حدث في الثالث والعشرين من شعبان

 
 
 
الأستاذ : محمد زاهد أبو غدة
 
في الثالث والعشرين من شعبان من عام 329 اكتمل بناء مسجد الزهراء على يد الملك عبد الرحمن الناصر الأموي، أبي المظفّر عبد بن محمد بن عبد الله، وذلك بعد أربع سنوات ونصف من البدء فيه، وكان آخر ما وضع في المسجد منبر بديع في نهاية من الحسن، حوله مقصورة عجيبة الصنعة، وكانت أوّل جماعة صلّيت فيه صلاة المغرب، وكان الإمام قاضي قرطبة أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى، ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة، وأوّل خطيب به القاضي محمد بن أبي عيسى وهو من بني يحيى بن يحيى الليثى؛ وكان فقيها جليلاً عالماً موصوفاً بالعقل والدين، وله رحلة إلى المشرق في طلب العلم، وهو كذلك من أهل الأدب والشعر والمروءة والظرف، وولد في سنة 284 وتوفي في الغزو سنة 339، وتلاه على الخطبة والصلاة محمد بن يوسف بن سليمان الجهني القَبْرِيّ، المتوفى سنة 372، قبل أن يحولها الناصر إلى القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وسنتحدث عنه بعد قليل.
 
ومن رجالات الزهراء العلامة القارئ اللغوي أبو علي القالي إسماعيل بن القاسم، المولود سنة 280 والمتوفى سنة 356، والذي هاجر من بغداد إلى الأندلس سنة 330، قاصداً عبد الرحمن الناصر الذي أكرمه وقرَّبه، وفي جامعها كان يقرأ على طلابه أشهر كتبه: كتاب الأمالي.
 
وقبل أن نتحدث عن مدينة الزهراء ومبانيها ينبغي أن نذكر نبذة عن حياة بانيها، عبد الرحمن الناصر، عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل المرواني الأموي، الذي ولد بقرطبة سنة 277، وقُتل أبوه وعمره 21 يوما فرباه جده، وبويع بعد وفاة جده سنة 300 ، فكان أول مبايعيه بإمارة الأندلس أعمامه، لحب جده له، وكان عاقلا داهية مصلحا طموحا، انصرف إلى تسكين القلاقل، وصفا له الملك، وظهر له ضعف المقتدر العباسي في العراق، فجمع الناس وخطب فيهم، ذاكرا حق بني أمية بالخلافة، وأنهم أسبق إليها من بني العباس، فبايعوه بها سنة 316، وتلقب بالناصر لدين الله، وكان أسلافه يخطب لهم بالإمارة فقط، وكان حريصا على الملك، يقظا، صارما، قتل ابنه لأنه تتطلع إلى طلب الخلافة، وتوفي في قرطبة سنة 350 ودام حكمه خمسين سنة وستة أشهر، وكان يكتب في دفتر أيام السرور التي كانت تصفو له من غير تكدير، فلم تتجاوز أربعة عشر يوما!
 
وكانت قرطبة، عاصمة ملك عبد الرحمن الناصر، أعظمَ مدن الأندلس، عدد سكانها أكثر من 500.000 نسمة، وكان عدد دورها داخل السور 113000 دار، وكان عدد الدور التي في القصر الكبير أكثر من 430 داراً، وعدد مساجد قرطبة 3837 مسجداً؛ وعدد الحمامات العامة 700 حمام، وعليها سورٌ ضخم من الحجر، ولها سبعة أبواب.
 
وبدأ عبد الرحمن الناصر في أول المحرم من سنة 325 في بناء مدينة على سفح جبل يبعد قرابة 10 كيلومترات غربي قرطبة، وأسماها مدينة الزهراء، ولم تكن مدينة كبيرة في تخطيطها فقد كان طولها 1250 متراً وعرضها 700 متر، فهي أشبه بقلعة كبيرة من قلاع القرون الوسطى منها بمدينة، وهذا التحديد يفيدنا لنتلمس طريقنا في ما أورده المؤرخون من أرقام قد لا تخلو من المبالغة أحياناً، فقد ذكروا أن عدد الأعمدة التي فيها 4300 عمود، وأن عدد أبوابها يزيد على 15000 باب؛ ويصفها ابن بشكوال في الصلة بأنها: من أهول ما بناه الإنس، وأجلّه خطراً، وأعظمه شأناً.
 
وكانت الزهراء لكونها في سفح جبل مدرجة البنية؛ مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى على الحد الأوسط، وسطح الثلث الأوسط على الثلث الأسفل، وكل ثلثٍ منها له سور، فكان الحد الأعلى منها قصوراً يعجز الواصفون عن وصفها، والحد الأوسط بساتين وروضات، والحد الأسفل فيه الديار والجامع.
 
ويرتبط بناء كثير من المدن بأساطير وروايات لا تخلو منها قصة بناء الزهراء، إذ تذكر بعض كتب التاريخ أن مدينة الزهراء بنيت إكراماً لحظية الناصر الزهراء التي كان يحبّها حبّاً شديداً، وتورد في هذا الصدد أن الناصر ماتت له سرّيّة، وتركت مالاً كثيراً، فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين، وطلب في بلاد الإفرنج أسيراً فلم يوجد فشكر الله تعالى على ذلك، فانتهزت الزهراء لحظة سروره، وقالت له: اشتهيتُ لو بنيت لي مدينة تسميها باسمي، وتكون خاصّة لي، فبناها في سفح الجبل، وجعلها مستنزها ومسكناً للزهراء وحاشية أرباب دولته، ونقش صورتها على الباب.
 
ثم تنسب هذه الروايات أن الزهراء اقترحت على الخليفة أن يزيل الجبل من خلف هذه المدينة، وأنها لمّا قعدت في مجلسها نظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر الجبل الأسود، فقالت: يا سيّدي، ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر ذلك الزنجي؟ فأمر بإزالة ذلك الجبل، فقال بعض جلسائه: أعيذ أمير المؤمنين أن يخطر له ما يشين العقل سماعه: لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفراً ولا قطعاً، ولا يزيله إلاّ من خلقه! فأمر بقطع شجره وغرسه تيناً ولوزاً، ولم يكن منظر أحسن منها، ولا سيّما في زمان الإزهار وتفتّح الأشجار.
 
والواقع أن عبد الرحمن الناصر سار على سيرة أجداده محمد وعبد الرحمن الأوسط والحكم الذين شيدوا القصور والمباني على أكمل الإتقان والضخامة، وكان منها مبان عُرِفت باسمها مثل المجلس الزاهر والبهو الكامل والمنيف.
 
لقد كان عصر عبد الرحمن الناصر أعظم عصور الإسلام في الأندلس، وكانت قرطبة عاصمة الأندلس، قد بلغت يومئذ أوج العظمة والازدهار، ولكنها كانت بسكانها الخمسمئة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر من استكمال الفخامة الملوكية والقصور والرياض الشاسعة؛ بل كانت تضيق بهذه الأبنية الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلاً ومتنزهاً ملوكياً.
 
وكان الناصر ينفق على المنشآت والبناء ثلث دخل الدولة، فقد ذكر المؤرخون أنه كان يقسم جباية البلاد أثلاثاً: فثلث للجند، وثلث مدخر، وثلث ينفقه على العمارة، وتقول بعض الروايات إن دخل الدولة السنوي في أيامه بلغ 6245 مليون دينار، وهو قطعاً غير صحيح لأن مقدار ذلك من الذهب قرابة 25000 طن!
 
وبنى الناصر قبل أن يبني الزهراء قصراً عظيماً في قرطبة إلى جانب الزاهر وسمّاه دار الروضة، ثم أخذ في بناء المنتزهات، فاتخذ منية الناعورة خارج القصور، وساق لها الماء من مسافة بعيدة عبر الجبل، ثم اختط مدينة الزهراء، واتخذها لنزله، وكرسيّاً لملكه، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفّى على مبانيهم الأولى، ولم تزل المنشآت والأبنية العظيمة على مر العصور مظهر الملك الباذخ والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها تؤكد ما ذهبنا إليه:
 
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
 
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان
 
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
 
واتخذ عبد الرحمن الناصر في الزهراء محلات للحيوانات الوحشية فسيحة الفناء، متباعدة السياج، ومسارح للطيور مظللة بالشباك، وكان فيها حوض مائي كبير للأسماك وكان غذاء هذه الأسماك اليومي 12000 خبزة، و240 كيلو من الحمُّص الأسود المنقوع.
 
واتخذ الناصر في مدينة الزهراء دوراً لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن، وفي سبيل هذه الأعمال استدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية.
 
قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس: بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بنيان الزهراء أول سنة 325، وكان ما يستعمل فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل 6.000 صخرة، سوى الصخر المصرّف في التبليط، فإنّه لم يدخل في هذا العدد، وكان يخدم في الزهراء كل يوم 1.400 بغل، ومن دواب المقاولين العاملين فيها 100 بغل آخر، وكان بنيانها يستهلك من الجير والجص 370 حملاً في كل يوم، وكان فيها حمّامان: واحد للقصر، وثانٍ للعامة.
 
وكان عبد الرحمن الناصر يدفع على كل رخامة ثلاثة دنانير وعلى كل سارية ثمانية دنانير، سوى ما كان يلزمه من النفقة على قطعها ونقلها ومؤونة حملها، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية، والمجزّع من رية، والوردي والأخضر من تونس من سفاقس وقرطاجنة، ومنها ما جلب من مدينة رومة، ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينيّة، وكانت مصاريع أبوابها صغارها وكبارها ملبَّسة بالحديد والنحاس المموّه.
 
وكان فيها 4313 عموداً، جُلِبَ منها من إفريقية 1013 عموداً، وأهدى إليه ملك الروم 140 عموداً، وسائر ذلك من رخام الأندلس.
 
وأنشأ الناصر في قصره مجلساً في الجهة الشرقية سمي بالمؤنس، كانت قراميده من الذهب والفضّة والرخام الغليظ في جرمه الصافي لونه المتلوّنة أجناسه، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على أقواس من العاج والآبنوس المرصّع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سواري من الرخام الملون والبلّور الصافي، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، ، وفي وسط المجلس صهريج عظيم مملوء بالزئبق وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحداً من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته فيحرّك ذلك الزئبق فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب، حتى يخيّل لكل من في المجلس أن المحلّ قد طار بهم، ما دام الزئبق يتحرّك، وقيل إن هذا المجلس لم يتقدّم لأحد بناؤه في الجاهلية ولا في الإسلام.
 
وكان فيها حوض كبير منقوش مذهب غريب الشكل غالي القيمة أهداه للملك الناصر ليون إمبراطور القسطنطينية، وجلبه ربيع الأسقف من القسطنطينية من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر، ونصبه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف المؤنس، وجعل عليه اثني عشر تمثالاً من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي ممّا عمل بدار الصناعة بقرطبة: صورة أسد إلى جانبه غزال إلى جانبه تمساح، وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل، وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر، وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس، ويخرج الماء من أفواهها، وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم، لم يتكل فيه الناصر على أمين غيره.
 
وعمل في جامعها حين شرع فيه من حذّاق الفعلة كلّ يوم 1000 عامل، منهم 300 بنّاء و200 نجّار، فاكتمل بناؤه في 48 يوماً، وجاء في غاية الإتقان، وهو مسجد مساحته 1200 متر مربع، يتكون من خمسة أبهاء عجيبة الصّنعة، عمق صالة الصلاة الرئيسة 15 متراً، يكتنفها في كل طرف صالتان عرض كل منها 5.5 متر، ويليها صحن مكشوف طوله 19 متراً، وعمقه 20 متراً، وجميعه مفروش بالرخام الخمري، وفي وسطه فوّارة يجري فيها الماء، وبلغ ارتفاع صومعته أمثر من 18 متراً وعرضها 4.5 متر في مثلها.
 
وجلب الناصر الماء من جبل قرطبة إلى مدينة الزهراء عبر قناة بني جزء منها على جسر مقنطر، وينتهي ماؤها إلى بركة عظيمة، عليها أسدٌ عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة، مطلي بذهب إبريز، وعيناه جوهرتان لهما وميض شديد، يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجّه في تلك البركة من فيه، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبّه، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته، ويمدّ النهر الأعظم بما فضل منه، فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر، لبعد مسافتها، واختلاف مسالكها، وفخامة بنيانها، وسموّ أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوّب من أعاليها، وكانت مدّة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت - اعني القناة - إلى هذه البركة أربعة عشر شهراً، وأنعم الناصر على المهندسين والعاملين فيها بصلات حسنة جزيلة.
 
أما عدد سكان الزهراء وكلهم ممن يلوذ بالقصر الملكي والحاشية، فتتباين أقوال المؤرخين حولهم من 20000 رجل وامرأة إلى نصف هذا العدد، يستهلكون يومياً 13000 رطل من اللحم، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الأسماك.
 
أصبحت الزهراء مقر المَلِك سنة 329 عند اكتمال بناء المسجد كما ذكرنا، وانتقلت إليها السكة، وهي دار سك النقود، سنة 336، ولكن بناءها لم يكتمل بصورة لائقة، الناصر بقي يستقبل سفراء ملوك الدول النصرانية في قرطبة، ففي سنة 338 تسنم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن ليون عرش القسطنطينية بعد موت والده، وأرسل إلى الناصر بعثة صداقة في سنة 338، فاستقبلها الناصر في بهو المجلس الزاهر من قصر قرطبة، وهو الاستقبال المهيب الذي تحدثت عنه كتب التاريخ حديثاً مستفيضاً، وكيف قام فيه القاضي منذر بن سعيد بالخطابة بعد أن أُرتج على سابقَين له، ونجد في كتب التاريخ أن أول استقبال ملكي تم في الزهراء كان في سنة 351 عندما استقبل المستنصر بالله الملك آراجون بن الفونسو يقدم له الولاء ويمتن معه عرى السلم.
 
ولابد وقد ذكرنا القاضي الصالح الحق منذر بن سعيد، المولود سنة 273 والمتوفى سنة 355، والذي ولاه الناصر الصلاة والخطابة بجامع الزهراء، أن نشير إلى موقفه من الخليفة الناصر عندما انشغل بمتابعته لبناء الزهراء فلم يشهد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متوالية؛ فلما جاء الناصر في الجمعة الرابعة أدخل القاضي منذر في خطبته فصلاً مبتدئاً بقوله تعالى في سورة الشعراء: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ولا تقولوا ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾ ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ وهي دار القرار، ومكان الجزاء!
 
ووصل ذلك بكلام جزل، وقول فصل، ومضى في ذم تشييد البنيان، والاستغراق في زخرفته، والإسراف في الإنفاق عليه؛ فجرى طلقاً؛ وانتزع فيه قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وأتى بما يناسب المقام من التخويف بالموت، والتحذير من فجاءته، ودعا إلى الزهد في هذه الدار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لها، والندب إلى الإعراض منها؛ والإقصار عن طلب اللذات، ونهى النفوس عن اتباع هواها.
 
فأسهب في ذلك كله حتى خشع الناس ورقوا واعترفوا، وبكوا وضجوا، ودعوا وأعلنوا في التضرع إلى الله في التوبة، والابتهال في المغفرة، وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ، وقد علم أنه المقصود به؛ فبكى، وندم على ما سلف له، واستعاذ بالله من سخطه، إلا أنه وجد على منذر بن سعيد لغِلَظ ما تقرّعه به؛ فشكا ذلك لولده الأمير الحكم بعد انصرافه، وقال: والله! لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري! فأسرف علي وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي، وكاد بعصاه يقرعني!
 
واستشاط غيظاً عليه؛ فأقسم أن لا يصلي خلفه الجمعة خاصة؛ فكان يصلي وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة، ويجانب الصلاة بالزهراء، فقال له الحكم: فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك، والاستبدال منه إذ كرهته؟ فزجره وانتهره، وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وعمله وخيره - لا أُمَّ لك - يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق! هذا مما لا يكون! وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني، فأقسمت، ولوددت أني أجد سبيلاً إلى كفارة يميني، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا، إن شاء الله، فما أظننا نعتاض منه أبداً.
 
وقد ذكرنا البهو المؤنس الذي بناه عبد الرحمن الناصر من قراميد الذهب والفضة وبركة الزئبق التي كانت فيه، ونذكر هنا أن الناصر جلس في هذه القبة إثر تمامها لأهل مملكته وقال لقرابته ووزرائه مفتخراً عليهم: رأيتم أو سمعتم ملكاً كان قبلي صنع مثل ما صنعت؟ فقالوا له: لا والله يا أمير المؤمنين وإنك لأوحد في شأنك، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره! فابهجه قولهم وسره.
 
فبينا هم على ذلك دخل منذر بن سعيد واجماً ناكساً رأسه، فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطّى الرقاب، فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثّة، فلما أخذ القاضي مجلسه قال له الناصر ما قال لقرابته ووزرائه من ذكر السقف المذهب، واقتداره على إبداعه، فأقبلت دموع القاضي تتحدر على لحيته وقال له: والله يا أمير المؤمنين، ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله تعالى وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين، فاقشعر عبد الرحمن من قوله وقال: انظر ما تقول، كيف أنزلني منازلهم؟ قال: نعم أليس الله تعالى يقول﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾، فوجم الخليفة عبد الرحمن ونكس رأسه ملياً ودموعه تتحدر على لحيته خشوعاً وتذمماً مما جرى ثم أقبل على منذر بن سعيد فقال له: جزاك الله عنا وعن الدين خيراً، وكثر في الناس أمثالك، فالذي قلت والله هو الحق. وقام من مجلسه ذلك يستغفر الله تعالى وأمر بنقض سقف القبة وأعاده قرميداً على صفة غيرها.
 
وحضر منذر بن سعيد مع الخليفة الناصر يوماً في الزهراء، فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأنشد الناصر قصيدة منها:
 
سيشهد ما أبقيتَ أنّك لم تكن ... مُضيْعاً وقد مكّنت للدين والدنيا
 
فبالجامع المعمور للعلم والتّقى ... وبالزهرة الزهراء للملك والعَليا
 
فاهتزّ الناصر، وابتهج، وأطرق منذر بن سعيد ساعة، ثم قام منشداً:
 
يا باني الزهراء مستغرقاً ... أوقاته فيها أما تمهل
 
لله ما أحسنها رونقاً ... لو لم تكن زهرتها تذبل
 
فقال الناصر: إذا هبّ عليها نسيم التذكار والحنين، وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى، فقال منذر: اللّهم اشهد أنّي قد بثثت ما عندي ولم آل نصحاً.
 
وكأنَّ الرجل الصالح كان ينظر بنور الله، فلم تعمر الزهراء طويلاً مقر الملك في الأندلس، فقد لبثت قاعدة الملك والخلافة زهاء أربعين عاماً فقط، من عام 329 حتى نهاية عهد ابنه الحكم سنة 366، حين حدث تحول خطير في الدولة الأموية في الأندلس، فقد عهد الحكم بالملك لابنه الوحيد هشام المقب بالمؤيد بالله، وهو طفل لم يجاوز الحادية عشرة، فاستولى الوزير المنصور ابن أبي عامر، محمد بن عبد الله بن أبي عامر، المولود سنة 326 والمتوفى سنة 398، على مقاليد الحكم بمؤازرة السيدة صبح أم المؤيد، ولم يمض قليل حتى استأثر ابن أبي عامر بالحكم، وحجب المؤيد عن الناس، وكان المؤيد معه صورة بلا معنى، والمُلك لابن أبي عامر، لم يضطرب عليه شئ منه أيام حياته، لحسن سياسته وعظم هيبته.
 
وأنشأ المنصور ابن أبي عامر في سنة 368 ضاحية ملوكية جديدة بجوار قرطبة على نهر الوادي الكبير وأسماها الزاهرة، وجعلها قاعدة الحكم، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودوائر الحكومة، وكان ذلك في الواقع نهاية الحكم الفعلي لبني أُمية في الأندلس، ولم يبق لهم بعد ذلك من الملك سوى الاسم، ولئن بقيت الزهراء حيناً آخر مقراً ً للخليفة المحجور عليه، فإنها فقدت أهميتها السياسية والحضرية.
 
ومات المنصور ابن أبي عامر سنة 392، فتلاه ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر العامري، وبقي المؤيد في الحجر والأمور بيد الوزير، ثم توفي المظفر سنة 399، وخلفه أخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر ويطلق عليه كذلك شنشول، وهو تصغير للاسم الإسباني سانشو، لأن أمه كانت ابنة الملك الإسياني سانشو، وكان عبد الرحمن يشبهه، واستمر المؤيد خليفة في قفص، إلى أن طلب منه عبد الرحمن أن يوليه عهده، فأجابه، وكتب له عهدا بالخلافة من بعده، فثارت ثائرة أهل الدولة لذلك، فخلعوا المؤيد وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، ولقبوه المهدي بالله، وقتل الوزير عبد الرحمن شنشول، وخلافاً للتقاليد المتبعة في تكوين الجيش من العسكر المحترفين، فأمر المهدي بتجنيد كل من سجل اسمه في الديوان، فلم يبق عاطل ولا جاهل ولاحجام إلا جاءه فاجتمع له نحو من خمسين ألف، وإزاء هذا العدد اللجب من الجنود وأمر تدبير رواتبهم وأرزاقهم، أمر المهدي بنهب دور بني عامر، وانتهب جميع ما في الزهراء من الأموال والسلاح، فلم يبق فيها شيء وقلعت حتى أبوابها، ويقال إن الذي وصل إلى خزانة المهدي5.500.000 دينار.
 
وخرج على المهدي سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وتغلب عليه، وتلقب بالمستعين بالله، وفي سنة 401 هاجم المستعين قرطبة لينتزعها من المؤيد وواضح الحاجب المتغلب عليه، ثم هاجم مدينة الزهراء واقتحمها، فلجأ سكانها إلى الجامع، فأخذهم جنوده من البربر وذبحوهم، حتى النساء والصبيان، وألقوا النار في الجامع والقصر والديار، فاحترق أكثر ذلك، وفي سنة 414 بويع محمد بن عبد الرحمن الناصري، وتلقب بالمستكفي بالله، وهو والد ولادة الشاعرة، فكانت تلك ثالثة الأثافي على مدينة الزهراء، فقد كان معروفاً بالتخلف والركاكة، ولم يجلس في الإمارة أسقط منه ولا أنقص، تجرأ عليه الناس وسقطت هيبة الخلافة بالكلية، وفي أيامه استؤصلت بقية قصوره جده الناصر بالخراب، وطمست أعلام قصر الزهراء، واقتلع نحاس الأبواب ورصاص القنوات، وغير ذلك من الآلات. قال ابن بسام: فطوي بخرابها بساط الدنيا، وتغير حسنها، إذ كانت جنة الأرض، فعدا عليها قبل تمام المئة من كان أضعف قوة من فأرة المسك، وأوهن بنية من بعوضة النمرود، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت.
 
ورثى الشعراء الزهراء بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة حزينة منها:
 
ديارٌ بأكناف الملاعب تلمع ... وما إن بها من ساكنٍ وهي بَلقعُ
 
ينوح عليها الطير من كل جانب ... فيصمت أحياناً وحيناً يرجِّع
 
فخاطبت منها طائراً متغرّداً ... له شجنٌ في القلب وهو مروَّع
 
فقلت: على ماذا تنوح وتشتكي؟ ... فقال: على دهرٍ مضى ليس يرجع
 
وأطلال مدينة الزهراء موقع أثري غربي قرطبة تحت عناية مصلحة الآثار الأسبانية التي رممت ما بقي منها، ويقدر بحوالي 10% من المدينة الأصلية، وجعلت فيها متحفاً يذكر الزائر ببعض ملامح هذه المدينة العظيمة التي كانت مضرب المثل في أيامها في الحسن والروعة.
 
هذه هي مدينة الزهراء انضمت إلى مدن لمع نجمها ثم ما لبث أن خبا، مثل الرُصافة التي بناها في بادية الشام هشام بن عبد الملك الأموي، ومدينة سامراء التي أنشأها المعتصم، ومدينة القطائع التي أنشأها أحمد بن طولون، ورصافة الأندلس التي أنشأها في قرطبة عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية بالأندلس

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين