حدَّثني شخص موثوق

د. محمود نديم نحاس

في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب بـ (ق والقرآن المجيد). فما هي أسرار هذه السورة العظيمة التي جعلها مادة لخطبته؟
 
جاء في أحد التفاسير: (إنها سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد، إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملاً شاملا. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبداً، ولا تغفل من أمره دقيقاً ولا جليلا، ولا تفارقه كثيراً ولا قليلا. كل نَفَس معدود، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة، في كل وقت وفي كل حال. تُعرَض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة، وتهز النفس هزا، وترجها رجا، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب!).
 
نقرأ في هذه السورة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). فإذا كان المهندس الذي يصنع آلة يصبح خبيراً بتركيبها وأسرارها، وهو في الحقيقة لم يخلقها، وإنما قام بتشكيلها وتنضيدها، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، فهو يعلم سره وجهره؟
 
إن الإنسان مكشوف لخالقه لا يحجبه ستر (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، ويكفي له أن يعلم هذا حتى يرتعش فلا يجرؤ على كلمة، بل لا يجرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول، لأنه في حذر دائم، وخشية مستمرة، ويقظة لا تغفل عن يوم الحساب. ولقد أخبرنا الله بهذا لنحسب حسابنا ونكون على حذر، ولم يخبرنا بها لننفق الجهد عبثاً في معرفة كيفيتها، فنحن اليوم نستخدم وسائل للتسجيل لم تخطر على بالنا قبل خمس سنوات. إنها تسجل لنا، وتسجل علينا، الصوتَ والصورةَ، الهمساتِ والملامح، فهل نعجب إن كان علينا رقيب وعتيد يسجلان كل حركاتنا؟
 
ما دفعني إلى التذكير بهذا هو ما ينتشر الآن من إشاعات في القنوات الفضائية وفي الإنترنت بكل ساحاتها، في الفيسبوك وفي تويتر، في المجموعات البريدية والمنتديات، في البريد الإلكتروني والمدونات...
 
كانت الإشاعات في الماضي تأخذ وقتاً حتى تنتشر، أما في فضاءات القنوات والإنترنت فإنها تصل أقصى العالم خلال دقائق. يكفي أن يقصد الإنسان تشويه سمعة أحد حتى يكتب عنه شيئاً يذمه فيه، فيتلقف ذلك الآخرون، وينشرونه على أنه حقائق، بل ويزيد أحدهم أنه أخذه من ثقة!
 
ولقد سئل شخص يعمل في إعلام إحدى الدول: لماذا تنشرون الإشاعات؟ فقال: ليس المهم أن يصدّق الناس ما نقول، إنما يكفينا أن تختلط عليهم الأمور، فلا يعرفون الخبر الصحيح من السقيم. وقد قال قائلهم: عندما ترمي بالطين على الجدار، فإن لم يعلق فإنه يترك أثراً.
 
فهل نتصرف تصرف الحمقى ونأخذ كل ما يُنشر في فضاءات الإنترنت أو في القنوات الفضائية على أنه حقائق أم نسأل عن السند؟
 
لا يكفي أن يحدثك شخص موثوق، بل عليك أن تسأله ممن سمعه، وهل من سمعه منه رآه بعينه أم نقله عن غيره، وإلا فلا تأخذ كلامه ولا تنقله لغيرك. فنحن أمة الإسناد، ولدينا علم فريد في نقل الأحاديث، ألا وهو علم الجرح والتعديل، الذي ليس له مثيل عند غيرنا من الأمم. فبهذا العلم نحكم على صحة الحديث من معرفة سنده.
 
فمن نقل إليك خبراً فليكن عندك الشجاعة أن تسأله عن مصدره، ولا مانع من أن تذكّره بالآيات سالفة الذكر وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم).
 المصدر : جريدة الاقتصادية السعودية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين