حدث في الثامن عشر من شعبان

في ليلة الثامن عشر من شعبان من عام 358 أرسى القائد جوهر الصقلي الرومي أساسات مدينة القاهرة، وأرسى معها بنيان الدولة الفاطمية في مصر الذي سيبقى قرابة 200 سنة، ويتعاقب عليه 11 خليفة حتى يطيح به صلاح الدين الأيوبي بعد وفاة الخليفة الفاطمي العاضد في سنة 567.

وكانت مصر، منذ ولاية أحمد بن طولون عليها سنة 254، قد أصبحت ولاية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال عند الدولة العباسية، وتراوحت رقعة سيادتها بين الاتساع لتشمل مصر والشام إلى ليبيا، وبين الانكماش فلا تتجاوز مصر، وبسبب توسعها على حساب الدولة العباسية دخلت معها في حروب متباينة الشدة، ثم ضعفت الدولة الطولونية وتلتها الدولة الإخشيدية التي قام بها أبو بكر الإخشيد محمد بن طُغْج الفرغاني، والإخشيد لقب ملوك فَرْغانة في تركستان، وكانت بدايتها عندما جعله الخليفة العباسي المقتدر والياً على الرملة في سنة 318 ثم ولّاه مصر في سنة 321، وكان ملكاً حازماً كثير التيقظ في حروبه ومصالح دولته، حسن التدبير، مكرماً للجنود، وتوفي سنة 334 بدمشق، فخلفه ابنه أبو القاسم أنوجور المولود سنة 319، وتوفي سنة 349،  وخلفه أخوه أبو الحسن علي، المولود سنة 326، ثم توفي علي في سنة 355.

وكان تدبير الأمور في أيام أبي القاسم ثم أبي الحسين ابني الإخشيد، في يد كافور الإخشيدي المولود سنة 292، وكان عبدا حبشيا اشتراه الإخشيد سنة 312، فنُسب إليه، وأعتقه فترقى عنده، وكان فطنا ذكيا حسن السياسة، تقياً صالحاً، ما زالت همته تصعد به حتى صار مُدبِّر المملكة، فلما توفى أبو الحسين تولاها مستقلا سنتين، وأربعة أشهر.

وتوفي كافور في سنة 357، وكان خصياً لا عقب له، فأقام الجند بعده أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد، وكان عمره يوم ذاك 11 سنة، وجعلوا خليفته في تدبير أموره الحسن بن عبيد الله بن طغج بن جُف، وهو ابن عم أبيه، وكان صاحب الرملة من بلاد الشام، وتثبيتاً لموقعه تزوج الحسن بن عبيد الله ابنة عمه الإخشيد، ودعوا له على المنابر ولياً للعهد،  وإلى جانب الوصي وولي العهد جرى الاتفاق أن يكون تدبير الرجال والجيش إلى شَمول الإخشيدي، وتدبير الأموال إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل ابن الفرات، ويعرف كذلك بابن حنزابة نسبة إلى جدته لأمه، والمولود سنة 308 والمتوفى سنة 391.

ودبَّ الخلاف في أوساط هذه النخبة الحاكمة، فقد سار الوصي الحسن بن عبيد الله الإخشيدي إلى الشام ليحارب القرامطة الذين اتجهوا إليها من العراق، وأساء الوزير ابن حنزابة التصرف في غيابه فقد قبض على جماعة من أرباب الدولة وصادرهم، وقبض على إبراهيم بن مروان النصراني، كاتب ابنيِّ الإخشيد، وصادره، وكان بين ابن الفرات وبين الوزير يعقوب بن كِلِّس تنافس وتحاسد، فقبض عليه وصادره،  ثم أخذه من يده أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الشريف الحسيني، واستتر عنده، ثم هرب خلسةً إلى الفاطميين وآل أمره إلى أن صار وزيراً لهم فيما بعد.

وكان العسكر فئتين ما بين المنتمين إلى الإخشيد وبين المنتمين إلى كافور، ولم يقدر الوزير على رضا الإخشيدية والكافورية والأتراك والعساكر لتباين أغراضهم، وطلب منه هؤلاء ما لا يقدر عليه، إذ لم تحمل إليه أموال الضرائب، فاضطرب التدبير عليه، واستتر مرتين، ونُهِبت دارُه ودور أصحابه، وجاءت هذه التصرفات عقب سنتين شحت فيهما زيادة النيل، فصار بمصر غلاء شديد، واجتمع إليه وباء انتشر بين الناس وتسبب في موت أعداد هائلة منهم، حيث نقل بعض المؤرخين أن عدد من كُفِّنَ ودفن خارجاً، عدا من رمي في البحر، ستمئة ألف إنسان.

واضطربت أحوال مصر، وتوقفت معايش الناس، وطرق الروم دمياط في بعض وعشرين مركباً فقتلوا وأسروا 150 من المسلمين، فكتب جماعة من وجوه البلد إلى المعز لدين الله الفاطمي العبيدي في ليبيا يطلبون منه إنفاذ جيشه ليسلموا له مصر، فجاءته دعوة على غير ميعاد، وواتته الفرصة من حيث لم يحتسب، فأعد على جناح السرعة جيشاً من قبائل البربر يتوجه إلى مصر بقيادة القائد جوهر.

وكان الوصي الحسن بن عبيد الله الأخشيدي في الشام يحارب القرامطة الذين اتجهوا إليها من العراق، وهزمه القرامطة، فعاد إلى مصر، فرأى اضطراب الأوضاع فعاد باللائمة على الوزير جعفر ابن الفرات، فزجه في السجن واستوزر غيره، ثم عاد وأطلق الوزير ابن الفرات وفوض إليه الوزارة، وبلغته أخبار المعز ونيته في التوجه إلى مصر، فغادر إلى الشام ومعه جماعة من الأولياء والكتاب والأشراف إلى الشام.

ولما ذاعت الأنباء بتحرك الفاطميين إلى مصر، زادت أمور البلد اضطراباً، واختلفت آراء أهل الحكم، وأرادت جماعة من الزعماء والجند من الإخشيدية والكافورية أن يقاتلوهم، ولكن معظم الزعماء المصريين آثروا مهادنة الفاطميين والتفاهم معهم، وقرروا أن يرسلوا إلى جوهر بطلب الأمان والصلح، وأوكلوا ذلك للوزير جعفر بن الفرات، وطلبوا من الشريف أبي جعفر مسلم بن عبد الله الحسيني أن يكون السفير في ذلك؛ فسار على رأس جماعة من وجوه مصر والتقى بالقائد جوهر على مقربة من الإسكندرية، في قرية من قرى البحيرة اسمها تَرُوجة، في أواخر رجب من سنة 358، فاغتبط جوهر بمقدمهم، وكتب لهم أماناً  مما جاء فيه:

إنكم التمستم كتابا يشتمل على أمانكم في أنفسكم وأموالكم وبلادكم وجميع أحوالكم، فعرفتم ما تقدم به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وحسن نظره لكم.

فلتحمدوا الله على ما أولاكم، وتشكروه على ما حماكم، وتدأبوا فيما يلزمكم، وتسارعوا إلى طاعته العاصمة لكم، العائدة بالسلامة لكم، وبالسعادة عليكم، وهو أنه صلوات الله عليه لم يكن إخراجه للعساكر المنصورة، والجيوش المظفرة إلا لما فيه إعزازكم وحمايتكم والجهاد عنكم، إذ قد تخطفتكم الأيدي، واستطال عليكم المشرك، وأطمعته نفسه بالاقتدار على بلدكم في هذه السنة، والتغلب عليه وأسْرِ من فيه، والاحتواء على نعمكم وأموالكم، حسب ما فعله في غيركم من أهل بلدان المشرق... فعاجله مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه بإخراج العساكر المنصورة، وبادره بانفاذ الجيوش المظفرة دونكم، ومجاهدته عنكم وعن كافة المسلمين ببلدان المشرق، الذين عمهم الخزي، وعلتهم الذلة...

ثم تعهد لهم جوهر الصقلي نيابة عن مولاه المعز باستتباب الأمن وسلامة الطرق وحركة التجارة وضرب النقود الصحيحة، وإحقاق العدل فيما يشجر بينهم، ورفع الضرائب الجائرة عنهم، فقال: فرجا بفضل الله وإحسانه لديه، وما عوَّده وأجراه عليه استنقاذَ من أصبح منهم في ذل مقيم، وعذاب أليم، وأن يؤمن من استولى عليه الوهل، ويفرخ روع من لم يزل في خوف ووجل، وآثر إقامة الحج الذي تعطل وأهمل العباد فروضه وحقوقه لخوف المستولى عليهم، وإذ لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم، وإذ قد أُوقِع بهم مرة بعد أخرى، فسُفكت دماؤهم، وابتُزَّت أموالهم، مع اعتماد ما جرت به عادته من صلاح الطرقات، وقطع عبث العابثين فيها، ليتطرق الناس آمنين، ويسيروا مطمئنين، ويتحفوا بالأطعمة والأقوات، إذ كان قد انتهى إليه صلوات الله عليه انقطاع طرقاتها، لخوف مادتها، إذ لا زاجر للمعتدين، ولا دافع للظالمين.

ثم تجديد السكة، وصرفها إلى العيار الذي عليه السكة الميمونة المنصورية المباركة، وقطع الغش منها، إذ كانت هذه الثلاث خصال هي التي لا يتسع لمن ينظر في أمور المسلمين إلا إصلاحها، واستفراغ الوسع فيما يلزمه منها.

وما أوعز به مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى عبده من نشر العدل، وبسط الحق، وحسم الظلم، وقطع العدوان، ونفى الأذى، ورفع المؤن، والقيام في الحق، وإعانة المظلوم مع الشفقة والإحسان، وجميل النظر، وكرم الصحبة، ولطف العشرة، وافتقاد الأحوال، وحياطة أهل البلد في ليلهم ونهارهم، وحين تصرفهم في أوان ابتغاء معاشهم، حتى لا تجري أمورهم إلا على ما لمَّ شعثَهم، وأقام أودَهم، وأصلح بالهم، وجمع قلوبهم، وألّف كلمتهم، على طاعة وليه ومولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وما أمر به مولاه من إسقاط الرسوم الجائرة التي لا يرتضي صلوات الله عليه بإثباتها عليكم.

وأن أُجريكم في المواريث على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأضع ما كان يؤخذ من تركات موتاكم لبيت المال من غير وصية من المتوفى بها، فلا استحقاق لمصيرها لبيت المال.

وأن أتقدم في رمِّ مساجدكم، وتزيينها بالفر والإيقاد، وأن أعطى مؤذنيها وقُوَمَتها ومن يؤم الناس فيها أرزاقهم، وأدرها عليهم، ولا أقطعها عنهم، ولا أدفعها إلا من بيت المال، لا بإحالة على من يقبض منهم.

ثم أعطاهم الأمان ألا يُجبروا على ترك مذهب أهل السنة واتباع المذهب الفاطمي، فقال: وغير ما ذكره مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه مما ضمنه كتابه هذا، ما ذكره من ترسَّلَ عنكم... من أنكم ذكرتم وجوها التمستم ذكرها في كتاب أمانكم، فذكرتُها إجابة لكم، وتطمينا لأنفسكم، وإلا فلم يكن لذكرها معنى، ولا في نشرها فائدة، إذ كان الإسلام سنة واحدة، وشريعة متبعة، وهي إقامتكم على مذهبكم، وأن تُتركوا على ما كنتم عليه من أداء الفروض في العلم، والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم، وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعدهم، وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبكم وفتواهم، وأن يجرى الأذان والصلاة، وصيام شهر رمضان وفطره، وقيام لياليه، والزكاة والحج والجهاد على أمر الله وكتابه، وما نصه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، وإجراء أهل الذمة على ما كانوا عليه.

ولكم عليَّ أمان الله التام العام، الدائم المتصل، الشامل الكامل، المتجدد المتأكد على الأيام وكرور الأعوام، في أنفسكم وأموالكم وأهليكم، ونعمكم وضياعكم ورباعكم، وقليلكم وكثيركم، وعلى أنه لا يعترض عليكم معترض، ولا يتجنى عليكم متجن، وعلى أنكم تصانون وتحفظون وتحرسون، ويُذبَّ عنكم، ويُمنع منكم، فلا يتعرضُ إلى أذاكم، ولا يسارع أحدٌ في الاعتداء عليكم، ولا في الاستطالة على قويكم فضلا عن ضعيفكم، وعلى أن لا أزال مجتهدا فيما يعمكم صلاحه، ويشملكم نفعه، ويصل إليكم خيره، وتتعرفون بركته، وتغتبطون معه بطاعة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

ولكم عليَّ الوفاء بما التزمته وأعطيتكم إياه، عهد الله وغليظ ميثاقه وذمته، وذمة أنبيائه ورسله، وذمة الأئمة موالينا أمراء المؤمنين قدس الله أرواحهم، وذمة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين المعز لدين الله صلوات الله عليه فتصرحون بها وتعلنون بالانصراف إليها، وتخرجون إلي وتسلمون علي، وتكونون بين يدي، إلى أن أعبر الجسر، وأنزل في المناخ المبارك، وتحافظون من بعد على الطاعة، وتثابرون عليها، وتسارعون إلى فروضها، ولا تخذلون وليا لمولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وتلزمون ما أمرتم به، وفقكم الله وأرشدكم أجمعين.

وكتب جوهر الكتاب بخطه، وأضاف في آخره: قال جوهر الكاتب عبد أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين: كتبتُ هذا الأمان  على ما تقدم به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وعلى الوفاء بجميعه لمن أجاب من أهل البلد وغيرهم على ما شرطت فيه. ثم أشهد جوهرُ جماعةَ الحاضرين على نفسه بما في الكتاب.

وهكذا استقرت الدولة الفاطمية ووجدت قاعدتها الحضارية، ذلك أنها قامت على أنقاض دولة الأغالبة في ليبيا وتونس، وتأسست بسواعد قبائل البربر، ولكنها كانت تخاف منهم كذلك، فتلك القبائل الخشنة الشديدة البأس لم تكن لتعطي قيادها دوماً وبسهولة لأي حاكم مهما كان، ولم يشعر الفاطميون أنهم قد أسسوا لدولتهم بنياناً شديد الأركان وبخاصة أن بعض القبائل تمرد عليهم وخاض معارك معهم، وهم وإن هزموهم في نهاية الأمر، إلا أنهم أدركوا أيضاً أن البربر شديدو المراس ولن يكون لهم استقرار في مناطقهم، وأن المراكز الحضرية التي بسطوا عليها سلطانهم في المغرب العربي، لا تصلح قاعدة للملك، ولا تحمل مقومات بناء الدولة الشاملة الكبيرة التي يحلمون.

وهنا نتوقف برهة لنتحدث عن أصل الفاطميين، وهل هم حقاً من سلالة فاطمة وعلي؟ وينقسم المؤرخون حول هذه القضية انقساماً شديداً ودائماً منذ ظهور الفاطميين وإلى يومنا هذا، فمنهم من يؤيد الفاطميين في دعواهم، ويرجع نسبة إمامهم ومؤسس دولتهم عبيد الله المهدي إلى الحسين بن علي وفاطمة، وهو بهذا يضفي الشرعية على إمامتهم عند من يلتزم بإمامة أهل البيت.

وينكر فريق كبير من المؤرخين هذه الدعوى، ويقولون إنهم أدعياء استتروا بالتشيع والإمامة ليكسبوا عطف العالم الإسلامي، ويقولون إن مؤسس الدعوة الفاطمية هو عبد الله بن ميمون القداح بن ديصان البوني، وهو شخص داهية ذكي واسع المعرفة مجوسي الأصل من الأهواز، وترتكز دعوته على ظاهر وباطن؛ باطنٍٍ فلسفي إلحادي ينكر النبوة والأديان، وظاهرٍٍ يستتر بالتشيع ويدعو سراً لإمام من آل البيت هو محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فلما توفي القداح تابع دعوته ولده أحمد، ومن بعد أحمد ولده الحسين، فأخوه سعيد الذي اتخذ مقراً له في سَلَمية من أعمال حمص، يبث منها الدعاة في المناطق البعيدة عن سطوة وسلكة الدولة العباسية، والتي يمكنه جهل السكان فيها من اجتذابهم إلى دعوته، ولما ظهر أمره حاول الخليفة المكتفي بالله أن يقبض عليه، ففر إلى المغرب حيث وطد له الأمر دعاته، فاستطاع أن يطيح بالأغالبة وتلقب بعبيد الله المهدي، وادعى أنه من آل البيت وانتحل إمامتهم. وهنالك روايات أخرى في الموضوع لا يتسع المجال لتفصيلها أو تناولها.

وحاول الفاطميون أن يزحفوا على مصر، ولكن الدولة العباسية وحكام مصر الإخشيدين صدوها لما كانوا في أوج قوتهم، وأفشلوا آخر محاولة لهم في سنة 332، وبقي الفاطميون يرصدون الأوضاع في مصر، وبترقبون الفرص، ولما لجأ إليهم الوزير يعقوب بن كلس زاد في إغرائهم بمصر، فقد وصف لهم غنى البلاد وخصب أراضيها ووفور خراجها، ثم أوضح لهم ضعف نظامها واختلاف أرباب دولتها وتفرق كلمتهم، ومن ناحية أخرى تذكر بعض الروايات التاريخية أن مصر كانت كذلك تعاني من الانحلال الأخلاقي والفساد الذي أضعف نسيجها الاجتماعي وكيانها المعنوي.

وكان الخليفة الفاطمي أبو تميم مَعْدّ، الملقب المعز لدين الله، المولود في المهدية بالمغرب سنة 319، قد تولى الحكم سنة 341، بعد أبيه المنصور إسماعيل، وانتدب لكل ناحية من يعلم كفايته وشهامته، وضم إلى كل واحد منهم جمعاً كبيراً من الجند وأرباب السلاح، وكان القائد جوهر ذراعه اليمنى في إخضاع المعاندين، فسيطر على الشمال الإفريقي كله، باستثناء سبتة، وأخضع له فاس وسجلماسة، ووصل المحيط الأطلسي وصاد من سمكه وجعله في قلال الماء، وأرسله إلى المعز. 

وكان المعز ملكاً مدبراً بعيد الغور في التخطيط مدركاً لما تقوم عليه الدول، عاش عيشة بساطة وتقشف بعيداً عن الإسراف والمظاهر، فامتلأت خزائنه بالأموال، وصار قادراً على تمويل الحروب وتجهيز الجيوش، فلما جاءته الدعوة من مصر، أعد جيشاً قدره المؤرخون بنيف ومئة ألف، وغمر الناس بالعطاء حتى أعطى من ألف إلى 20 دينار، وتقول رواية عن تمويل الجيش إنه استدعى في يوم من أيام سنة 357  أبا جعفر حسين بن مهذب متولي بيت المال، فوجده في وسط القصر، وقد جلس على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها. قال الحسين: فأخذت أجمعها حتى رُتبت، وبين يديه جماعة من خدام بيت المال والفراشين، فلما رتبت أمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها ويختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، فأنفقها كلها على العساكر التي سيرها، وأرسل المعز مع الجيش 500 حمل بعير دنانير، و1000 حمل من السلاح والزاد.

ولما خرج هذا الجيش الجرار من القيروان في ربيع الأول من سنة 358، استعرضه المعز لدين الله في موكب مهيب، ووصف ذلك شاعر المعز محمد بن هانئ الأندلسي:

    رأيتُ بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروعُ

   غداة كأن الأفق سُدَّ بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع

    فلم أدر إذ ودعتُ كيف أودعُ ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيعُ

    ألا أن هذا حشد من لم يذق له ... غرارَ الكرى جفنٌ ولا بات يهجع

    إذا حل في أرض بناها مدائناً ... وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع

    تحل بيوت المال حيث محله ... وجَمُّ العطايا والرواق المرفع

    وكبَّرت الفرسان لله إذ بدا ... وظل السلاح المنتضى يتقعقع

    وعب عباب الموكب الفخم حوله ... ورق كما رقَّ الصباح الملمع

    فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع

ورغم المفاوضات والأمان الذي أصدره جوهر، تحول رأي بعض المصريين إلى القتال وعدم قبول الأمان، وواجه جوهر بعض المعارك الثانوية من فلول الإخشيدية والكافورية، وكانت آخر هذه المعارك في الجيزة حيث احتشد هؤلاء لمنع القائد جوهر من عبور النيل من الجسور أو المخاضات، ولكن أحد قواده وهو أبو علي جعفر بن فلاح الكتامي، القائد الشجاع الفذ، عبر عند مخاضة عُريانا في سراويل، وهو في مركب، ومعه الرجال خوضا حتى خرجوا إلى المدافعين وقتلوا كثيراً منهم، فانسحبوا مهزومين تحت جناح الليل ودخلوا مصر وأخذوا كل ما في دورهم، وساروا إلى الشام.

ورغم أن هذه المقاومة تعد نقضاً للعهد وتجعل القائد جوهر في حل من أمانه، إلا أنه استجاب لمساعي الوزير ابن الفرات والشريف أبي جعفر عندما استقبلاه مع العلماء والوجهاء في ظاهر مدينة الفسطاط، فجدد لهم الأمان، ووزع بعض جنوده على أحياء مصر وأسواقها ومعهم رايات بيض عليها اسم المعز لدين الله، تؤمِّن البلد وتمنع من النهب، فهدأ البلد وفتحت الأسواق وسكن الناس كأن لم تكن معارك وحروب، ودخل البلد عصر يوم الثلاثاء 17 من شعبان سنة 358، وعبرت عساكره الجسر عند شيبين أفواجاً أفواجاً، وأقام عسكره يدخل 7 أيام.

واختط القائد جوهر العاصمة الجديدة للبلاد في ليلة الثامن عشر من شعبان، فلما أصبح المصريون ليهنئوه، وجدوه قد حفر أساس القصر في الليل، إيذاناً بقيام دولة جديدة مبنية على أسس جديدة لا صلة لها بالدولة القديمة، وسماها المنصورية، وسماها المعز فيما بعد القاهرة، وقطع جوهر الخطبة لبني العباس عن منابر مصر، ورفع اسمهم من النقود التي تضربها دار السكة، وخُطِب يوم الجمعة للمعز على منابر مصر،  وقال ابن هانئ بهذه المناسبة قصيدة مطلعها:

    يقول بنو العباس: قد فتحت مصر؟ ... فقل لبني العباس: قد قُضي الأمر!

    وقد جاوز الإسكندريةَ جوهرٌ ... تصاحبه البشرى ويقدمه النصر

ومما ينبغي ملاحظته أن دولة بني العباس في العراق كانت تحت هيمنة بني بويه الذين تبنوا كذلك المذهب الشيعي، فصارت المنافسة بين دولتين تستندان نظرياً إلى نفس الأسس الفكرية، ولذلك سعى بنو بويه لمهاجمة العبيديين ونفي انتسابهم إلى فاطمة الزهراء، واستخرجوا وثيقة بذلك من الأشراف والعلماء الذين في سلطانهم، وأعلنوها على الملأ طعناً في شرعية الدولة المنافسة.

وانتهز أعداء المسلمين في المشرق العربي التغيير الحاصل وما صحبه من تخلخل وفراغ، فأغار الروم البيزنطيون من الشمال وقتلوا وسبوا حتى وصلوا إلى حمص، أما القرامطة فأرسلوا جيشاً وصل حتى الرملة في فلسطين واحتلها، فأرسل القائد جوهر أكبر قواده أبا علي جعفر بن فلاح الكتامي، فغلب على الرملة في آخر سنة 358، ثم غلب على دمشق في أول سنة 359، ولكنه لاقى حتفه في آخر سنة 360 عندما قصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم، فخرج إليه جعفر وهو عليل، فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقا كثيرا.

وفي جمادى الأولى من سنة 359 أمر القائد جوهر بأن يقال في الأذان: حيَّ على خير العمل. بدلاً من حي على الصلاة، وكان هذا أول تغيير في شعائر الإسلام، وفي نفس الوقت أمر جوهر ببناء مسجد جامع لمدينة القاهرة، واستغرق بناء المسجد سنتين وثلاثة أشهر وكانت أول جمعة فيه في 7 رمضان من سنة 361، وهو الذي نعرفه اليوم بالجامع الأزهر، ورغم بقاء أغلب موظفي الدولة الإخشيدية في مناصبهم إلا أن جوهر لم يدع عملا إلا جعل فيه مغربيا شريكا لمن فيه، وبدأ تدريجياً يحول تقاليد الدولة ومقاليدها إلى الفاطمية.

وهنا لا بد أن نشير أن الخلاف السني الشيعي قبل هذا كان في مجمله خلافاً سياسياً موضوعه أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما جاءت الدولة الفاطمية نقلته من السياسة إلى العقيدة والفقه، وذلك بوضعهم مذهباً جديداً غيَّر كثيراً في العبادات والمظاهر الإسلامية التي أجمع عليها فقهاء الإسلام من قبلهم، وليس بجديد في التاريخ الإسلامي أن تعقب دولة أخرى فتقرب أناساً وتقصي آخرين، ويكون لها أسلوبها المتميز المختلف في إدارة الدولة ومراعاة أمور الاجتماعية، ولكن الجديد هنا أن التغيير أحدث شرخاً في قلب الوحدة الإسلامية لأنه تناول القوانين الفقهية والشعائر الدينية التي توحد المسلمين مهما تباعدوا واختلفوا.

ورغم استقرار الأمور لجوهر بقي خطر القرامطة يتهدده، وانضم إليهم بعض الإخشيدين والكافوريين، وتقدموا في أوائل سنة 361 حتى بلغوا عين شمس، وبعد عدة معارك متكافئة استطاع القائد جوهر هزيمتهم هزيمة منكرة وهربوا من أمامه، وكانت أبشع هزيمة لهم، وتركهم بعدها من كان قد انضم إليهم من الكافورية والإخشيدية، فقبض جوهر على نحو الألف منهم وسجنهم مقيدين.

ولما رأى المعز أن ملكه قد توطد بمصر خرج إليها فى أواخر سنة 361 بعد أن استخلف على إفريقية يوسف بلكين بن زيرى الصنهاجى، وكان من بعض وصيته له: لا تنس ثلاثة أشياء: لا ترفع الجباية عن أهل البلاد، ولا ترفع السيف عن البربر، ولا تولّ أحداً من إخوتك فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك. وخرج المعز من المنصورية دار ملكه بالمغرب، فنزل بساردينيا ثم رحل عنها إلى برقة فالإسكندرية، واستقبله أكابر المصريين عند منارتها، فخطب فيهم قائلاً: إنه لم يسر إلى مصر لازدياد في الملك أو المال، وإنما سار رغبة في الجهاد ونصرة المسلمين وإقامة الحق والسنة، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، ويعمل بما أمر به جده صلى الله عليه وسلم.

وفي الخامس من رمضان من سنة 362، دخل المعز القاهرة دون أن يدخل مصر القديمة، ولعل ذلك كان أمراً مقصوداً ليؤكد على استقلال دولته عمن قبله، وكانت مصر قد زينت له، وظنوا أنه يدخلها أولاً، ولذا لم يخرج أهل القاهرة للقائه، ولما دخل القاهرة ودخل القصر ودخل مجلساً منه خر ساجداً لله تعالى، ثم صلى ركعتين، وانصرف الناس عنه.

وحيث كان القرامطة في بداية أمرهم يقدِّمون دعوتهم على أساس اتباع المهدي، وأنهم يدعون إليه، ويراسلون أئمة الفاطمية على أنهم من أتباعهم، حاول المعز استجرارهم بالبناء على ذلك، وأن يخدعهم  بكلام منمق معسول عسى أن يدينوا له، فلم ينخدعوا بذلك، وهاجموا ميناء تنيس على البحر في سنة 362 فهُزموا، وأعادوا الكرة في أواخر سنة 363 فهزمهم جيش المعز هزيمة ساحقة على مقربة من بلبيس، وفي سنة 364 أرسل المعز جيشاً إلى الشام خاض معارك شديدة ضد أفتكين المتغلب على دمشق وحلفائه البيزنطيين؛ ودعي له على منابر الحرمين في الحجاز، ودعا له بنو حمدان في حلب، فكانت مملكته الشاسعة تمتد من أواسط المغرب إلى شمال الشام، وتوفى المعز في 14 ربيع الآخر سنة 365، وخلفه ولده العزيز بالله نزار الذي لبث في الخلافة زهاء إحدى وعشرين سنة.

وفي سنة 368 زحف القرامطة وحليفهم أفتكين على مصر، فلقيهم العزيز بالله في فلسطين وهزمهم بعد حرب شديدة وأسر أفتكين، ثم استرد بعدها دمشق ثم حمص وحماة وحلب، وخاضت جيوش العزيز بالله معارك عديدة ظافرة مع الدولة البيزنطية التي كانت تطمع أن تستولى على الشام، ودُعي للعزيز على منابر الموصل واليمن، فاتسع نطاق الدولة الفاطمية اتساعاً عظيماً، وتوفي العزيز بالله في سنة 386، وهو على أهبة السير بعساكره إلى الشام؛ فخلفه يوم وفاته ولده وولي عهده أبو علي منصور، الذي تلقب بالحاكم بأمر الله، وبدأ بذلك طور جديد من أطوار الدولة الفاطمية.

ولا يكتمل حديثنا دون العودة لنتحدث عن مآل الأفراد الذي سبق ذكرهم، كالقائد جوهر، والوصي الحسن بن عبيد الله الإخشيدي، والوزيرين؛ جعفر بن الفرات ويعقوب بن كلس.

أما القائد جوهر الذي حكم مصر 4 سنوات حتى جاءها مولاه المعز، فعزله المعز في أول سنة 364 عن دواوين مصر وجباية أموالها والنظر في أحوالها، وبقي على إكرامه وعلو منزلته حتى أدركته منيته في آخر سنة 381، ولما كان قد أحسن إلى الناس في ولايته وسار فيهم بالعدل، حزن الناس عليه، ولم يبق شاعر بمصر إلا رثاه وذكر مآثره.

وأما الحسن بن عبيد الله الإخشيدي الذي ترك البلاد وسار إلى الشام، فلم يلبث القائد جوهر أن أرسل جيشاً إلى الشام استولى عليها وعاد به إلى مصر، حيث بقي فيها حتى وفاته سنة 371، وكان معززاً فيما يبدو لأنه بعد وفاته صلى عليه العزيز بالله الفاطمي.

وأما الوزير جعفر بن الفرات، فقد أدار المفاوضات مع الفاطميين، ثم خرج إلى الشام، ثم أمنَّه المعز فعاد إلى مصر، وعمل في ديوان الخلافة الفاطمية، وتوفي في سنة 391 وصلى عليه قاضي الدولة الفاطمية الحسين بن محمد بن النعمان، وحُمل إلى المدينة بوصية منه فدفن فيها، ولئن لم يكن بالقوي في إدارته، فقد كان من ناحية أخرى رجلاً فاضلاً عالماً بالحديث محباً للعلماء، جاءه الدارقطني من العراق إلى مصر، وبقي في ضيافته حتى فرغ من تصنيف مسنده.

وأما الوزير يعقوب بن كلس، والذي ولد سنة 318 لأسرة يهودية في بغداد، وتعلم الكتابة والمحاسبة فيها، ثم سافر به والده إلى الشام، ثم أنفذه إلى مصر سنة 331، فالتحق بديوان كافور الإخشيدي ورأى كافور من نجابته وشهامته وصيانته ونزاهته وحسن إدراكه، ما جعله يرقيه حتى ولاه ديوانه، وأمر سائر الدواوين أن لا يمضي دينار ولا درهم إلا بتوقيعه، وأسلم في أيامه سنة 356، ولزم الصلاة ودراسة القرآن الكريم، ورتب لنفسه رجلاً من أهل العلم شيخاً عارفاً بالقرآن المجيد والنحو، فكان يبيت عنده ويصلي به ويقرأ عليه. 

وقد ذكرنا أنه بعد وفاة كافور اعتقله الوزير ابن الفرات و هرب سنة 363، والتحق بالمعز الفاطمي العبيدي فولاه أموره، ولقبه في سنة 368 بالوزير الأجل، وبعد وفاة المعز ولي الوزارة لابنه نزار العزيز بالله في أواخر سنة 368، وعمل تحت يده الوزير ابن الفرات، فكان يكرمه ويجله ولم ير منه ما يكرهه.

وكان ابن كلس يحب أهل العلم ويجمع عنده العلماء، ورتب لنفسه مجلساً في كل ليلة جمعة يحضره القضاة والفقهاء والقراء والنحاة، وكان في داره قوم يكتبون القرآن الكريم، وآخرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب، حتى الطب، ويعارضون ويشكلون المصاحف وينقطونها، ورتب في داره القراء والأئمة يصلون في مسجد اتخذه في داره.

ولما توفي آخر سنة 380، خرج العزيز وعليه الحزن ظاهر، وصلى عليه وألحده بيده في قبره، وأمر بغلق الدواوين أياماً بعده، وغدا الشعراء إلى قبره، ويقال إنه رثاه مئة شاعر. 

وقد هاجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ونبزه بالخبث والمكر، وأن إسلامه كان طمعاً في الوزارة، وقد أوردنا ما يخالف ذلك، وقد قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: وقيل إنه مات على دينه وكان يُظهر الإسلام، والصحيح أنه أسلم وحسن إسلامه، ?وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين