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها، وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة، تواتر نقلها أيضاً بأدائها، واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير، فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة.

ولم يزل القراء يتداولون هذه القراءات وروايتها، إلى أن كُتِبت العلوم ودُوِنت فكُتِبت فيما كُتِبَ من العلوم، وصارت صناعة مخصوصة وعلماً منفرداً، وتناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل، إلى أن مَلَكَ بشرق الأندلس مجاهدُ من موالي العامريين، وكان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن، لِما أخذَهُ به مولاه المنصورُ بن أبي عامر، واجتهدَ في تعليمه وعَرَضَه على من كان من أئمة القراء بحضرته، فكان سهمه في ذلك وافراً.

واختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية، فنفقت بها سوق القراءة، لمَّا كان هو من أئمتها، وبما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً وبالقراءات خصوصاً، فظهر لعهده أبو عمرو الداني وبلغ الغاية فيها، ووقفت عليه معرفتها، وانتهت إلى روايته أسانيدها، وأصبحت تآليفه العمدة فيها، وعوَّل الناس عليها وعدلوا عن غيرها، واعتمدوا من بينها كتاب التيسير له.

ثم ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم بن فيره من أهل شاطبة، فعمد إلى تهذيب ما دونه أبو عمرو وتلخيصه، فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف " أ ب ج د "، على ترتيبٍ أحكَمَه ليتيسر عليه ما قصدَه من الاختصار، وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها، فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً، وعني الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين، وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس.

وربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية، لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط، كزيادة الياء في بأييد وزيادة الألف في لا أذبحنه، ولا أوضعوا، والواو في جزاؤ الظالمين، وحذف الألِفات في مواضع دون أخرى، وما رُسِمَ فيه من التاءات ممدوداً، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء، وغير ذلك. وقد مر تعليل هذا الرسم المصحفي عند الكلام في الخط.

فلما جاءت هذه مخالفة لأوضاع الخط وقانونه، احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضاً عن كتبهم في العلوم، وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني المذكور، فكتب فيها كتباً، من أشهرها: كتاب المقنع، وأخذ به الناس وعولوا عليه. ونظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء، وولع الناس بحفظها. انتهى كلام ابن خلدون.

كان الشاطبي دينّاً خاشعاً ناسكاً كثير الوقار، يجتنب فضول الكلام فلا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا ينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه الضرورة، ويمنع جلساءه من الخوض في شيء إلا في العلم والقرآن، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة، وتخشع واستكانة.

وكان من أمراء تلك الدولة الأمير عز الدين موسَك بن جِكو الكردي، ابن خال السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكان حافظاً للقرآن سامعاً للحديث، وكان مُحسِناً إلى الناس، ملازما للسلطان في غزواته، وكان دينا صالحا جوادا؛ مرض بمرج عكا فأمره السلطان أن يمضي إلى دمشق ليتطبب بها، فتوجه إلى دمشق ومات بها رحمه الله سنة 584. وأرسل الأمير عز الدين موسك رسولاً إلى الشيخ الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه:

قُلْ للأميرِ مقالةً ... من ناصح فَطِنٍ نبيهِ

إنَّ الفقيهَ إذا أتى ... أبوابَكم لا خير فيه

وكان الشاطبي عالماً بالفقه، ولكنه إذا سئل عن مسألة في غير علم القراءة يقول: ليس للعميان إلا حفظ القرآن؛ جرت مسألة فقهية بوجوده فذكر فيها نصاً واستحضر كتاباً فقال لهم: أطلبوها منه في مقدار كذا وكذا، وما زال يعين لهم موضعها حتى وجدوها حيث ذكر، فقالوا له: أتحفظ الفقه؟ فقال لهم: أني أحفظ وقر جمل من كتب، فقيل له: هلا درَّستَها؟ فقال ليس للعميان إلا القرآن!

وكان صهر الشاطبي أبو الحسن علي بن سالم بن شجاع ضريراً أيضاً وأخذ القراءات عنه، و أراد مرة أن يقرأ شيئاً من الأصول على ابن الوراق فسمع بذلك الشاطبي فاستدعاه فحضر بين يديه، فاخذ بإذنه ثم قال له: أتقرأ الأصول؟ فقال: نعم، فمد بإذنه ثم قال له: من الفضول، أعمى يقرأ الأصول!

وكان الشاطبي يعتلُّ العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية، لا يزيد على ذلك. وكان يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه مبصر لذكائه، لا يظهر منه ما يدل على العمى.

وكان الشاطبي مع وقاره يحب تحميض المجالس بشيء من المذاكرة الخفيفة والألغاز، وكان رحمه كثيراً ما يُنشد هذا اللغز، وهو في نعش الموتى، وهوللخطيب أبي زكريا يحيى بن سلامة الحُصكِفي:

أتعرفُ شيئاً في السماء نظيره . . . إذا سار صاح الناسُ حيث يسير

فتلقاه مركوباً وتلقاه راكباً . . . وكلُّ أمير يعتليه أسير

يحضُ على التقوى ويُكرَهُ قُربُهُ . . . وتنفرُ منه النفس وهو نذير

ولم يُستَزَر عن رغبة في زيارة . . . ولكن على رغم المزور يزور

وكان الشاطبي ينظم الشعر الرائق، ومما وصلنا من شعره، رحمه الله تعالى:

خالصتُ أبناء الزمان فلم أجد ... من لم أرُمْ منه ارتياديَّ مَخلَصي

رَدُّ الشباب وقد مضى لسبيله ... أهيا وأمكنَ من صديقٍ مخلص

ومن شعره كذلك:

بكى الناسُ قبلي لا كمثلِ مصائبي ... بدمع مطيع كالسحاب الصوائب

وكنا جميعاً ثم شتت شملَّنا ... تفرقُ أهواءٍ عِراضِ المواكب

توفي الإمام الشاطبي في القاهرة ودفن في مقبرة القاضي الفاضل وقبره معروف جدده خسرو باشا والي مصر سنة 1217، وخلَّف الإمام الشاطبي ولداً اسمه محمد، ولد بمصر سنة 576، وتوفي بمصر سنة 656، وسمع من أبيه حرز الأماني في القراءات، وكان من الصالحين.

وخلف الإمام الشاطبي ابنة تزوجها من بعده تلميذه كمال الدّين أبو الحسن بن أبي الفوارس الهاشمي العباسي، المعروف بالكمال الضرير فإنه كان ضريراً كذلك، وكانت سنه عند وفاة الشاطبي 18 عاماً، وأصبح هذا التلميذ مسند الآفاق في القراءآت، وتفرد في عصره، وإليه انتهت رئاسة الإقراء وعلو إسنادها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين