حتى لا يتمرد العقل

كلنا يعلم أن غذاء الأبدان الطعام والشراب ، وغذاء العقل المعرفة والبيان ، فلا الطبيب يصير طبيا دون مشوار علمي طويل وجهد مضن شاق، ولا العالم كذلك ، فالله عز وجل وزع العلوم بين البشر وتقاسموها فيما بينهم ليحدث التوازن في هذه الحياة ، ولا يمكن لأحد جمع العلوم والمعارف ، فيداوي وليس طبيا ، ويفتي وليس عالما ، ويبني وليس مهندسا ، فهذا محال.

الذي يحصل مع الزمن أن العقل والفكر يتمردان عل السنن الكونية وعلى الفطرة البشرية ، ويصيب العقل والفكر نوع من أنواع التمرد ، وينشأ في المجتمعات شذوذ فكري يؤدي في النهاية إلى ضعف المجتمعات وتفككها وهبوطها.
هذه التمرد أسبابه متعددة وهي كثيرة ، وأهمها: 

1- هوى النفس و الشيطان ، فاتباعهما خطر شديد على الإنسان وحياته ، وذكر الإمام البويصري تحذيره من هذا الأمر فقال:

وخالف النفس والشيطان واعصهما *** وإن هما محضاك النصح فاتهم

2- عدم الرجوع إلى أهل الاختصاص ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون) ، وأهل الذكر هم أهل الاختصاص في أمور الحياة ، فكما يذهب للإنسان للطبيب المختص ليعطيه العلاج الناجع ، فكذلك يجب عليه في كل شؤون الحياة.

3- الكبر والاستعلاء و الأنا المتضخمة في النفس ، وهذا ما أودى بإبليس إلى اللعنة و الطرد عندما قال: ( أنا خير منه ) ، فالتواضع والإقرار بالضعف والجهل ، وإنزال الناس منازلها واحترام مكانتها وقول لا أعلم ، هو صفات العقل الرشيد.

يحاول من يريدون إحداث التمرد الفكري والعقلي لدى الإنسان زراعة وتغذية هذه العوامل حتى تختلط الأمور ويهتز الفكر والوجدان وتحدث الطامة في المجتمعات، وأهم الوسائل المتبعة لإحداث ذلك أمرين:

1- التشكيك في رموز المجتمع وعلمائه ومخلصيه ( السابقين واللاحقين) و وأد القدوات حتى لا تبقى قدوة يستنار بها ، وتسقط كل القدوات والرموز، بل ويتطاول عليها بالأقلام والكلام كي تهوي وتسقط في النفوس

2- تلميع وإبراز شخصيات أخرى بديلة لتصير هي القدوة التي يجب اتباعها ، وتصبح هذه الشخصيات هي مضرب المثل للاتباع لأنها ستحقق التمرد الفكري لدى أبناء المجتمع.

نحن في زمن اشتدت فيه الفتن ، ويتربص بنا من حولنا لزعزة الثقة فيما بيننا، وإفساد القلوب ونشر الفساد والنميمة والغيبة والتنظيرالسلبي ، وكلها مؤدية للقطيعة وسوء الظن حتى يوصلوا المجتمع إلى الشنآن والبغض بدل التآلف والحب.

العاقل من عاد ليحترم ويجل الكبار والعلماء و الأدباء و المفكرين ويضعهم في مكانتهم الحقيقة ( ولو أخطأوا أحيانا فهم بشر وليسوا منزهين عن الخطأ) ،،، العاقل من يبادل الآخرين الحب والعطف والحنان ، فلاتوجد حضارة رسمت معالم الحب الحقيقي في العلاقات الاجتماعية بين الناس كحضارتنا عندما نطق رسولها الكريم بمنهاج : " لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ،،، العاقل من يحفظ نفسه و لسانه وقلمه ويراقب كل كلمة يقولها أو يكتبها ، فلا يقول إلا خيرا ولا يكتب إلا خيرا، يكتب ما يؤدي للبناء لا للهدم ،،، الكيس كما ورد في الحديث الشريف: من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

أرفع بكل تواضع وانكسار لكل علمائنا و مفكرينا و أدبائنا و أساتذتنا الكرام وكل الكبار وأصحاب الفضل في مجتمعنا أسمى كلمات التبجيل والتقدير والاحترام ، مع تقبيل أياديهم المباركة وجباههم النيرة ، وأسأل الله أن يطيل بأعماركم ويزيد الأمة النفع بكم ، وستبقون القدوة و المنارة التي يستنار بها في الظلمات. 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين