حدث في الثالث والعشرين من ربيع الآخر

في الثالث والعشرين من ربيع الآخر من عام 752 توفي، عن 55 عاماً، السلطان أمير المسلمين المنصور بالله، أبو الحسن المريني، علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني، من كبار بني مرين، ملوك المغرب. ومَرين قبيلة من قبائل البربر تفرعت عن زِناتة التي تفرعت بدورها عن مصمودة.

ولد أبو الحسن المريني في سنة 697، وكان أبوه أبو سعيد عثمان بن يعقوب المريني سلطان المغرب، ولقبه السعيد بفضل الله، وتولى السلطنة سنة 710 إثر وفاة أبي الربيع المريني، سليمان بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب المريني، عن 21 عاماً، واستمرت سلطنته إلى حين وفاته سنة 731 عن 56 عاماً، وكانت أيامه أيام حروب وتوسع، ظفر في أغلبها.
أما أم أبي الحسن المريني فكانت حبشية، وكان هو أسمر اللون فعُرِفَ عند العامة بالسلطان الاكحل.
بويع أبو الحسن المريني بفاس بعد وفاة أبيه سنة 731 بعهد منه، وكان باكورة أعماله استرجاعه جبل طارق من يد الإفرنج، وذلك بالتعاون مع ملك غرناطة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل ابن الأحمر، لاسترجاع جبل طارق من يد الإفرنج الذين احتلوه سنة 707، فحاصره المنصور المريني ستة أشهر في سنة 733، وطرد الإفرنج منه الذين كانوا قد احتلوه سنة 707، واهتم المنصور ببنائه وتحصينه، وأنفق عليه أحمال مالٍ في بنائه وحصنه وسوره وأبراجه وجامعه ودوره ومخازنه، ولم كاد يتم ذلك حتى عاود الإفرنج الكَرَّة برّاً وبحراً، فصبر المسلمون، حتى فشلت الحملة، فقام بمشروع تحصين سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدوّ في منازلته، ولا يجد سبيلاً للتضييق عند محاصرته، ورأى الناس ذلك من المحال، فأنفق الأموال، وأنصف العمال، فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال.
ثم اصطدم أبو الحسن المريني بأخيه الأكبر أبي علي المولود سنة 696، وكان عليٌ ولي عهد والده، ثم انتقض على والده مرتين، وفي كلتيهما يعفو عنه، فلما تولى الحكم أبو الحسن المريني أحسن إليه وأقره على سجلماسة، وهي مدينة مندثرة في شرقي المغرب كانت هامة في التجارة مع إفريقيا السوداء، ولكن علياً انتقض عليه في سنة 734، فهاجم المنصور سجلماسة وأخذ أخاه فسجنه في فاس ثم قتله بالفصد، ولكنه أحسن إلى أولاده وخلطهم بأولاده وزوج ابنته الكبرى المسماة تاحضريت بأحد أولاد أخيه المدعو بأبي سلوس.
وكان ملك تلمسان أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى الزناتي من بني عبد الواد، صاحب شجاعة وحزم وجبروت، نظر في العلم وتفقه على أبيه الإمام، وعمر بلاده بالمصانع والقصور والحدائق، ولكنه كان سيئ السيرة يذكر عنه قبائح، وقتل أباه واستولى على الملك في سنة 718، وكانت سنة 26 عاماً، وتاريخياً كان بنو زيان أصحاب تلمسان على غير وفاق مع بني مرين، وكان جد السلطان المنصور قد نازل تلمسان سنوات ومات وهو يحاصرها سنة بضع وسبع مائة.
وعقد أبو الحسن المريني بعد توليه الصلح مع أبي تاشفين الذي سرعان ما نكثه، فزحف أبو الحسن بجيوشه سنة 735 فافتتح وَجْدة وهدم أسوارها، واستولى على وهران ومليانة والجزائر، وحاصر تلمسان حصاراً طويلاً، وجدد بناء المنصورة بقرب تلمسان، وكان قد اختطها عمه يوسف بن يعقوب بن يعقوب وخربها بنو زيان، فجعلها أبو الحسن قاعدته في حصار طويل انتهى بمقتل أبي تاشفين عندما خرج من المدينة وأراد أن يباغت المنصور المريني، فانعكس الأمر عليه وصد جيش المنصور الحملة وطاردوها حتى دخلوا تلمسان وقتلوا أبا تاشفين سنة 737، وطيف برأس أبي تاشفين بالمغرب، ثم دفن مع جسده عند أبائه بتلمسان. ولما تغلب أبو الحسن المريني على بنى عبد الواد لم يقصِهِم بل استخدمهم وانتقى أولى الشجاعة والاقدام منهم فرمى بهم ثغور المغرب، ومن هؤلاء عثمان بن عبد الرحمن، المولود سنة 703، والذي كان في جيش المنصور المريني، يُرسَل في السرايا، وهو مرؤوس تحت حكم قائد الجيش، ثم لما توفي المنصور تمرد بتلمسان، فتحرك إليه السلطان أبو عنان المريني من فاس، وهزمه في أوائل سنة 753، وقتله.
وعاد أبو الحسن المريني إلى فاس فجهز الجيوش لقتال الفرنجة في الاندلس بقيادة ابنه أبي مالك، فقتل الإفرنج أبا مالك، فتولى السلطان مباشرة الجهاد بنفسه فرحل إلى سبتة Ceuta وجمع الأساطيل فضرب بها أساطيل الفرنج بمضيق جبل طارق ويسميه العرب أحياناً بحر الزقاق سنة 740، وعبر البحر إلى ناحية طريف Tarifa وكانت في يد العدو، فحاصرها طويلا على رأس جيش بلغ تعداده أكثر من 60000 مقاتل، وفاجأه الافرنج بجيوش متعددة، فأصيبت عساكره بفاجعة قلما وقع مثلها، وقتلت النساء والولدان، وقتل في هذه الواقعة ثلة كبيرة من علماء الإسلام، ونجا ببقايا جموعه سنة 741 فقفل إلى الجزيرة الخضراء فجبل الفتح المعروف بجبل طارق، وركب إلى سبتة، واستأسد الفرنج، فأغرقوا أساطيله في الزقاق واحتلوا الجزيرة الخضراء.
وكان في قرطبة مصحف من المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار عثمان رضي الله عنه، وخرج هذا المصحف من قرطبة إلى ملوك المغرب حتى وصل إلى أبي الحسن المريني، فكان لا يسافر إلا ومعه المصحف الكريم العثماني، وكان لهذا المصحف عند أهل الأندلس شأن عظيم، ومقام كبير، ومن نتائج هزيمة طريف أن وقع المصحف العثماني بيد القوات البرتغالية، فاهتم المنصور كثيراً لفقده وأعمل الحيلة في استرجاعه، حتى أتى به إلى فاس سنة 745 أحد تجار أزمّور.
ورجع أبو الحسن المريني إلى فاس، يتجهز لاعادة الكرة، فعلم بوفاة أبي بكر الحفصي صاحب إفريقية ونشوب الفتنة بين ابنيه، فتوجه بجيشه إلى تونس فدخلها سنة 748 وزار القيروان وسوسة والمهدية، واستعمل العمال على الجهات، ودالت دولة الحفصيين، واتصلت ممالكه من مسراتة إلى السوس الاقصى.
ثم واجه تحدياً آخر في تونس تزعمه أبو العباس أحمد بن عثمان بن إدريس بن أبي دبوس الكومي، حفيد آخر ملوك بني عبد المؤمن بالمغرب: إدريس بن محمد بن عمر بن عبد المؤمن، وكان أحمد ولد بالقاهرة سنة 722، وكان حسن الهيئة جميل الصورة كثير الصمت حسن الكتابة بليغ العبارة، ورحل من القاهرة في أواخر سنة 736 مؤملاً استخلاص بعض أملاك وأبيه بمراكش، فدخل تونس في عام 737 فأقام بها إلى أوائل سنة 741، فقُبض عليه وسجن إلى أوائل سنة 747، فأطلق ودخل الديار المصرية، ثم رجع إلى تونس فانضم إليه جماعة من العرب وبايعوه وأظهر العصيان على المنصور المريني، وكثرت جموعه حتى قيل إنهم كانوا عشرة آلاف، فالتقوا بعسكر المنصور في أول سنة 749، وجرت بينهم عدة معارك آل الأمر فيها إلى انهزام المنصور واستيلاء العرب على أمواله الجمة، ولكن قصبة تونس عصت عليه، فحاصرها ورماها بالمنجنيق، وفي هذه الأثناء أعاد أبو الحسن المريني تجميع قواته، وشن هجوماً جديداً هزم فيه الكومي ودخل تونس، واختلف الكومي مع العرب الذين هادنوا المنصور ثم صالحوه، فاختل أمر الكومي وفر، فقبض عليه أبو الحسن وأرسله في البحر إلى بجاية ثم إلى فاس، ثم أطلق سراحه وأحسن إليه، وبقي الكومي دونما جدوى يحاول ملكاً إلى أن مات بمدينة فاس سنة 762.
ومما ينبغي أن يذكر أن قاضي الجماعة بتونس وصدر علمائها في زمانه، الشيخ الفقيه، أبا عبد الله محمد بن عبد السلام المنستيري، المولود سنة 676 والمتوفى بالطاعون الجارف سنة 749، كان صُلباً في قضائه لا يرعى في الحق سلطاناً ولا أميراً، فلما تغلب أنصار الكومي على مدينة تونس دون قصبتها، عندما هزموا جيوش المنصور المريني، وحصروه ومن بقي معه من جنده بداخل القيروان، فجاء شيخ منهم في يوم الجمعة إلى الخطيب فقال له: اخطب بدعوة الأمير أبي العباس بن أبي دبوس من الموحدين! وكان في المسجد القاضي ابن عبد السلام؛ فقال: والسلطان المريني؟ فقال: إنه في حكم الحصار داخل القيروان بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فقال: فتلزم إذاً مناصرته، والعمل على الوفاء بما شُرِطَ له عند مبايعته! فردَّ عليه بأن الأخبار تواترت بعد ذلك بتلفه، وانتزاع ملكه، فقال الخطيب: على تقدير صحة هذا النقل: الفرع زال بزوال الأصل. انظروا ما يصلح بكم لخطبتكم! وارتفعت الأصوات والمراجعات؛ فقطع القاضي الكلام بمبادرته إلى الخروج من الجامع، وهو يقول: ولم يثبت لدينا ما يوجب العدول عن طاعة السلطان أبي الحسن، واستصحاب الحال حجة لنا وعلينا! وكاد وقت صلاة الجمعة أن يفوت؛ فوجه عند ذلك المتغلب على المدينة إلى القاضي رسولاً باستمرار الأمر في الخطبة لأبي الحسن المريني على ما كانت عليه؛ فدعا الخطيب وتمت الصلاة على الرسم المعتاد.
ووصلت أخبار انتقاض تونس إلى المغرب الاقصى، فانتقضت زناتة، من بني عبدالواد ومغراوة وبني توجين، وكان أبو الحسن المريني قد ولى ابنه أبا عنان، واسمه فارس، على تلمسان، فلما علم ما حل بأبيه دعا إلى نفسه، فبويع بقصر السلطان بالمنصورة سنة 749، وسنه 20 عاماً، وزحف بجيش إلى فاس فقاومه أميرها، وهو أخوه: منصور بن علي، فافتتحها وقتله، واستوسق له ملك المغرب.
وجاءت الاخبار بذلك إلى السلطان وهو بتونس، فركب البحر سنة 750 في نحو ستمئة مركب، فواجهته عاصفة شديدة تجاه بلدة دلس شرق مدينة الجزائر، فغرق كل من معه إلا بضعة مراكب، وهلك من كان معه من أعلام المغرب وهم نحو أربعمئة عالم، منهم مفتي مجلسه أبو عبد الله محمد بن سليمان السطي شارح الحوفي، وأبو عبد الله محمد ابن الصباغ الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث "يا أبا عمير ما فعل النغير" أربعمائة فائدة.
ونزل أبو الحسن المريني بالجزائر، فأقبل عليه أهلها، فنهض يريد تلمسان، وكان قد استولى عليها بنو زيان، فقاتلوه ونهبوا ما بقي معه، فخلص إلى الصحراء وانتهى إلى سجلماسة فقابله أهلها بالطاعة، ورحل منها إلى مراكش، ففرح به أهلها.
ولكن ابنه أبا عنان أراد أن يستأثر بملك والده، فزحف من فاس لقتاله، فتلاقيا في وادي أم الربيع، فانهزم عسكر السلطان، ونجا، فانصرف إلى جبل هنتاتة وطلبه ابنه أبو عنان فحمته قبائل هنتاتة، وصبروا على الحصار وخراب الديار، وحرق الأماكن، فاعتل في أثناء ذلك ومات، فحمل إلى ابنه، فتلقاه حافيا حاسرا باكيا وقبل أعواد النعش ودفنه في مراكش، ثم نقله إلى مقابرهم بفاس، ومنها إلى ضريحه في مدفن أسلافه بشالة سلا.
خلَّف أبو الحسن المريني آثاراً عمرانية شملت مدارس في مدن المغرب مثل مراكش وسلا وتازة وغيرها، ولا تزال رخامة التحبيس موجودة تحمل اسمه في مدرسة الصهريج بفاس وكانت عندما أسسها وهو أمير سنة 721 تسمى المدرسة الكبرى، وأسس بعد خلافته مدرسة في فاس سنة 745 سميت المدرسة المصباحية نسبة إلى أول أساتذتها وهو أبو الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوتي المتوفى سنة 750.
وبنى في مكناسة الزيتون زاويتيين، بنى القديمة في زمان أبيه، والجديدة حين تولى الخلافة، وله في هذه المدينة غير الزاويتين عدة آثار كثيرة جميلة من القناطر والسقايات وغيرها، ومما يعبر عن شخصية المنصور المريني أنه لما تم بناء المدرسة الجديدة، وكان قاضي مكناسة هو الناظر على بنائها، جاء إليها المنصور من فاس ليراها، فقعد على كرسي من كراسي الوضوء حول صهريجها، وجيء بحساب تكاليفها إليه، فغرَّقه في الصهريج قبل أن يطالعه، وأنشد:
لا بأس بالغالي إذا قيل حسن ... ليس لما قرت به العين ثمن
كان أبو الحسن المريني ذا همة عالية في الجهاد كثير الجيوش، بلغ عدد المسجلين في ديوانه من المقاتلين 40000 فارس غير حفظة المدن والسواحل، مع تمكنه إذا استجاش لحربٍ عليه أن يُخرج أعداداً أكثر بكثير قدرها بعض المؤرخين بحدود 140000 مقاتل.
وكان أبو الحسن المريني نشيطاً على صعيد العلاقات الخارجية، وبخاصة مع الممالك الإسلاميةفي الأندلس، فقد كان هناك تحالف طويل الأمد بين المرينيين وبين بني الأحمر في غرناطة، ولم يزل ملوك بني مرين يعينون أهل الأندلس بالمال والرجال، وكانت هناك قوة دائمة من أقارب السلطان عند ابن الأحمر في غرناطة، وعليهم رئيس من بيت بني مرين يسمونه شيخ الغزاة. وكانت للمنصور المريني مراسلات وهدايا متبادلة مع ملوك دول الجوار، مثل ملوك النصارى في الأندلس والبرتغال، وسلاطين السودان في مالي، ولصاحب إفريقية، ومنها لصاحب تلمسان.
وتبادل أبو الحسن المريني المراسلات والهدايا مع أحد أعظم ملوك المماليك في مصر: الملك الناصر محمد بن قلاوون، المولود سنة 684 والمتوفى سنة 741، والذي دام ملكه أكثر من 40 عاماً، وكانت الرسائل بينهما لا تكاد تنقطع، يذكر المؤرخون أن زوجة أبي المنصور ووالدة أخته مرت بالقاهرة سنة 738 في طريقها إلى الحج، ومعها جمع كبير وهدية جليلة إلى الغاية، نزل لحملها من الإسطبل السلطاني ثلاثون قطاراً من بغال النقل سوى الجمال، وكان من جملتها أربعمئة فرس بسروج ولُجُم مسقطة بالذهب والفضة، ومنها سرجان من ذهب مرصع بجوهر، وفيها اثنان وثلاثون بازاً، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم حتى نفدت كلها، سوى الجوهر واللؤلؤ، فإنه اختص به، وكان منه حلية على صورة كرمة تحمل على رؤوس النساء، عناقيدها الجواهر النفيسة، وقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مئة ألف دينار، وكان معها جمع عظيم قدره بعضهم بخمسمئة شخص، رتب السلطان لهم ما يلزمهم من الطعام، فكان مرتبهم في كل يوم ثلاثون رأساً من الغنم، ونصف أردب أرزاً، وقنطار حب رمان، وربع قنطار سكراً، وبلغت أجرة حمل أثقال ركبها ستين ألف درهم.
ولما عادت من الحج أرسل السلطان معها من تحف مصر وقماش إسكندرية، وقماش العراق شيئاً كثيراً، وكان ابن فضل العمري صاحب كتاب مسالك الأمصار ممن حج في تلك السنة، وقال: وأنا أحمد الله، إذ بيدي توليت خلع الكسوة العتيقة عن الكعبة وتلبيسها الكسوة الجديدة. وحُمِلَت الكسوة العتيقة في تلك السنة إلى السلطان بمصر، لتُجهَّز إلى السلطان أبي الحسن المَرِينيّ مع ما يُجهَّز عوض هدية بعثها في هذه السنة.
وفي سنة 745 أرسل أبو الحسن المريني كتاباً إلى السلطان الملك الصالح إسماعيل يعزيه بأبيه، ويهنئه بالجلوس على تخت الملك، ويذكر واقعة طريف، ويطلب الدعاء، ويستنجد به على الأعداء، ومما جاء في الكتاب:
من عبد الله علي، أمير المسلمين المجاهدين في سبيل رب العالمين، المنصور بفضل الله، المتوكل عليه، المعتمد به جميع أموره وما لديه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والمثاغرة، ومؤازر حرب الإسلام، مظاهر دين الملك العلام...
إلى ... السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، الشهير الخطير، الأضخم الأفخم، المعان المورث المؤيد المظفر، الملك الصالح، أبو الوليد إسماعيل ... السلطان الأجل الهمام، الأحفل، الأفخم، الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدله في الجائر والقاسط، المؤيد المظفر المنعم المقدس المطهر، زين السلاطين، ناصر الدنيا والدين ...
وبحسب المصافاة ومقتضى الموالاة نشرح لكم المتزيدات بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلك الجناب، وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ، ونادى الجهاد منا عزماً لمثل ندائه نصيخ، أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم بابهم اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها، وتنقص بالمنازلية أرضها من أطرافها، لتمحو كلمة الإسلام منها، وتقلص ظل الإيمان عنها، فقدمنا من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على أثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد.
فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور، وسد اختطاف الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفالهم بما لا يحصى عدداً وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد، واجتمعوا إلى جزيرة الخضراء، أعاذها الله، بكل من جمعوه من الأعاد، لكنا مع انسداد تلك السبيل وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجميل، حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بمن أمكننا من الجند، وجهزنا أجفاناً مختلسين فرصة الإجازة وتترد على خطر من جهز الجهاد جهازه، وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته لمداناة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة، وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة، وجعلت أجفاننا تتردد من يمشي السواحل ويلج أبواب الخوف العاجل، لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسومة، والأقوات المقومة، فمن ناج حارب دونه الأجل، وشهيد مضى لما عند الله عز وجل، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر، حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر، ثم لم نقنع بهذا العمل والإمداد، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم مساهمة لأهل تلك البلاد، فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه، ما به الأمثال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب، ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخين أو أدنى، وقد ضرب بطعن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى، وقد كان من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته، وقويت في الحرب إدارته، يبلون البلاء الأصدق، ولا يبالون بالعدو وهو منه كالشامة البيضاء في البعير الأورق، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف، ومنازلتها في البر نحو عامين معقوداً عليها الصف بالصف، أدى إلى فناء الأقوات بالبلد حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق ما يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد.
فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجح، فأذنا فيه الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ من في طره من المسلمين توخينا ذل المرام، هنالك دعا النصارى إلى السلم فاستجابوا لداعيه، وقد كانوا علموا فناء القوت، وما استرابوا الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين، ولم يرزؤوا مالاً ولا عدة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلدة ترابها شدة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف عتاقها، وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها، وأموال عمت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكفى بالله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها.
وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر أن قدم لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منه فيها إن شاء الله ميسرة. حين يفترق عقد الكفار، ويفرد بهذه الجهة منه مجاوروا هذه الدار فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بأضعافهم، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم. ولكن للموانع أحكام، ولا راد لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد من العَدد والعُدد، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، وتربط الجياد تنتخب العُدد لوقت الظهور المنتظر، وتكون على أهبة الجهاد وعلى مرقب الفرصة عند تمكنها في الأعاد، وعند عودنا من تلك المحاولة نسير الركب الحجاز موجهاً إلى هنالكم رواحله، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحب اللباب، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء، فموفى قصده على أكمل الأهواء موالي تتميمه على أجمل الآراء، والبلاد باتحاد الود متحده، والقلوب والأيدي على ما فيه من مرضاة الله تعالى معتضده، جعل الله ذلكم خالصاً لرب العباد، مذخوراً ليوم التناد، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه وفضله، وهو سبحانه يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب، وتتضفر على الانقياد له صدور المواكب، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام الأتم يخصكم كثيراً أثيراً، ورحمه الله وبركاته.
وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبع مئة
وقد يلاحظ القارئ الكريم أن السلطان المريني سمى نفسه أمير المسلمين دون أمير المؤمنين، وكان هذا من سلاطين المغرب اعترافاً بالخلافة العباسية وتوحد المسلمين حولها، وقد كتب جواب هذه الرسالة المؤرخ صلاح الدين الصفدي، وكان كما ترى جواباً حافلاً بالدعاء قاصراً عن المشاركة في اللقاء، وابتدأ بذكر ألقاب السلطان إسماعيل:
السلطان، الملك، الصالح، السيد، العالم، المؤيَّد، المجاهد، المثاغر، المظفر، المنصور، عماد الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والترك، فاتح الأقطار، واهب الممالك والأمصار، إسكندر الزمان، مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، مالك البحرين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك والسلاطين، جامع كلمة الموحدين، ولي أمير المؤمنين، أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين، أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، خلد الله سلطانه، وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه...
وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من الكفار حزنها وسهلها، فإنه شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان وعدد به ذنوب الزمان كل قلب بأنامل الخفقان ... ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضائق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا عليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العربات بالرعبات، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول، وأين الثريا من يد المتناول، وما لنا غير إمدادكم بجيوش الدعاء الذي نرفعه نحن له ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول في سجايانا.
وكتب السلطان أبو الحسن المريني بخط يده ثلاثة مصاحف مذهبة، كبيرة الحجم كل منها وقر بعير، أرسلها بواسطة السلطان المملوكي إلى الحرمين الشريفين والقدس الشريف، وأرسل معها 16500 دينار لشراء أوقاف في المساجد الثلاثة ينفق ريعها على من يقوم بقراءة القرآن فيها وخزانة مناسبة لها، وأصدر السلطان أمراً بإعفاء هذه الأوقاف من الضرائب كتبه الأديب الشهير جمال الدين ابن نُباتة المصري، جاء فيه: وهو الذي مدَّ يمينه بالسيف والقلم فكتب في أصحابها، وسطر الختمات الشريفة فأيد الله حزبه بما سطر من أحزابها، واتصلت أخبار ملائكة النصر بلوائه تغدو وتروح، وكثرت فتوحه لأولياء الغرب فقالت أوقاف الشرق لا بد للفقراء من فتوح، ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي، وخط سطورها بالعربي وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي، ورتب عليها أوقافاً تجري أقلام الحسنات في إطلاقها وطلقها، وحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الأرض إلى مشرقها، والله تعالى يمتع من وقف هذه الختمات بما سطر له في أكرم الصحائف، وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها ويتقبل من الواقف.
وكان أبو الحسن المريني مع كونه من رجال الرمح والسنان ذا اشتغال بالادب، يقول الشعر ويجيد الإنشاء، فقيهاً عالماً، ويتشوف في أن يضم تحت جناحه العلماء والفقهاء، فكان في بلاطه كتاب وعلماء بارزون ذكر كثيراً منهم ابن خلدون في تاريخه لأنه تتلمذ أو أخذ عن أكثرهم، وأولهم عبد المهيمن الحضرمي، عبد المهيمن بن محمد، المولود بسبتة سنة 676 والمتوفى بتونس سنة 749، وكان كاتب الإنشاء بفاس وصدر وجهائها، مقدماً في علم الحديث وضبط رجاله، ودرس عليه العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وكان كريم الأصل أبي النفس، حكي أن المنصور المريني سبَّه بمجلس كتابه، فأخذ عبد المهيمن القلم وكسره، وقال: هذا هو الجامع بيني وبينك! ثم إن السلطان ندم وخجل مما صدر منه فأحسن إليه وأفضل عليه. ومن شعر عبد المهيمن:
أبت همتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوماً له ذا خضوع
وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل الخشوع
ومنهم الطبيب أبو تمام غالب بن علي الشقوري الغرناطي، المتوفى سنة 741، وكان قد درس الطب بالقاهرة، وزاول العلاج، وعاد فولي الحسبة بمدينة فاس، وتوفي بسبتة، وله تآليف طبية كثيرة، ومنهم الأخوان ابنا الإمام عيسى وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن الإمام، وتوفي عيسى سنة 749 وعبد الرحمن سنة 743، وكانا فاضلا المغرب في وقتهما، وخصيصين بالمنصور المريني، وتخرج بهما كثير من الفضلاء، ولهما التصانيف المفيدة والعلوم النفيسة، ومنهم أبو القاسم ابن رضوان، عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري المالقي، المولود سنة 718 والمتوفى سنة 782، وكان من كتاب المنصور وابنيه أبي عنان وأبي سالم، وله كتاب الشهب اللامعة في السياسة النافعة.
ومنهم الفقيه الأديب ابن مرزوق العجيسي، محمد بن أحمد بن محمد، المولود بتلمسان سنة 710 والمتوفى بالقاهرة سنة 781، الذي ولي للمنصور المريني وكان من المقربين إليه، ثم كان من وزراء ابنه السلطان أبي سالم المريني، وله كتب في الحديث والفقه، وألف ابن مرزوق كتاباً في سيرة المنصور المريني أسماه المسند الصحيح الحسن من أحاديث السلطان أبي الحسن.
وقد مر بتونس في أيام المنصور المريني الرحالة الشهير ابن بطوطة، محمد بن عبد الله اللواتي، المولود سنة 703 والمتوفى سنة 779، وذكره في كتاب رحلاته ووصفه بأمير المسلمين، وناصر الدين، المجاهد في سبيل رب العالمين، علم الأعلام، وأوحد الملوك الكرام، أسد الآساد، وجواد الأجواد، القانت الأواب، الخاشع العادل. قال ابن بطوطة: فدخلت المَشوَر الكريم وقبلت يد مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وأمرني بالقعود فقعدت، وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته... وسألني عن ملك الهند فأجبته عما سأل، ولم أزل أتردد إلى مجلسه الكريم أيام إقامتي بتونس، وكانت ستة وثلاثين يوماً.
وكان الوزير المؤرخ الأديب النبيل لسان الدين ابن الخطيب، محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني الغرناطي الأندلسي، المولود سنة 713 والمتوفى سنة 776، قد التجأ من غرناطة إلى ابن المنصور السلطان عبد العزيز بن المنصور المريني في تلمسان في سنة 773، وزار جبل هنتانة وشاهد محلَّ وفاة أبي الحسن المريني ، فخاطبه بكلمة بليغة عدد فيها مآثره ومنائره، منها:
السلام عليك ثم السلام، أيها المولى الهمام الذي عرف فضله الإسلام، وأوجبت حقه العلماء الأعلام، وخفقت بعز نصره الأعلام، وتنافست في إنفاذ أمره ونهيه السيوف والأقلام.
السلام عليك أيها المولى الذي قسم زمانه بين حكم فصل، وإمضاء نصل، وإحراز خصل، وعبادة قامت من اليقين على أصل.
السلام عليك يا مقرر الصدقات الجارية، ومشبع البطون الجائعة وكاسي الظهور العارية، وقادح زناد العزائم الوارية، ومكتب الكتائب الغازية في سبيل الله تعالى والسرايا السارية.
السلام عليك يا حجة الصبر والتسليم، وملتقي أمر الله تعالى بالخلق المرضي والقلب السليم، ومفوض الأمر في الشدائد إلى السميع العليم، ومُعمِلَ البنان الطاهر في اكتتاب الذكر الحكيم.
كرم الله تعالى تربتك وقدسها، وطيب روحك الزكية وآنسها، فلقد كنت للدهر جمالاً، وللإسلام ثمالاً، وللمستجير مجيراً، وللمظلوم ولياً ونصيراً؛ لقد كنت للمحارب صدراً، وفي المواكب بدراً، وللمواهب بحراً، وعلى العباد والبلاد ظلاً ظليلاً وستراً؛ لقد فرعت أعلام عزك الثنايا، وأجزلت همتك لملوك الأرض الهدايا.
كأنك لم تعرض الجنود، ولم تنشر البنود، ولم تبسط العدل المحدود، ولم توجد الجود، ولم تزين الركع السجود، فتوسدت الثرى، وأطلت الكرى، وشربت الكأس التي يشربها الورى، وأصبحت ضارع الخد، كليل الحد، سالكاً سنن الأب والجد، لم تجد بعد انصرام أجلك، إلا صالح عملك، ولا اصطحبت لقبرك، إلا رابح تجرك، وما أسلفت من رضاك وصبرك، فنسأل الله تعالى أن يؤنس اغترابك، ويجود بسحاب الرحمة ترابك، وينفعك بصدق اليقين، ويجعلك من الأئمة المتقين، ويعلي درجتك في عليين، ويجعلك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
ثم جاشت قريحته بقصيدة قال فيها:
يا حسنها من أربُع وديار ... أضحت لباغي الأمن دار قرار
وجبال عز لا تذل أنوفها ... إلاّ لعز الواحد القهار
ومقر توحيد وأس خلافة ... آثارها تُنبي عن الأخبار
لمّا توعدها على المجد العدا ... رضيت بعيث النار لا بالعار
ثم قال يمدح هنتانة التي منعت المنصور وحمته:
أزرت وجوهُ الصيد من هنتاتة ... في جوها بمطالع الأقمار
لله أي قبيلة تركت لها الن ... ظراء دعوى الفخر يوم فخار
نصرت أمير المؤمنين وملكه ... قد أسلمته عزائم الأنصار
وارت عليا عندما ذهب الردى ... و الروع بالأسماع والأبصار
وتخاذل الجيش اللهام وأصبح ال ... أبطال بين تقاعد وفرار
كفرت صنائعه فيمم دارها ... مستظهرا منها بعز جوار
فكأنها الأنصار لمّا آنست ... فيما تقادم غربة المختار
لمّا دعاه الله بين بيوتهم ... فأجاب ممتثلا لأمر الباري
لو كان يُمنع من قضاء الله ما ... خلصت إليه نوافذ الأقدار
قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما ... أولوه لولا قاطع الأعمار
ثم قال يخاطب ابنه ويطالبه بإكرام هنتانة:
حق على المولى ابنه إيثار ما ... بذلوه من نصر ومن إيثار
فلمثلها ذخر الجزاء ومثله ... من لا يضيع صنائع الأحرار
ولما مات المنصور المريني سنة 752 استتب الأمر لابنه أبي عنان، فبدأ بإخضاع أعداء المرينيين التقليديين، بني عبد الواد، وكانوا أمراء زناتة بتلمسان، فقاتلوه فظفر بهم ودخل تلمسان، وانتظم له أمر المغرب الأوسط، ثم توجه لسواحل المغرب العربي وانتزع قسنطينة وتونس من أيدي الحفصيين سنة 758، ولقي حتفه مخنوقاً على يد وزيره القوي الماكر الحسن بن عمر الفودودي سنة 759، الذي قتل ولي العهد أبا زيان محمداً المريني، وأقام بعده أخاه الطفل أبا بكر وهو في الخامسة ولقّبه بالسعيد، وكان لأبي عنان أخ هو أبو سالم إبراهيم بن علي بن عثمان في غرناطة منذ وفاة والده المنصور، فخرج منها وطلب العون من الإفرنج، واستولى على أصيلة وطنجة، ثم دخل فاس وأصبح في سنة 759 ملكاً على المغرب دون منازع، وقتل الوزير الحسن بن عمر الفودودي في سنة 761، ثم اختل أمره في سنة 763، وخالف عليه وزيره عمر بن عبد الله الفودودي وأكثرُ عسكره، فذهب على وجهه فقتل بظاهر البلد.
وكان الوزير عمر بن عبد الله الفودودي قد استبد بدولة آل مرين، يعزل ملكا ويولي آخر، محتفظا لنفسه بالسلطة المطلقة، فخلع السلطان أبا سالم المريني، وجاء بأخ له اسمه تاشفين، كان قد أسره الإفرنج في أيام أبيه المنصور في وقعة طريف فاختل عقله، فأطلقوه، وصار يدعى بتاشفين الموسوس، فألبسه شارة الملك وأجبر أهل فاس على البيعة له، فبايعوه سنة 763، واضطرب أمره فقاتله كبار بني مرين، فخلعه الوزير بعد ثلاثة أشهر من بيعته، وأتى بابن أخيه أبي زيان محمد بن يعقوب بن على بن عثمان، وكان شاباً في الرابعة والعشرين، خاف على نفسه فهرب إلى كبير الإفرنج في الأندلس، فكتب الوزير إلى الطاغية بالأندلس، يطلب أبا زيان، فسمح به بعد شروط اشتط بها، ووصل إلى المغرب، فتلقاه الوزير عمر وبايعه وبوأه أريكة الملك بفاس ، ولقبه بالمتوكل على الله، وسرعان ما ضاق المتوكل بالوزير المستبد، وفكر في الفتك به، وأسر ذلك إلى بعض خاصته، وعلم الوزير بما نواه له السلطان، فدخل عليه سنة 767 وهو في وسط حشمه وخدمه، فطردهم عنه، ثم غطه حتى فاظ، وأمر به فألقي في بئر، وأشاع أنه سقط عن دابته وهو سكران، وكانت دولته قرابة 5 أعوام.
ولقي الوزير المستبد حتفه بعد قليل، فقد أتى بأبي فارس المريني، وهو فتى له من العمر 17 عاماً، فبايعه بالملك، ولم يلبث أبو فارس أن كره استبداد الوزير به وبإدارة ملكه، فأعد للخلاص منه جماعة من الخصيان في زوايا داره، وأحضره وأشار إليهم فقتلوه، وصفا له الملك، إلى أن مات سنة 774.
أسس الدولة المرينية في المغرب الأقصى السلطان أبو محمد المريني، عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة بن محمد المريني، المولود سنة 542 والمتوفى سنة 614، وبنو مرين من بربر المغرب، من قبيلة زناتة، كانت إقامتهم غربي الصحراء الكبرى، يتنقلون في تلك الصحاري لا يدخلون تحت حكم سلطان ولا يؤدون ضريبة، شغلهم الصيد والاغارة على أطراف البلاد، وانتقل بهم عبد الحق إلى المغرب الاقصى سنة 610، منتجعا غزارة المياه وخصب الارض، ثم قاتلهم الموحدون أصحاب مراكش وفاس، فظفر المرينيون سنة 613، وجرت عدة معارك بينهم ظفر فيها بنو مرين ولكنهم أصيبوا بمقتل أميرهم عبد الحق فدفنوه بظاهر قرية تافرطاست قرب مكناسة، وكان هذا أول ظهورهم بمظهر القوة والاجتماع.
وتلاه ابنه عثمان وهو في العشرين من العمر، فنهض بالمرينيين ونظمهم، وتمت له طاعة قبائل المغرب وبواديه من وادي ملوية إلى رباط الفتح، حتى اغتاله علج له كان رباه صغيرا، طعنه بحربة في منحره،فمات في سنة 638.
وانتهت دولة بني مرين سنة 869 في أيام عبد الحق بن عثمان بن أحمد، أبو محمد المريني، الذي تولى سنة 823، وأساء التصرف مع وزرائه واختيارهم، وكلهم من عشيرة الوِطاسيين، ثم نكل بهم سنة 866، واستوزر من بعدهم يهوديَين، اعتز بهما يهود فاس وتحكموا في الأشراف والفقهاء، وضرب أحدهما مرة امرأة فاستغاثت، فثار الناس وأعملوا القتل في اليهود، ونادوا بخلع السلطان وولوا عليهم الشريف أبا عبد الله الحفيد، وكان السلطان غائبا عن المدينة، فأجبره من معه على العودة إليها، فانتزعوا منه خاتم الملك وأركبوه بغلا وطافوا به، وأمر الحفيد بضرب عنقه، فقتل، وبمهلكه انقرضت دولة بني مرين في المغرب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين