حب الله تعالى بعض عباده

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) رواه مسلم (2965).

 

وردت كلمة (يحب) في الحديث بصيغة المضارع، وفي ماضيه لغتان: حَبه من غير همز، وأحبه، والمضارع يحبه، ومعنى ذلك: أن الله تعالى محب أو ذو محبة.

ومحبته تعالى للعبد عبارة عن إرادة الفعل النافع للعبد في الدارين: من إكرامه واستعماله في طاعته، وصونه عن معصيته، وتوفيقه، وهدايته، وتهيئة أسباب القرب له.

وأما محبة العبد لله تعالى فهي عبارة عن إرادة طاعته، والرغبة فيما يقربه إليه.

وقد ورد في كثير من آي القرآن والأحاديث الصحيحة ما يدل على أنَّ الله تعالى يحب من عبيده العمل الصالح، وأنه سيجازيهم عنه أحسن الجزاء: يقول الله تعالى:[أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {السجدة:19}. ويقول: [وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:134}.

والتُّقى، والغنى، والخفاء، وإن كان كلٌّ منها من عنده تعالى، إلا أنَّ تلك الصفات لما كانت ناشئة عن جهد العبد وسعيه، جعلت أفعالاً له، وأسباباً للمحبة الإلهية.

والعبد: اسم لمملوك من جنس العقلاء، والمعهود هنا الإنسان ولو أنثى، فإنَّ الناس عبيد لله سبحانه.

والتقيُّ: هو البليغ في التقوى حتى صارت له ملَكَة كالرحيم والعليم، فيكون التقي أبلغ من المتقي، والمعنى: أن الله يحب من أصرَّ على التقوى ورسخ فيها فصارت التقوى له ملكة راسخة.

وأصل التقوى في اللغة: الاتقاء. والاتقاء: أن يجعل الشيء حاجزاً بينه وبين ما يكرهه، فكأنَّ التقيَّ يجعل الإتيان بما أمر به والانتهاء عما نُهي عنه حاجزاً بينه وبين العذاب، وفي عُرف الشرع: هو التوقي عما يضر النفس في الآخرة.

وللتقوى ثلاث مراتب:

الأولى: تقوى عامة المؤمنين، وهي التقوى عن العذاب المخلِّد بالتبري عن الشرك، فهي عبارة عن الإيمان والتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم.

والثانية: تقوى الخواص، وهي التجنُّب عن كل ما يؤثِّم من فعل أو ترك، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، ولا يتم هذا إلا بالإخلاص عن الشرك والريَّاء والنفاق، قال الله تعالى:[وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] {البيِّنة:5}. أي: ممحضين له الدين والطاعة من الشِّرك والرياء والسمعة.

والثالثة: تقوى أخص الخواص، وهي: التَّنزُّه عما يشغل سرَّ العبد عن الحق، والتبتُّل إليه بالاشتغال بذكر ذي الجلال على وجه الجمال، والتضرع إليه، والحضور والمراقبة، بحيث يرى أنه ليس في الوجود إلا الله سبحانه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطل) [البخاري "6489" ومسلم "2256"] وإنما كانت تلك الكلمة أصدق كلمة قالها الشاعر لدلالتها على ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ] {القصص:88}. وهذه الدرجة لا يصل إليها إلا الكمَّل من عباده.

والغنيُّ: ضد الفقير، والمراد به هنا: أنَّ الله سبحانه يحب العبد المستغني عن الخلق، لأن الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس، وقد ورد في الآثار الصحيحة: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غِنى النفس) [رواه مسلم(1051)] فغنى النفس عبارة عن القناعة، وعن الرضا بالقسمة، والاكتفاء بقدر الضرورة، ففي الحديث: (ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس) [أخرجه أحمد( 8095) الترمذي (2305) ، وأَبو يعلى (6240)].

وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر والذلة، لما يترتب على ذلك من الجزع بقلة الصبر، وعدم الرضا بالقضاء، أو الفاقة والحاجة إلى الخلق، وليس المراد بالرضا والاستغناء هو عدم العمل والأخذ في أسباب الحياة، فالعمل مطلوب، والسعي على الرزق مطلوب كذلك، إنما في حدود الشرع، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس، فالعبد يعمل ويسعى ويتوكل على الله في تسديده وتوفيقه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب من أصحابه العمل، ويكره لهم البطالة.

جاء في كتاب (الاكتساب في الرزق المستطاب) لمحمد بن الحسن الشيباني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ (شخص آخر غير سيد الأوس) فإذا يداه قد مَجِلتا – صلبت وثخن جلدها وظهر فيها ما يشبه البثر - فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أضرب بالمرِّ والمسحاة في نخيلي لأنفق على عيالي، فقبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: (كفَّان يحبهما الله تعالى) وفي رواية: وقال: (هذه يد لا تمسها النار) والمَرُّ هو المسحاة، وقيل: مقبضها، والمسحاة: المجرفة من الحديد. [قال الشوكاني في " الفوائد المجموعة" : رَوَاه الخطيبُ عن أنسٍ مرفوعًا. وقال: هذا الحديث باطل].

وقد يكون المراد بحبِّ الغنى بالمال: إذا كان الغني شاكراً له بما يليق بلطفه وكرمه، ويعطي الجزيل من ماله، إذ لا يتوصل إلى ثواب الله في الآخرة بالجد والغنى، وإنما يتوصل إليه بالشكر له، وإنما خصَّ الله الغني بالذكر لكثرة منافعه بإنفاقه المال في سبيل الله وفي سبيل الخير، وفي الغني الذي ينفق في سبيل الله من النفع ما ليس في الفقير، وقد يشمل الغني الغنى بقوَّته وعمله في الصناعات بما يفيد المسلمين قوة، فهو غنيٌّ بنفعه وعمله.

فالغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، وقد يكون الفقر أسلم، لأن الغنى كثيراً ما يجر إلى الطغيان والعصيان.

وأما (الخفي) بالخاء المعجمة، وهي الرواية المشهورة الصحيحة فهو من الخفاء والانفراد عن الناس، فهي كلمة جامعة يعبر بها عن العزلة وعدم الظهور، فهو يعمل لوجه الله تعالى، فإذا أنفق ففي سبيل الله من غير إعلان ولا جلبة ولا ضوضاء كما يفعله الناس اليوم.

وقد فضل كثير من الصوفية الخفاء بمعنى العزلة عن الناس والاستغراق في طاعة الله تعالى، ولكن هذا التفسير ليس بلازم، لأن العبد إذا عمل وجاهد نفسه مع المغريات خير ممَّن انقطع عن الناس، فإن المنقطع نفعه يعود على نفسه فقط، أما العامل المجاهد بين قومه وذويه فهو يفيد بعلمه وعمله.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل ويحث أصحابه على العمل، وما ورد في الحث على الاعتزال هو الاعتزال وقت الفتنة، فسلامة الرجل في الفتنة أن يلزم داره، إلا أن يكون له قوة على إزالتها، فيلزمه السعي في إزالتها عيناً أو كفاية، ويرى الإمام الشافعي والإمام أحمد اختيار الخلطة مع الناس، خصوصاً إذا كان له علم بالحلال والحرام، و مخالطته للناس أولى ليعلمهم وينصحهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم، ويبصِّرهم بالطريق المستقيم، لأن هذا العمل هو وظيفة الرسل والعلماء من بعدهم، وفقنا الله والمسلمين لما فيه رضاه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد 4، السنة 9، 1374هـ، 1955م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين