حب الأوطان مركوز في طبائع النفوس

 

 

ذكر الله تعالى الدّيار فأخبر عن موقعها من قلوب عباده، فقال: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ" فسوّى بين موقع قتل أنفسهم وخروج أرواحهم من أبدانهم وبين الخروج من ديارهم. وقال: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا". فسوّى بين موقع الخروج من ديارهم وبين موقع هلاك أبنائهم".

 

ومن حبِّ الناس للوطن، وقناعتهم بالعطن، أنّ إبراهيم لمّا أتى بهاجر أُمِّ إسماعيل مكّة فأسكنها، وليس بمكّة أنيسٌ ولا ماء، ظمئ إسماعيل فدعا إبراهيم ربَّه فقال: " ربِّ إنِّي أسْكنْتُ منْ ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عنْد بيْتِكَ المُحرَّم "، أجاب الله دعاءه إذ رضى به وطناً، وبعث جبريل عليه السلام فركض موضع زمزم برجله، فنبع منه زمزم.

 

ومرّ بإسماعيل وأمِّه فرقةٌ من جُرهم، فقالوا: أتأْذنون لنا أن ننزل معكم؟ فقالت هاجر: نعمْ ولا حقَّ لكم في الماء، فصار إسماعيل وولده قُطَّان مكة، لدعوة إبراهيم عليهما السلام. نعم، وهي مع جدوبتها خير بقاع الأرض، إذ صارت حرماً، ولإسماعيل وولده مسكناً، وللأنبياء منسكاً ومجمعاً على غابر الدَّهر.

 

ومن أصدق الشواهد في حبِّ الوطن أن يوسف عليه السلام، لمّا أدركته الوفاة أوصى أن تُحمل رمّته إلى موضع مقابر أبيه وجدِّه يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام. ومنع أهل مصر أولياء يوسف من حمله، فلمَّا بعث الله موسى عليه السلام وأهلك على يديه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمَّته إلى تربة يعقوب بالشَّام، وقبره علمٌ بأرض بيت المقدس بقرية تسمَّى حسامي. وكذلك يعقوب، مات بمصر فحُملت رمّته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. وممَّن تمسَّك من بني إسرائيل عليه السلام بحبِّ الأوطان خاصَّةً، ولد هارون، وآل داود؛ لم يمت منهم ميِّت في أيِّ البُلدان مات، إلاَّ نبشوا قبره بعد حول، وحملت رمَّته إلى موضع يدعى الحصاصة بالشَّام فيودعُ هناك حولاً، فإذا حال الحول نُقلت إلى بيت المقدس.

 

والإسكندر الرُّومي رغم جولانه  في البلدان لما أشفى أوصى إلى حكمائه ووزرائه أن تحمل رمَّته في تابوتٍ من ذهبٍ إلى بلده؛ حبّاً للوطن.

 

وفى الصحيح أن وَرَقَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُكَذّبَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، ثُمّ قَالَ وَلَتُؤْذَيَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، ثُمّ قَالَ وَلَتُخْرَجَنّهْ فَقَالَ: "أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ؟ " فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبّ الْوَطَنِ وَشِدّةِ مُفَارَقَتِهِ عَلَى النّفْسِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ حَرَمُ اللهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ وَبَلْدَةُ أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ فَلِذَلِكَ تَحَرّكَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَحَرّكْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ "أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ؟

 

ولما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النّفُوسُ مِنْ حُبّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إلَيْهِ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُصَيْلٍ الْغِفَارِيّ - الْهُدَلِيّ - أَنّهُ لما قَدِمَ المدينة مِنْ مَكّةَ، فَسَأَلْته عَائِشَةُ كَيْفَ تَرَكْت مَكّةَ يَا أُصَيْلُ؟ فَقَالَ تَرَكْتهَا حِينَ ابْيَضّتْ أَبَاطِحُهَا، وَأَحْجَن ثُمَامُهَا، وَأَغْدَقَ إذْخِرَهَا، وَأَمْشَرَ سَلَمُهَا، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ " لَا تُشَوّفْنَا يَا أُصَيْلُ "، وَيُرْوَى أَنّهُ قَالَ لَهُ " دَعْ الْقُلُوبَ تَقَرْ "

 

وقال إبراهيم بن أدهم: ما عالجت شيئاً أشدّ من منازعة النفس للوطن. وقال عبد الملك بن قريب الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحببه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه

 

وسمع أبو دلف رجلا ينشد:

 

ألقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... ناسا بناس وإخوانا بإخوان

 

فقال: هذا ألأم بيت قالته العرب، لقلة حنينه إلى ألّافه. فقد قيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة وإلى مولدها تواقة ، وَفِطْرَةُ الرَّجُلِ مَعْجُونَةٌ بِحُبِّ الْوَطَنِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِبِلَ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا، وَالطَّيْرُ إِلَى أَوْكَارِهَا.وكلما كان المرء أطيب عنصراً وأنفس جوهراً كان أشد حنيناً إلى وطنه، ونزاعاً إلى تربته

 

وقيل لأعرابي: كيف تصبرون؟ على جفاء البادية وضيق العيش؟ فقال: لولا أن الله تعالى أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع العباد، هكذا حبها وإن قست وضاق العيش بها

 

إذا ما أصبنا كل يومٍ مذيقةً ... وخمس تميراتٍ صغارٍ كوانز

 

فنحن ملوك الناس خصباً ونعمة ... ونحن أسود الناس عند الهزاهز

 

وكم متمنٍّ عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حقّ فائز

 

وقيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان. قيل: فما الذّلّة؟ قال: التنقُّل في البلدان، والتنحِّي عن الأوطان.

 

وقالت امرأة لزوجها: والله ما يقيم الفأر في دارك إلا حبّ الوطن.

 

قالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، إذ كان غذاؤك منهما وغذاؤهما منه.

 

قالت الفرس: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة كما تغرس الولادة في القلب رقة.

 

العرب تقول: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك.

 

فحب الوطن مَعْلُوم عِنْد الملأ ، ومتعارف عليه بَين الفضلاء وَله يَقُول ابْن الرُّومِي شعرًا ...

 

وَمَا الشوق للأوطان من أجل طيبها ... وَلَا شرف فِيهَا وَفضل مقَام

 

وَلكنه فِي النَّفس طبع لأَجله ... يُجَادِل فِي تفضيلها ويحامي

 

وَمن ثمَّ يهوى الطِّفْل فِي النَّفس أمه ... ويأبى سواهَا وَهِي ذَات وشام

 

وَمن غربَة يبكي الْجَنِين إِذا بدا ... وَقد كَانَ فِي ضيق وفرط ظلام

 

ومن قديم الدَّهر لا تؤثر الملوك على أوطانها شيئاً. مهما ارتحلوا  ولم يفتقدوا في اغترابهم نعمة، ولا غادروا في أسفارهم شهوة، حنُّوا إلى أوطانهم، ولم يؤثروا على تُربهم ومساقط رءوسهم شيئاً من الأقاليم المستفادة بالغزو والمدن المغتصبة من ملوك الأمم. كما قيل

 

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول

 

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين