الشيخ : مجد مكي
لقد كنتم في شهر الخير والبركة تصومون نهاره وتقومون ليله، ثم انتهت تلك الأيام ، وقطعتم بها مرحلة من حياتكم لن تعود إليكم... وهكذا كل أيام العمر مراحل تقطعونها في طريقكم إلى الآخرة ، فهي تنقص من أعماركم وتقربكم إلى آجالكم، ويحفظ عليكم ما عملتموه فيها :[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا] {آل عمران:30} .
وإذا انقضى شهر رمضان فلا ترجعوا بعده إلى المعاصي ، فإنَّ ربَّ الشهور واحد، ولا تهدموا ما بنيتم من صالح الأعمال، فإنَّ من علامات قبول الحسنة إتباعها بالحسنة .
إن انقضى شهر رمضان فبين أيديكم موسم يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات وهو الصلوات الخمس ، لتقفوا بين يدي مولاكم وتدعوه وتستغفروه وتسألوه، وبين أيديكم موسم يتكرر كل أسبوع وهو صلاة الجمعة ، ويوم الجمعة الذي اختصَّ الله فيه هذه الأمة ، وفيه ساعة الإجابة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه،وبين أيديكم مواسم في جوف الليل ووقت الأسحار.
فما بال أقوام يُقْبِلون في رمضان على الطاعة فإذا انسلخ تنكَّروا وتغيَّرت أحوالهم.
سُئل بعض السلف عن مثل هؤلاء،فقال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
لقد كانت المساجد تمتلئ بهؤلاء في الصَّلوات الخمس ، وعندما انسلخ رمضان اختفوا وانمحت آثارهم في المساجد، كأنَّ الواجبات سقطت عنهم، والمحرمات أبيحت لهم خارج رمضان:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ] {محمد:33} .فكما أن الحسنات يذهبن السيئات ، فكذلك السيئات تقضي على الحسنات.
روى مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر»؛لأن الحسنة بعشر أمثالها ، فرمضان عن عشرة أشهر ، وستة أيام من شوال عن شهرين.
ـ إنَّ صيام هذه الستة بعد رمضان كصلاة النافلة بعد الفريضة ، يُكَمِّل ما حصل في صيام رمضان من خلل أو نقص ، وأكثر الناس يقع في صيامه للفرض خلل أو نقص .
ـ إن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان ، فإنَّ الله تعالى إذا تقبَّل عمل عبد وفَّقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
ـ إن صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدَّم من الذنوب ، فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لله على هذه النعمة، فالعبد يشكر ربه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه ، وها هو يعود إلى الصيام بعد الفطر لأنه لم يملَّ من الصيام ولم يستثقله .
ما بعد رمضان
إنَّ التاجر إذا دخل موسماً من مواسم التجارة فتاجر فيه وباع واشترى طلباً للربح، فإنه بعد الانتهاء من هذا الموسم ينظر فيه مبلغ ربحه وما حصل عليه من مكاسب، ينظر: هل ربح أو خسر؟ هل غنم أو غرم؟.
ونحن قد مرَّ بنا قريباً موسم من مواسم تجارة الآخرة الباقية، تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تجارة لن تبور ، قد مرَّ بنا شهر رمضان ، نبح فيه السنَّةُ ثواب الفريضة، ونبح فيه الفريضة ثواب سبعين فريضة، يربح فيه العملُ ليلةً واحدة ثواب العمل في ألف شهر، من صام أيامه وقام لياليه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه .
لقد مرَّ بنا هذا الشهر بخيراته، وعشنا أيامه ولياليه ، فلنحاسب أنفسنا: ماذا ربحنا فيه؟ ماذا استفدنا منه؟ ما أثره على نفوسنا؟ ما مدى تأثيره على سلوكنا؟ هل ربحنا فيه أو خسرنا؟ هل تقبَّل منا عملنا أو ردَّ علينا؟!
لقد كان السلف الصالح حينما ينتهي رمضان يصيبهم الهمُّ: هل تُقبِّل منهم أو لا ؟ كما وصفهم الله بقوله:[وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] {المؤمنون:61} .يخافون أن تُردَّ عليهم حسناتهم أشدَّ مما يخاف المذنبون ، أن يعذَّبوا بذنوبهم لأن الله تعالى يقول : [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ] {المائدة:27} .
إن للقَبول والربح في هذا الشهر علامات ، وللخسارة والرد علامات واضحة. فمن كان في الخير والاستقامة بعد رمضان أحسن من حاله قبله، مَنْ حسن سلوكه وعظمت رغبته في الخير والاستقامة، والطاعة، وابتعد عن المعاصي ونفر منها، فهذا دليل على قبول أعماله، ودليل على ربح تجارته في رمضان.
ومن كان بعد رمضان كحاله قبله أو أسوأ ، مقيمٌ على المعاصي بعيد عن الطاعة، يرتكب ما حرَّم الله ، ويترك ما أوجب الله ، يترك الصلاة ، ولا يدخل بيوت الله، ولا يتلو كتاب الله ،ولا يخاف من التهديد، ولا يتأثر بالوعود والوعيد.
ماذا استفاد من رمضان ومن مواسم المغفرة والرضوان سوى الآثام والخسران، والعقاب والنيران؟!.
يا من عرفت في رمضان أنَّ لك رباً كيف نسيته بعد رمضان؟
يا من عرفت في رمضان أن الله قد أوجب عليك الصلوات الخمس في المساجد كيف جهلت ذلك أو تجاهلته بعد رمضان؟!.
يا من عرفت في رمضان أنَّ الله قد حرَّم عليك المعاصي كيف نسيت ذلك بعد رمضان ؟!.
يا من كنتم تملؤون المساجد في رمضان وتتلون كتاب الله فيها كيف هجرتم المساجد والقرآن بعد رمضان.
لقد كانت المساجد في رمضان تغصُّ بالمصلين ، برجال لم ينزلوا من السماء ، إنما يسكنون بجوار المسجد طوال السنة، ويملؤون البيوت، لكنهم لا يعرفون المساجد في غير رمضان، ولا يخافون الله في غير رمضان. وأعجب من ذلك أن هؤلاء لهم آباء وإخوان يحافظون على الصلاة طوال السنة لكنهم لا ينكرون عليهم.
إنَّ هؤلاء الذين يسكتون عن أبنائهم ومن في بيوتهم إذا تركوا الصلاة لو نقصه ابنه أو أخوه شيئاً من ماله لم يسكت عنه ، ولم يتركه في بيته ، بل تظهر شهامته ورجولته وحزمه وغيرته على الدنيا وأما الدين فلا يهمه أمره.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول