حتى لا تقع الكارثة في الغوطة

هذه مقالة كرهت كتابتها وتمنيت لو لم أفعل، فأنا أكره القصة التي أرويها فيها ولا أحب أن أتذكّرها وأحاول أن أتناساها ما استطعت. كرهت كتابتها ولكني كتبتها لأنني خشيت أن تتكرر المأساة، فرجوتُ أن أنقذ بها آلافاً من الأبرياء من مصير كارثي لو أدركتهم قبل فوات الأوان.

وأنا أعلم أن الناس يعيشون في الغوطة يوماً كيوم الحشر، حماهم الله، فلن تجد هذه المقالةُ طريقَها إليهم ولن يستفيدوا مما فيها من عبرة وتحذير، فأرجو ممن تصله وله أقرباء في الغوطة وأصدقاء أن يوصلها إليهم. أقسمت بالله على من يستطيع توصيلها إلى أهلنا في الغوطة المنكوبة المحاصَرة أن يفعل، لعلنا ننقذ بها أرواحاً بريئة من الموت والعذاب بأمر الله.

* * *

يظن أكثر السوريين أن أكبر مجازر الثورة هي مجزرة الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية في الحادي والعشرين من آب 2013، وليس الأمر كذلك، فقد تفوّقت عليها مجزرةٌ بشعةٌ فظيعة وقعت بعدَها بأربعة أشهر وأسبوعين على بعد عدة كيلومترات إلى الغرب، على المعبر الفاصل بين يلدا وحجيرة. وفيما بلغ عدد ضحايا هجوم الغوطة الكيماوي 1729 ضحية حسب إحصاءات ثوار الغوطة (أو ما يتراوح بين 1200-1500 ضحية وفق تقديرات غربية محايدة) فإن عدد ضحايا مجزرة "معبر علي الوحش" قد يزيدون على ألفين، استطاع السجل المدني في يلدا توثيق 655 منهم بالأسماء فيما لا يزال نحو 1500 في عداد المفقودين. وليست الأرقام فقط هي التي تعبّر عن حجم المأساة، بل طريقة القتل وما رافقها من انتهاكات تقشعر منها الأبدان.

ما الذي حصل في ذلك اليوم الكئيب؟

لنَعُدْ قليلاً إلى الوراء. في أواخر عام 2012 كان الجنوب الدمشقي كله محرراً، ويضم أحياء وبلدات التضامن والعسالي والقدم والجورة وحجيرة ويلدا وببيلا وبيت سحم وعقربا والذيابية والحسينية والبويضة وغزال والسبينة ومخيم اليرموك والحجر الأسود. في النصف الثاني من عام 2013 نجحت قوات النظام والمليشيات الشيعية في استرجاع بلدات الذيابية والحسينية والبويضة وغزال والسبينة وأغلقت كل الطرق والمعابر التي تصل المنطقة بالعالم الخارجي، وبذلك أُحكِم الحصار على "الجنوب الدمشقي المحرر"، وهو أقسى حصار عانت منه أي منطقة في الثورة السورية على الإطلاق.

استمر الحصار الخانق لأشهر طويلة وضاقت بالناس سُبُلُ الحياة، وبلغ بهم الجوع أن أكلوا لحوم القطط والكلاب وأكلوا حشيش الأرض، ومات جوعاً أكثرُ من مئة وخمسين من الكبار والصغار والرجال والنساء، رحمهم الله. ثم لاح قبسٌ من أمل عندما أشاع النظام -في بداية العام الجديد- خبر فتح حاجز بين يلدا وحجيرة في شارع علي الوحش للسماح للمدنيين بالخروج إلى دمشق، فبدأت الحشود تتجمع بالقرب من المنطقة. مساء الجمعة أعلن أبو جعفر (شقيق أبي صياح فرامة، أمير داعش التي كانت تسيطر على الجهة الأخرى من المعبر) أن النظام وافق على خروج العائلات يوم الأحد، فباتت مئات العائلات في الشارع في ذلك البرد القارس بانتظار الفرج الموهوم.

صباح يوم الأحد 5/1/2014 اندفع عدة آلاف من أهل المنطقة منذ الصباح الباكر باتجاه المعبر، وقد استُقبلت الدفعة الأولى من الواصلين استقبالاً حسناً، بل إن عناصر الحاجز وزعوا عليهم الخبز، فتحمس الباقون (الذين كانوا مترددين وخائفين) واندفعوا وراءهم إلى المصيدة. في نحو العاشرة صباحاً كان آلاف الأشخاص قد تجمعوا أمام المعبر، وعندها أطلق عناصر الحاجز الرصاص الحي فوق الرؤوس فسادت حالة من الذعر، ثم بدؤوا بإهانة المحتشدين وسبّهم ومصادرة كل ما يحملونه من هويات ووثائق ونقود وأجهزة اتصال، ثم راحوا يفصلون النساء والأطفال عن الرجال ويقودونهم إلى الباصات. في تلك اللحظة صرخت إحدى النساء: "ارجعوا، إنهم يعتقلون الشباب"، فاعتقلها أحد العناصر واعتُقلت معها ابنتها الصغيرة.

بعد ساعتين اختفى جنود النظام من الحاجز وحلّ محلهم عناصر من الشرطة العسكرية ومن مليشيات حزب الله وأبي الفضل العباس، وعندها بدأت حفلة تعذيب وإذلال لم يَنْجُ منها أحد، فقد نُقل الأطفال والنساء والمسنّون إلى مسجد السيدة فاطمة القريب من الحاجز حيث تعرضوا للضرب بالكابلات وعُذبوا بقسوة "ثأراً للحسين" كما ردّد المجرمون، ثم فُصلت الحوامل عن بقية النساء فعُذِّبنَ تعذيباً أشد وتعرّضنَ للدعس في البطون.

أما الرجال فقد تعرضوا لتعذيب وحشي وتصفيات ميدانية، وقد ورد في شهادة لإحدى الناجيات أن عناصر المليشيات عذبوا شاباً كان بصحبة أمه وقطعوا رجليه أمامها قبل أن يقتلوه، وكان واحداً من مئات قُتلوا يومها بدم بارد، حيث قدّر ناشطون من حجيرة أن مجرمي النظام والمليشيات أعدموا ميدانياً ما يقرب من مئتين وخمسين رجلاً، ثم جمعوا الجثث ورموها في مكب للنفايات وأضرموا فيها النار، وبقيت عشراتُ الجثث مبعثرةً في الحقول الممتدة بين سبينة والحجر الأسود لرجال قُتلوا وهم يحاولون الفرار من الموت.

استمرت المحنة طول النهار، وكانت الأخبار قد انقطعت بين الحاجز والبلدات المجاورة، فلم يعرف أحدٌ حقيقةَ ما حصل إلا في وقت متأخر من الليل، عندما رجعت النساء والأطفال، وكانت كثيراتٌ منهنّ في حالة فظيعة بسبب ما تعرضنَ له من تعذيب واعتداءات وانتهاكات.

ولم تكن تلك هي نهايةَ المأساة، بل لعلها كانت البدايةَ فحسب، فقد كان الذين قُتلوا على الحاجز أقل بكثير من الذين أُسِروا ثم نُقلوا إلى مراكز الاعتقال حيث تعرضوا للتعذيب المستمر والموت البطيء.

استطعت الحصول على شهادة لأحد الناجين، وهو فلسطيني من مخيم اليرموك أُفرِج عنه بعد الحادثة بستة أشهر. روى أن الرجال والشبان الذين أوقفوا على الحاجز في ذلك اليوم نُقلوا بحافلات صغيرة إلى موقعين، الأول هو نجها، وهي قلعة "أمن الدولة" في الجنوب الدمشقي وتضم واحدة من كُبرى المقابر الجماعية لضحايا التعذيب في سوريا. الموقع الثاني هو مدرسة المخابرات العسكرية في ميسلون، قرب الزبداني، وقد كان هو ضمن هذه المجموعة من المعتقلين الذين قَدّر عددَهم بما يتراوح بين سبعمئة معتقل وثمانمئة، مما يوحي بأن العدد الإجمالي للمعتقلين اقترب من ألف وخمسمئة رجل.

وقد وردت في شهادته معلومتان خطيرتان، الأولى أن المعتقَلين كانوا في غالبيتهم العظمى مدنيين محايدين لا علاقة لهم بالعمل الثوري ولا بالسلاح والفصائل، بل إن فيهم عدداً من الموالين الذين استغلهم حراسُ السجن لاحقاً لقمع بقية المعتقلين. المعلومة الثانية: تعرض كل المعتقلين للتعذيب والتجويع وفتكت بهم الأمراض داخل المعتقَل، وعندما خرج الرجل بعد ستة أشهر من الاعتقال كان الذين بقوا أحياء فيه نحو سبعين لا غير، أي أن عشرة أشخاص قُتلوا بالتعذيب أو ماتوا جوعاً ومرضاً مقابل كل واحد بقي في قيد الحياة.

* * *

هذه هي خلاصة مجزرة معبر علي الوحش التي قصّر إعلام الثورة في تسليط الضوء عليها وكشفها للعالَم، وهي -فيما أحسب- أكبر وأفظع مجازر الثورة على الإطلاق.

لماذا عرضتها بهذا التفصيل؟ لأنني أخشى من تكرارها في الغوطة في ظل الفوضى والاضطراب والهلع الذي يمكن أن يستولي على قلوب الناس فيعطل قدرتهم على التفكير المتزن، وقد يشجعهم على الخروج إلى مناطق النظام بلا رقابة ورعاية أممية ودون اتفاقات مسبقة تمنحهم الحد الأدنى من الأمان. إن مثل هذا الخروج العشوائي مغامرة خطيرة جداً قد تكون عواقبها أسوأ من أسوأ ما يمكن أن يتعرض له الناس لو بقوا في مناطق الحصار والنار والدمار، وهذا أهم درس نتعلمه من مأساة معبر يلدا التي قرأتم تفصيلاتها في السطور السابقة.

زعمت وكالة إنترفاكس الروسية أن عشرين ألفاً من مدنيي الغوطة غادروها إلى مناطق النظام خلال الأسبوع الأخير، فما هو مصيرهم يا ترى؟ لقد بدأت الصور التسجيلات التي تصف اعتقالات وانتهاكات على المعابر بالتسرب إلى الإعلام، وأخشى أن يكون ما وقع على الأرض أكثر من ذلك بكثير لا سمح الله، فقد وردت أخبار (أسأل الله أن لا تكون صحيحة) عن اعتقال جماعات من المدنيين الذين خرجوا من حمورية وسقبا وتعرضهم للتعذيب والقتل والاغتصاب. حتى خَوَنة كفربطنا من عناصر المصالحة (الذين اشتهروا باسم مجموعة العميل ضفدع) قيل إن قوات الأسد اعتقلتهم لدى خروجهم قبل يومين، لا ردّهم الله.

* * *

قبل يومين تحدثت في مخابرة طويلة مع شاب من أهل الغوطة، من أصدق من خابرني في الشهر الأخير لهجةً وأرقّهم قلباً وأحرصهم على الناس، ليس له طلب إلا أن يعرف هو وأهله وأصحابه: ماذا يصنعون؟ جوابي ورجائي ونصيحتي له ولأهل الغوطة جميعاً هي: التشبث بالأرض وعدم الخروج إلى مناطق النظام إلا في ظل اتفاق شامل آمن، ولا يمكن الوصول إلى مثل هذا الاتفاق إلا بالصمود.

إن الصمود وإفشال الحل العسكري هو خيار الغوطة الوحيد، لأن هذه الحملة المجنونة لا يمكن أن تستمر لوقت طويل لاعتبارات داخلية وخارجية، فهي تستنزف القوات المهاجمة وتُراكِم خسائرَها حتى تصل إلى مرحلة تعجز فيها عن الاستمرار، ثم إن التوتر والضغط الدولي سوف يتصاعد بمرور الوقت مع انتشار أخبار المجزرة في الإعلام العالمي، وهو أمر لا بد أن يتسبب في ضغط شعبي على الحكومات الغربية والمنظمات الأممية.

إذا طالت المعركة واستمر الصمود وفشل العدو في إسقاط الغوطة بالقوة العسكرية سينتقل إلى التفاوض، وفي هذه الحالة ستكون الغوطة في وضع تفاوضي ذي أفضلية نسبية، وهذه الأفضلية -على ضآلتها- ستوفر فرصة لفرض حل أقلّ خطراً وكارثيةً من سقوط المنطقة عسكرياً أو الاستسلام غير المشروط للعدو لا قدّر الله.

أسأل الله أن يحمي الغوطة وأهلها من كل شر وضرّ، وأن يُبدلهم بالعسر يسراً وبالضيق فرجاً، ويُخرجهم من الخوف والبلاء إلى الأمن والعافية قريباً غير بعيد، إنه على كل شيء قدير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين