حتى لا يتشظى الوعي!

بسام ناصر

حينما يتورط العقل العربي في تبرير ما لا يسوغ تبريره، تحت ذرائع وعناوين عديدة، فإن ذلك يعني رفع الأشخاص وتقديمهم على قدسية المبادئ، والأصل أن تبقى المبادئ هي المعايير الحاكمة لسلوك الأفراد مهما علا شأنهم، وازدانت فضائلهم ومكارمهم، فالانحراف عن منظومة قيم معينة، ومبادئ محددة، لا يعدو أن يكون خروجا ـ بنسب متفاوتة ـ عن تعاليم تلك القيم والمبادئ، وحتى لا يكون الانحراف شاذا وغريبا، فإن المؤسسة الأيديولوجية القائمة في كنفه، تجهد جهدها لتقديم تبريرات تسوغ ذلك الانحراف، وتجعله في عيون الناس مألوفا مقبولا.
 
في خضم الثورات العربية، والاحتجاجات الشعبية القائمة في عالمنا العربي، فإن ثمة مفارقات تستدعي التوقف والنظر المتأني، فمن المعلوم أن تلك الثورات ما قامت إلا للمطالبة بالحرية والكرامة والحقوق المشروعة والعيش الكريم، وهي مطالب تلتقي عليها جميع الثورات والاحتجاجات الشعبية، وحري بمن قام يطالب بحقوقه أن يقدم له جميع الأحرار كل الدعم والتأييد والمؤازرة.
 
الثورة التي تجتاح المدن السورية حاليا، بمشاهدها وصورها الدامية، وما قابلها به النظام السوري، من قتل وقمع وترويع وإذلال للشعب السوري، لم تلق في أوساط معينة ذلك الاستحسان والاستبشار والتأييد، التي لقيته غيرها من الثورات العربية الأخرى، كالثورة التونسية والمصرية، وكانت الذرائع والعناوين المتداولة، أن سورية ليست كغيرها من البلاد العربية الأخرى، فهي عاصمة المقاومة والممانعة، وهي الداعم والحامي للمشروع القومي المقاوم، لذا فإنها مستهدفة بشكل رئيسي من قبل الدولة الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية.
 
وهناك من يزيد فيقول أن هناك مؤامرة خارجية، تريد زعزعة الأمن والاستقرار السوري، وتوسيع الشقة بين الشعب السوري ونظامه، ليتسنى لأصحاب الأجندات المشبوهة والمسمومة، تنفيذ أجنداتهم، وهناك من يريد من الشعب السوري أن ينظر بعين الرضا لوعود الرئيس السوري وقراراته المتتابعة، الرامية إلى إحداث الإصلاح والتغيير، ويطالب الشعب بقبولها والتفاعل معها، وإعطاء الرئيس الوقت الكافي لتنفيذ توجهاته ورؤاه الإصلاحية، كل ذلك لتفويت الفرصة على المتربصين من الأعداء الخارجيين.
 
ثمة من كان يتمنى عدم هبوب رياح الثورات العربية، على سورية حتى لا يتزعزع أمنها واستقرارها، وتبقى كما هي حامية وحاضنة لمشروع المقاومة والممانعة، وسندا كبير لحركات المقاومة، كحزب الله اللبناني، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بصرف النظر عن سياسة النظام الداخلية القمعية، وطريقة تعاطيه مع شعبه، وما يمارسه من ظلم وقهر وفقر.
 
للنظام السوري وجهان متناقضان، فهو في سياسته الخارجية، ومواقفه القومية، يشكل موقفا داعما لمشاريع المقاومة والممانعة، فهو الذي سهل ودعم تسليح حزب الله، وهو الذي احتضن قيادة حماس في الخارج، ووفر لها الحماية والرعاية، وهذه مواقف تحمد له، إلا أنه في الشأن الداخلي، نظام قمعي بامتياز، وقبضته الأمنية ضاربة وخانقة، وحزبه الحاكم يسيطر على مقاليد الأمور سيطرة تامة، الأمر الذي ضيق الخناق بصورة قاسية على الشعب السوري، وجعله يتوجع كثيرا نتيجة تلك السياسات الظالمة والجائرة.
 
حجم الكبت والبطش والقمع في سورية كبير جدا، والشعب هناك يتوق لنيل حريته وكرامته، وشعاره الأكبر والأظهر في مسيراته ومظاهراته هو "الحرية"، النظام السوري لا يحتمل رؤية مشهد المظاهرات والمسيرات في شوارع المدن السورية، ولا يقابلها إلا بالرصاص الحي، والقتل الدموي، واقتحام البيوت عنوة، الجمعة الماضية كانت دامية وقاسية، الرئيس يصدر القرارات بعدم إطلاق النار على المسيرات والمتظاهرين، وبعد أقل من ساعة يكون القتل في الشوارع والساحات.
 
الآلة الإعلامية السورية، تتفنن بغباء في فبركة الأخبار والوقائع، وتبتدع القصص البائسة والخائبة لتشويه الاحتجاجات الشعبية العارمة، تسمع أحدهم يتحدث بكلام متهافت، يعلم هو قبل غيره أنه يقول الكذب، ويروج الباطل، ويتهم مواطنيه زورا وبهتانا، هذا نظام تشكل بعقلية البطش والتنكيل وقمع المواطنين، ولا يمكنه أن يحتمل أي مشهد من مشاهد الاحتجاج أو الاعتراض الشعبي، يريد من شعبه أن يكون قطيعا من الغنم يسوقه كما يشاء.
 
الرئيس صدام حسين، كان يتبنى مشروعا قوميا، وكان سدا منيعا في وجه مشاريع تصدير الثورة الإيرانية، إلا أنه كان مستبدا ظالما في سياساته الداخلية، لذا فإن الشعب حينما أزفت ساعة سقوط نظامه، تركه يلاقي مصيره وحيدا، دون أن يقف معه، أو يدافع عنه، أليس الشعب أولى بمكارم رئيسه من بطولات خارجية موهومة؟.
 
الوعي الصحيح يتبدى في موقف الدكتور يوسف القرضاوي -رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- فقد كان له موقف واضح، لا لبس فيه، فهو وإن كان داعما ومؤيدا للدور السوري في مشروع المقاومة والممانعة، إلا أنه كان مؤيدا للثورة الشعبية السورية، ومهاجما للآلة القمعية الأمنية الدموية، ومسفها للمؤسسة الدينية والأيديولوجية المتورطة في الدفاع عن سياسات الجور والظلم والقمع والبطش، وبمثل ذلك الموقف المتوازن يصان الوعي عن التشظي والانشطار.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين