حدث في التاسع عشر من ذي القعدة

في التاسع من ذي القعدة من سنة 322 توفي في بلخ، عن 87 سنة، أبو زيد البلخي، أحمد بن سهل، أحد الكبار الأفذاذ من علماء الإسلام، جمع بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون، وصنف المؤلفات الكثيرة في مواضيع متعددة، ولكن غلب الأدب عليه حتى سمي بجاحظ خراسان.

ولد أبو زيد سنة 235 في قرية تدعى شامِستيان وهي إحدى قرى بلخ، وبلخ بلدة في شمالي شرق أفغانستان قرب مزار شريف خرج منها عدد كبير من العلماء والمحدثين والأدباء، يقال أخرجت بلخ أربعة من الأفراد: أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسهل بن الحسن في الشعر الفارسي، ومحمد بن موسى الحدادي في العربية والشعر العربي. ولهذه المكانة قام أحد تلامذته الذين أخذوا عنه وترددوا إليه، وهو أبو محمد الحسن بن محمد الوزيري بتأليف كتاب في أخبار أبي زيد البلخي، اطلع عليه ياقوت الحموي رحمه الله ونقل عنه أغلب ترجمته في معجم الأدباء.

وكان والد أبي زيد قد هاجر إلى بلخ من سجستان في جنوبي غربي أفغانستان، وعمل فيها مدرساً للصبيان، وطلب أبو زيد العلم في حداثته، ولا تسعفنا المصادر كثيراً حول نشأته وشيوخه في بلخ، ولكننا نعرف أنه كان فقيراً في حداثته، وأنه بعد تحصيله الأوليِّ في بلخ سافر إلى بغداد في طلب العلم، ولضيق ذات يده سافر راجلاً مع قافلة الحج، وأقام أبو زيد في العراق ثماني سنين سافر خلالها إلى البلدان المتاخمة، ولقي كبار العلماء، وتتلمذ في الفلسفة وما قاربها من علوم على فيلسوف العرب والإسلام في عصره يعقوب بن إسحاق الكندي، المتوفى حوالي سنة 260، وحصل من عنده علوماً جمة، وتعمق في علوم الفلسفة والفلك والطب وعلم الطبائع وهو قريب مما نسميه علم النفس والطب النفسي. 

ولما انتهى أبو زيد من تعلمه بالعراق، وبرز في العلوم وبلغ فيها رتبة عالية، رجع إلى بلده بلخ عن طريق هَراة، واستقر ببلخ وانتشر بين علمائها وأهلها علمه وفضله، وفي سنة 279 ولى الخليفة المعتضد على إمارة ما وراء النهر الأمير إسماعيل بن أحمد بن أسد الساماني، المولود بفرغانة سنة 234 والمتوفى ببخارى سنة 295، وكان أميراً فاضلاً متواضعاً يحب العلماء ويكرمهم، له اشتغال بالعلم والحديث، فأراد أن يستعين بأبي زيد البلخي لما هو معروف عنه من علم وتواضع، فأرسل يستدعيه إلى بخارى، فلما بلغ أبو زيد نهر جيحون ورأى تغطمط أمواجه وجرية مائه وسعة قطره كتب إليه: إن كنتَ استدعيتني لما بلغك من صائب رأيي، فإني إن عبرت هذا النهر فلست بذي رأي، ورأيي يمنعني من عبوره! فلما قرأ كتابه عجب منه وأمره بالرجوع إلى بلخ.

وفي نحو سنة 300 ظهر في المنطقة الأمير أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد، والذي كان أحد قادة الدولة السامانية ثم تمرد عليها وبسط نفوذه على مرو وما جاورها، ثم جاء إلى بلخ واستولى على تخومها، فأراد أن يستوزر أبا زيد، فأبى إيثاراً لسلامة الدنيا والآخرة، فاتخذه الأمير كاتباً، واستوزر أبا القاسم البلخي الكعبي، عبد الله بن أحمد الكعبي المعتزلي، المولود سنة 273 والمتوفى سنة 319، والذي كان من متكلمي المعتزلة في بغداد، واشتهرت بها كتبه قبل أن يعود إلى بلخ فيقيم بها إلى حين وفاته، وعظُمَ محلُهما عند الأمير، وكان رزق أبي القاسم في الشهر ألف درهم، ولأبي زيد خمسمئة درهم، وكان أبو القاسم يأمر الخازن بزيادة مئة درهم لأبي زيد من رزقه ونقصان مئة درهم من رزق نفسه، فكان يصل إلى أبي زيد ستمئة درهم وإلى أبي القاسم تسعمئة درهم، وكان يأخذ لنفسه الدراهم المكسرة، ويأمر لأبي زيد بالوضح الصحاح، وبقوا على هذه الحال إلى أن دارت الدوائر على أحمد بن سهل فمات في السجن سنة 307، ولم يمتع بالملك فترة طويلة.

وحكي أن أبا زيد لما دخل أول مرة على أحمد بن سهل، سأله عن اسمه، فقال: أبو زيد. فعجب أحمد بن سهل من ذلك، حيث سأله عن اسمه فأجاب عن كنيته، وعدَّ ذلك من سقطاته، فلما خرج أبو زيد ترك خاتمه في مجلسه عنده، فأبصره أحمد بن سهل، فازداد تعجباً من غفلته، فأخذه بيده ونظر في نقش فصه، فإذا عليه أحمد بن سهل، فعلم حينئذ أنه إنما أجاب عن كنيته للموافقة الواقعة بين اسمه واسمه، وأنه أخذ بحسن الأدب، واختار أن يُظَنَّ به الخطأ على أن يخرق التقاليد القاضية أن يبقى اسم الأمير بعيداً عن الاستعمال والابتذال.

ومن تلطف أبي زيد في تصحيح الأخطاء أن الأمير أحمد بن سهل التقى به في طريق، وقد أجهده السير، فقال له: عييتَ أيها الشيخ؟ فقال أبو زيد: نعم، أُعييتُ أيها الأمير. فنبهه أنه لحن في قوله "عييت" إذ العِيُّ في الكلام، والإعياء في المشي. 

وكان الأمير أحمد بن سهل يقرِّب أبا زيد البلخي ويكرمه، جاء أحمد بن سهل إلى بلخ مرة، وجلس ليلة من الليالي وعنده وزيره أبو القاسم الكعبي وأبو زيد البلخي، وفي يد الأمير عقد لآليء نفيسة ثمينة، تتلألأ كاسمها، ويتوهج نورها، وكان حُمِلَ إليه من بعض بلاد الهند حين افتتحت، فأفرد الأمير منها عشرة لآليء وناولها أبا القاسم، وعشرة أخر وناولها أبا زيد، وقال: هذه اللآلئ في غاية النفاسة، فأحببت أن أشرككما فيها، ولا أستبد بها دونكما. فشكرا له ذلك، ثم إن أبا القاسم وضع لآلئه بين يدي أبي زيد، وقال: إن أبا زيد، وهو من هو، مهتم بشأنهن، فأردت أن أصرف ما بَرَّني به الأمير إليه، لينتظم في عقده. فقال الأمير: نِعماَّ فعلت. ورمى بالعشرة الباقية إلى أبي زيد وقال: خذها فلست في الفتوة بأقل حظاً ولا أوكس سهماً من أبي القاسم، ولا تُغبنَّن عنها، فإنها ابتيعت من الفئ بثلاثين ألف درهم. فاجتمعت الثلاثون عند أبي زيد برمتها، وباعها بمال جليل.

ولأن النفس جُبلت على حب الوطن، لم ينس أبو زيد قريته شامستيان، وبقي يميل إليها ويحبها، ونزعه إليها حب المولد ومسقط الرأس والحنين إلى الوطن الأول، ولذلك لما حسنت حاله بما أكرمه الأمير وصاحبه، دعته نفسه إلى شراء ضيعة تدر عليه دخلاً يغنيه ويترفه به، ويتركه من بعده للأولاد والأعقاب، فاختار أن يشتريها في شامستيان، قال ياقوت الحموي المتوفى سنة 626: وقد كانت تلك الضياع بعد باقية، إلى قريب من هذا الزمان، في أيدي أحفاده وأقاربه، بها وبالقصبة ثم إنهم كما أقدر قد فنوا وانقرضوا، في اختلاف هذه الحوادث ببلخ وغيرها من سائر البلدان، فلا أحسب أنه بقي منهم نافخ ضرم، ولا عين تطرف، لا تُحِسُ منهم من أحد ولا تسمع منهم ركزاً.

ومر أبو زيد البلخي في دراسته التي جمعت بين الفلسفة وبين أصول الدين بمرحلة من الحيرة والشك، وكان لما قصد العراق يميل إلى المذهب الإمامي ثم عاد إلى طريقة أهل السنة، ولعله بسبب ذلك وبسبب تأليفه في الفلسفة شاعت عنه تهمة الإلحاد، وهي تهمة تنفيها عنه مؤلفاته وشهادات معاصريه وبلديِّيه، وكيف يكون ملحداً أو شاكاً وقد قال رحمه الله: العقل آلةٌ أُعطيناها لإقامة العبودية لا لإدراك الرّبوبية، فمن طلب بآلة العبودية حقيقة الرّبوبية فاتته العبودية ولم يحظ بالرّبوبية. ومن أقواله كذلك: الشريعة الفلسفة الكبرى، ولا يكون الرجل متفلسفاً حتى يكون متعبداً مواظباً على أداء أوامر الشرع.

وأرجح أن أبا زيد البلخي كان معتزلياً وإن كانت كتب التراجم لا تشير إلى ذلك صراحة، وذلك نظراً لمنحاه الفكري الفلسفي، ولما جرى ذكر أبي زيد واتُهِمَ بالإلحاد في مجلس كان فيه المعتزلي الكبير الوزير أبو القاسم البلخي، عبد الله بن أحمد الكعبي المعتزلي، المولود سنة 273 والمتوفى سنة 319، قال أبو القاسم: هذا رجل مظلوم، وإنما هو موحد، وأنا أعرف به من غيري، وقد نشأنا معاً، وقرأنا المنطق وما ألحدنا بحمد الله.

ونقل ياقوت عن أبي محمد الوزيري قصة جرت لأبي زيد مع بعض معاصريه، ولم أعثر على ترجمة لهم، تبين ميله إلى الشيعة في البداية رواها أبو الحسن الحديثي، قال: كان أبو بكر البكري فاضلاً خليعاً لا يبالي ما قال، وكان يُحتَمل عنه لسِنِّه، أذكر إذ كنا عنده وقد قدمت المائدة وأبو زيد يصلي، وكان حسن الصلاة، فضجر البكري من طول صلاته، فالتفت إلى رجل من أهل العلم، يقال له أبو محمد الخُجندي فقال: يا أبا محمد، ريحُ الإمامة بعدُ في رأس أبي زيد! فخفف أبو زيد الصلاة، وهما يضحكان، قال أبو الحسن: فلم أدر ما ذلك! حتى سألت لا أدري الخجندي أو أبا بكر الدمشقي فقال أحدهما: اعلم أن أبا زيد في أول أمره كان خرج في طلب الإمام إلى العراق، إذ كان قد تقلد مذهب الإمامية، فعيره البكري بذلك.

وجرى مرة ذكر أبي زيد البلخي رحمه الله في مجلس الإمام أبي بكر أحمد بن محمد بن العباس البزار، وهو الإمام ببلخ، والمفتي بها، فأثنى عليه خيراً، وقال: إنه كان قويم المذهب، حسن الاعتقاد، لم يعرف بشيء في ديانته مما يُنسب إليه مَن نُسب إلى علم الفلسفة. وأثنى عليه كل من كان حاضراً من الفضلاء والأماثل، ونسبوه إلى الاستقامة والاستواء، وأنه لم يُعثر له مع ما له من المصنفات الجمة، على كلمة تدل على قدح في عقيدته.

وقال تلميذُه أبو محمد الحسن الوزيري: وكان أبو زيد البلخي أيضاً يتحرج عن تفضيل الصحابة بعضهم على بعض، وكذلك عن مفاخرة العرب والعجم، ويقول ليس في هذه المناظرات الثلاث ما يجدي طائلاً، ولا يتضمن حاصلاً، لأن الله تعالى يقول في سورة الزمر في معنى القرآن: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾، وأما الصحابة وتفضيل بعضهم على بعض، فقوله عليه السلام: أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم. وكذلك العربي والشعوبي، فإنه سبحانه يقول سورة الحج: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾، ويقول في سورة الحجرات ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

ووصف أبو محمد الحسن الوزيري شيخه أبا زيد البلخي في عدة مناسبات هذا مجموعها، قال: كان أبو زيد رَبعة نحيفاً مِصفَّاراً، أسمر اللون جاحظ العينين، فيهما تأخر، ومثَّل بوجهه آثار جدري، صموتاً سِّكيتاً، ذا وقار وهيبة، ضابطاً لنفسه مع حسن استبصار، متثبتاً، نزِرَ الشِّعر، قليل البديهة، واسع الكلام في الرسائل والتأليفات، قويم اللسان، جميل البيان، إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلئ المنثورة، وكان قليل المناظرة، يتنزه عما يقال في القرآن، إلا الظاهر المستفيض من التفسير والتأويل، والمشكل من الأقاويل، وحسبك ما ألفه من كتاب نظم القرآن، الذي لا يفوقه في هذا الباب تأليف.

ولا شك أن أبا زيد، مثله مثل كثير من العلماء المحققين غزيري الإنتاج، لم يكن ليضيع وقته في الخصومات والجدل، ولكنه إلى جانب ذلك كان ممن يحب الآجلة ويرغب فيها، أورد له السمعاني في الأنساب في نسبة الحمّال: قال أبو زيد البلخي: يقال: شرُّ الناس الحمالون لأنهم يحملون أحمال الحمر والدواب. قال أبو زيد وأنا أقول: شرٌّ منهم الذي يحمل أحمال الغير ويجعل لنفسه الخصوم، وهو عاجز عن حمل بطن نفسه، قال الله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾، فهذا وعيد من الله تعالى للظلمة وأعوانهم.

كان أبو زيد من العلماء الذين وهبهم الله غزارة في التأليف، فألف أكثر من 70 كتاباً في مواضيع متعددة، أورد هنا عناوين ما أورده منها ابن النديم في الفهرست وقد رتبتها حسب مواضيعها:

القرآن الكريم والعلوم الشرعية

كتاب نَظْمُ القرآن، قال أبو حيان التوحيدي في كتابه البصائر والذخائر، قال القاضي أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر المروروذي، المتوفى سنة 362، الإمام الشافعي ومفتي البصرة: أما أنا فلم أر في القرآن كتاباً أبعد مرمىً، ولا أشرف معاني من كتابٍ لأبي زيد البلخي، وكان فاضلاً يذهب في رأي الفلاسفة، ولكنّه تكلّم في القرآن بكلامٍ دقيق لطيف، وأخرج سرائر ودقائق وسمّاه نظم القرآن، ولم يأت على جميع المعاني المطلوبة منه.

كتاب قوارع القرآن، كتاب أسماء الله وصفاته، كتاب عصمة الأنبياء، كتاب ما عُلِّق عنه في غريب القرآن، كتاب في أن سورة الحمد تنوب عن جميع القرآن، كتاب تفسير الفاتحة والحروف المقطعة في أوائل السور، كتاب شرائع الأديان، كتاب الإبانة عن علل الديانة في بيان وجوه الحكمة في الأوامر والنواهي الشرعية، كتاب الرد على عبدة الأوثان، كتاب فضيلة مكة على سائر البقاع، كتاب كمال الدين، كتاب القرابين والذبائح، كتاب البحث عن التأويلات، كبير. 

وقد تسبب تأليف الكتابين الأخيرين في قطع بعض الصلات المالية عن أبي زيد البلخي، فقد قال: كان الحسين بن علي المروَرَوذي وأخوه وأنا صعلوك يجريان عليَّ صلات معلومة دائمة، فلما صنفت كتابي في البحث عن التأويلات قطعاها عني، وكان لأبي علي محمد بن أحمد الجيهاني، وزير نصر بن أحمد الساماني ببخارى المتوفى سنة 330، صلات جارية يُدرُّها عليّ، فلما أمليت كتاب القرابين والذبائح حرمنيها، وكان الحسين قُرمطياً، وكان الجيهاني ثنوياً.

الأدب واللغة والنحو

كتاب فضل صناعة الكتابة، كتاب صناعة الشعر، كتاب الأسماء والكنى والألقاب، كتاب أسماء الأشياء، كتاب مُنية الكتاب، رسالة في مدح الوراقة، كتاب رسول الكتب، كتاب الفتاك والنساك، كتاب المختصر في اللغة، كتاب صولجان الكتبة، كتاب اختيارات السِّير، كتاب فضيلة علم الأخبار، كتاب فضائل بلخ، كتاب المصادر، كتاب الوصية، كتاب نثاراتٍ على كلامه، كتاب القرود، كتاب النحو والتصريف، ولابن درستويه، عبد الله بن جعفر بن درستويه، المتوفى سنة 347، ردٌّ على هذا الكتاب، ولأبي زيد البلخي رسالة كتبها إلى أبي بكر بن المستنير عاتباً ومنتصفاً في ذمه المعلمين والوراقين، وأورد شيئاً منها شيخ اللغة والأدب أبو منصور الثعالبي، عبد الملك بن محمد، المولود في نيسابور سنة 350 والمتوفى سنة 429، في كتابه تحسين القبيح وتقبيح الحسن، تحت عنوان تحسين المتعلم والتعليم، قال:

أحسن وأجمع ما سمعت وقرأت فيه كلام لأبي زيد البلخي، من رسالة كتبها، وقد عُيِّرَ بأنه معلم، وقيل له إن المعلم ساقط مذموم قبيح الاسم، فقال: ليس يستغني أحد عن التعلم والتعليم، لأن الحاجة يضطر إليها في جميع الديانات والآداب والصناعات والمذاهب والمكاسب، فما يستغني كاتب ولا حاسب ولا صانع ولا بائع عن أن يتعلم صناعة ممن هو أعلم منه، ويعلِّمَه من هو أجهل منه، وقوام الخلق بالتعلم والتعليم، فالمعلم أفضل من المتعلم، لأن صفة المعلم دالة على التمام والإفادة، والمتعلم صفته دالة على النقصان والاستفادة، وحسبك جهلاً من رجل يعمد إلى فعل قد وصف الله سبحانه نفسه به، ثم رسوله عليه السلام، فيذمه، أليس قد قال الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، وقال في سورة الكهف: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾، وقال في سورة آل عمران في وصف نبيه عيسى عليه السلام: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾.

السياسة

كتاب السياسة الكبير، كتاب السياسة الصغير، كتاب صفات الأمم، كتاب فضل الملك، كتاب أخلاق الأمم، كتاب أدب السلطان والرعية.

العلوم الطبيعية والفلسفة والطب

كتاب أقسام العلوم، كتاب رسالة حدود الفلسفة، كتاب ما يصح من أحكام النجوم ، كتاب فضيلة علوم الرياضات، كتاب في أقسام علوم الفلسفة، كتاب تفسير صورٍ كتاب السماء والعالم لأبي جعفر الخازن، كتاب كتبه إلى أبي بكر بن المظفر في شرح ما قيل في حدود الفلسفة، كتاب مصالح الأبدان والأنفس ويعرف بالمقالتين، وهو كتاب في الأمراض النفسية وعلاجها الذي يسميه الطب الروحاني، وقد حققه الدكتوران مالك البدري ومصطفى عشوي، كتاب الصورة والمصوَّر، وينسب الأستاذ الزركلي في الأعلام إلى أبي زيد البلخي سبقه علماء البلدان في الإسلام كافة إلى استعمال رسم الأرض في كتابه صور الأقاليم.

كتب متفرقة

كتاب أجوبة أبي القاسم الكعبي، كتاب النوادر في فنون شتى، كتاب أجوبة أهل فارس، كتاب أجوبة أبي علي بن أبي بكر بن المظفر المعروف بابن محتاج، كتاب أجوبة أبي إسحاق المؤدب، كتاب أجوبة أبي الفضل السكري، كتاب الشطرنج، كتاب جواب رسالة أبي علي بن المنير الزيادي. وينسب لأبي زيد كتاب البدء والتاريخ، وقد تبين على التحقيق أنه لمطهر بن طاهر المقدسي.

وقد وقعت كتب أبي زيد من العلماء والأدباء كل موقع، قال أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس، المولود سنة 310 والمتوفى سنة 414: أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يُظنُّ أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر، ومن تصفح كلامه في كتاب أقسام العلوم، وفي كتاب أخلاق الأمم، وفي كتاب نظم القرآن، وفي كتاب اختيار السير، وفي رسائله إلى إخوانه، وجوابه عما يُسأل عنه، ويبده به، علم أنه بحر البحور، وأنه عالم العلماء، وما رئي في الناس من جمع بين الحكمة والشريعة سواه، وإن القول فيه لكثير.

ونورد هنا ما نقله أبو حيان التوحيدي في كتابه البصائر والذخائر من كتاب السياسة لأبي زيد، ليتبين لنا الفكر المنطقي الذي تمتع به أبو زيد واتجاهه الريادي لتقعيد القواعد وإنشاء النماذج، قال: قال أبو زيد البلخي في كتاب السياسة: إن السياسة صناعة، ثم هي من أجل الصناعات قدراً وأعلاها خطراً، إذ كانت صناعة بها تتهيأ عمارة البلاد، وحماية من فيها من العباد.

وكل صانع من الناس فليس يستغني في إظهار مصنوعه عن خمسة أشياء تكون عللا لها: أحدها مادة له آلة ومادة يعمل بها؛ والثاني صورة ينحو بفعله نحوها؛ والثالث حركة يستعين بها في توحيد تلك الصورة بالمادة؛ والرابع غرض ينصبه في وهمه من أجله يفعل ما يفعل؛ والخامس آلة يستعملها في تحريك المادة.

ومثال ذلك من صناعة البناء أن المادة التي يعمل منها البناء هي التراب والطين والحجارة والخشب، والصورة التي ينحوها بوهمه صورة البيت، والفاعل هو البنَّاء، والغرض الذي من أجله يفعل سكنى البيت وإحراز ما يحرز فيه، والآلة التي بها يعمل هي آلات البناء.

ومثال ذلك من صناعة الطب أن المادة التي يعمل بها الطبيب إنما هي أجساد الناس المحتملة الصحة والسقم، والصورة التي ينحوها الطبيب بوهمه إنما هي الصحة، والفاعل هو الطبيب المعالج، والغرض الذي بسببه يفعل الطبيب إنما هو بقاء جسم المعالج المدة التي تتهيأ له أن يبقاها، والشيء الذي يتخذه الطبيب آلة في المعالجة وإفادة الصحة هو كالفصد وسقي الأدوية.

فإذا نقل هذا المثال إلى صناعة السياسة قلنا: إن المادة فيها أمورُ الرعية التي يتولى الملك القيام بها، والصورةَ فيها إنما هي المصلحة التي ينحو نحوها وهي نظير الصحة، والفاعل هو عناية الملك بما يباشره من أمور الرعية، وغرضه فيما يفعله هو بقاء المصلحة ودوامها، والشيء الذي يقوم له مقام الآلة في صناعته إنما هو الترغيب والترهيب. وفعل السائس الذي هو نظير المعالجة من الطبيب ينقسم بكليته إلى قسمين: التعهد والاستصلاح؛ أما التعهد فحفظ أمور الرعية على استقامة وانتظام من الهدوء والسكون حتى لا يزول عن الصورة الفاضلة؛ وأما الاستصلاح فردُّ ما عارضه منها الفساد والاختلال إلى الصلاح والالتئام. 

ومن أعظم كتب الجغرافيا كتاب أبي زيد الذي أسماه صور الأقاليم، ويذكر الأستاذ طه محمد الساكت في مقالة له في مجلة الرسالة أنه رأى مخطوطة منه في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت في المدينة المنورة، نسخت سنة 309 وهي من خزانة العباسيين، ولكن الأستاذ الساكت ينسب الكتاب لابن سهل البلخي.

واستفاد كثيراً من كتاب أبي زيد من جاء بعده من الجغرافيين المسلمين، وأولهم الإصطَخْري، إبراهيم بن محمد المتوفى سنة 346، الذي ألف كتابه صور الأقاليم علي اسم كتاب أبي زيد، فقد استفاد منه كذلك، وتميز عنه بمشاهداته وملاحظاته في الرحلات التي قام بها من الأطلسي إلى أواسط الهند، وبقي كتاب البلخي مرجعاً ينقل عنه ياقوت في معجم البلدان، ويقول عندما يذكره: الكتاب المتنازع بين أبي زيد البلخي وبين أبي إسحاق الإصطخري. وينقل كذلك ابن العديم في بغية الطلب عن كتاب أبي زيد البلخي، مما يعني أنه بقي مرجعاً إلى القرن السابع بعد وفاة مؤلفه بأكثر من ثلاثمئة سنة.

وقد طبع كتاب الإصطخري المستشرق مولر Muller سنة 1839 بخرائطه الملونة التسع عشرة، وتناوله الأستاذ أحمد موسى كبير المفتشين بمصلحة المساحة المصرية، الباحث في تاريخ الفنون، فقال في مقالة له في مجلة الرسالة عن الكتب العربية المزينة بالرسوم: 

وكان كتاب صور الأقاليم أقدم الكتب المخطوطة في هذا الموضوع حسب ما عثرنا عليه، ورأينا أن نبدأ بتعريف إحدى صوره وهي صورة العراق في زمانه، والتي قصد بها أن تكون خريطة لتلك البلاد، وقد جعل البلخي للأنهار صورة تشبه الخطوط الغليظة المهشرة رمزاً للماء، وأحاط المدن والمعالم بدائرة تحدد القطر المقصود بالوصف، ورسم نهر دجلة وسطه فقسم البلاد إلى قسمين، وأظهر مصبه في الخليج الفارسي عند شط العرب، ورمز للمدائن بمربعات ومتوازيات أضلاع ودوائر ذات مساحات مختلفة تناسبت على ما يظهر مع قيمتها المدنية، ولا يضيره أنه جعل الخريطة بأكملها منحرفة نحو خمس وأربعين درجة عن الأفق. ومن المدن الواضحة على الخريطة بغداد والبصرة كما يتضح من النظر إليها

واستفاد من كتاب أبي زيد الرحالة المقدسي، محمد بن أحمد، المولود سنة 336 والمتوفى نحو 380، ويقول عنه في مقدمة كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم يقول: وأما أبو زيد البلخي فإنه قصد بكتابه الأمثلة وصورة الأرض بعد ما قسمها على عشرين جزءاً، ثم شرح كل مثال واختصر ولم يذكر الأسباب المفيدة ولا أوضح الأمور النافعة التفصيل والترتيب، وترك كثيراً من أمهات المدن فلم يذكرها، وما دوخ البلدان ولا وطئ الأعمال ألا ترى إن صاحب خراسان استدعاه فلما بلغ جيحون كتب إليه إن رأيي يمنعني من عبور هذا النهر. فلما قرأ كتابه أمره بالخروج إلى بلخ.

ونرى المقدسي على انتقاده لأبي زيد يشير إليه فيما بعد عند الحديث عن إلحاق الكور والنواحي بما يناسبها من البلدان، فيقول: وإنما غرضنا في ذكر هذه المقالات وإيضاحها لئلا يظن الناظر في كتابنا أنها غابت عنا، مع أن أبا زيد البلخي قد ذكر في كتابه فصلاً يغني أولي البصائرعن الاحتجاج في هذا الباب أراد به تصحيح ما صور لا وضع الكور، لأن أحداً لم يتقدمنا إلى تفصيل كور الأقاليم وهو أنه قال: ليس في جمع هذه الأطراف بعضها إلى بعض ولا في تفريقها كبير درك غير الإبانة عما في أعراضها من المدن والأنهار وسهولة العبارة في التفصيل والصور. ولعمري قد صدق ليس فيه أبطال حق ولا إثبات.

ولأبي زيد البلخي نظم قليل وكان ينشد:

لكل امرئ ضيفٌ يُسر بقربه ... ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف

تناءت بنا دار الحبيب اقترابها ... فلم يبق إلا رؤية الطيف للطيف

ولأبي زيد البلخي أقوال تجري مجرى الحكم والعظات، منها قوله: لا بد من الموت فلا تخف، وإن كنت تخاف مما بعد الموت، فأصلح شأنك قبل موتك وخف سيئاتك لا موتك.

وأما خبر وفاته، فأورد ياقوت أن أحد أصحابه قال: دخلت على أبي زيد رحمه الله فوجدته ثقيلاً من علته، في طارمة، والطارمة بيتٌ كالقبة من خَشَب، فسلمت فردَّ سلاماً ضعيفاً، ثم قال: يا أبا بكر قد انقطع السبب، وما هو إلا فراق الإخوان. ودمعت عينه، وبكيت أنا، وقلت: أرجو أن يشفِّع الله الشيخ فينا وفي عترتنا بعافيته. فقال: هيهات! وقرأ هذه الآيات من آخر سورة الشعراء: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾، ثم قال: لا تغب عني وكن بالقرب.

فلما كان عند العتمة قال: انصرفوا حتى أدعوكم. وقال لابنه الحسين: إذا طلع القمر ونزل في الدار فأعلمني. فلما طلع القمر أعلمه، فصاح بهم فجاءوا، وقال أطلع القمر؟ فقالوا: نعم. قال: اجمعوا كل من في المنزل. فاجتمعوا عليه، فسأل كل واحد منهم عن حاله وعن كسوته وعن آلة الشتاء، ثم قال: بقي شيء لم أصلحه لكم؟ قالوا: لا. فاستحلفهم ثم قال: عليكم السلام، هذا آخر اجتماعي معكم. ثم جعل يتشهد ويستغفر، ثم قال: قوموا فقد جاءت نوبة غيركم. فخرجوا من باب الطارمة، وهم يسمعون تشهده، ثم سكت فرجعوا وقد قضى نحبه، رحمه الله.

وما أجدرنا بالحسرة من ياقوت الحموي إذ قال بعد أن أورد القصة: وهذا العقل والتمييز صار كما قال أبو تمام:

ثم انقضت تلك السنون وأهلُها ... فكأنها وكأنهم أحلام

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 12/7/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين