حافظ إبراهيم وبنتُ اليابان

تقرأ شعر حافظ إبراهيم، فتجد فيه القوة اللغوية والبراعة الأدبية، وترى حكمته تنبع من تجربته الدهرَ وفهمه الحياةَ. وتقطف طاقات من إبداعه الفنّي وترتقي في سماء شعره، فهو مصور بارع، وقصصي شعري سامٍ. هو هكذا في جلِّ شعره، ملك ناصيته، وحلّق فيه.

أحفظ من قصيدته هذه كثيراً من الأبيات، شدّني إليها أسلوبه القصصي في تقديم خلاصة فكره، وعصارة خبرته، كان فيها واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار.

لا أحب طول التقديم، ولا التبسط فيه،إذ نحن بين يدي قصيدة تشرع أبوابها، وتعرض كنوزها، فهلم نلِجُها من بدايتها.

تراه يعرض حاله دون أن يعتذر عن بعض ما لم ينله وقد بذل فيه جهده، فالدهر لم يسعفه في مسعاه، وكثيراً ما يخذله الدهر لأمر يُراد له من امتحان أو عدم توفيق..

لا تلم كفي إذا السيف نبا=صح مني العزم والدهرُ ابى

ربّ ساعٍ مبصرٍ في سعيه=أخطأ التوفيق فيما طلبا

من حسن أدبه أنه لم يَلُمِ الدهرَ، ونسب إلى نفسه التقصير والخطأ في طلبه، فهو –إذاً- يلتزم حدود الأدب. وكيف يلوم الدهر، والله سبحانه هو الدهر؟ إنها لفتة رائعة من أديب مؤمن ينتقي كلماته المعبرة عن حُسن إيمانه.

فإذا ابتُلي بالمصائب صبر لها حين يكون سببَها طموحُه وسموّ نفسه وعلُوُّ آماله، وهذا دليل على جَلِيِّ هدفه، ومن رام المكانة العالية لا بد من دفع تكاليفها

مرحباً بالخطب يبلوني إذا=كانت العلياءُ فيها السبَبا

وأراد أن يعبر عن عدم بلوغ هدفه بالمشيئة الربانية، فزلَّ حين استعمل كلمة /عقني الدهر/ فالعقوق، عدمُ رد الإحسان ممن احسنتَ إليه، وكان أولى أن يقول: /رَدّني الدهرُ/ وللدهر أن يفعل ما يشاء فهو قدر الله تعالى. ولعلّه أصلح الخطأ حين آثر الحسنى فلم يعُق الدهر، وظلَّ شاعراً مبدعاً في دوحة الشعر:

عقني الدهرُ ولولا أنني=أوثر الحُسنى عققتُ الأدبا

وينتبه إلى الواقع حين يصف الحياة الدنيا بالبرق الخُلّبٌ، والأمر الزائل لا ينبغي التعويل عليه والاهتمام به.

إيه يا دنيا اعبِسي أو فابسمي=لا أرى برقك إلا خُلّبا

قوله هذا يذكرني بما كنا نحفظه صغاراً في المعنى نفسه مع شيء من التحوير في المعنى:

ولدَتك أمُّك يا آدم باكياً=والناسُ حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بَكَوا=في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وترى الشاعر يتألم من خذلان أمته التي ضيَّعت البوصلة، فكره الناس بعضُهم بعضاً، وأحبُّوا الغرباء ووثقوا بهم، فضعفت الأمة بتشتتها الفاضح واستفحال الهوى فيها، ونسيت مكانتها وأصالتها حين تخلت عن الجهاد وركنت إلى المباذل وعشقت المظاهر الخدّاعة وتركت أراذل القوم يحكمونها، فأسلموها للعدو يتحكم بها، فيسلبها ماضيها وحاضرها وأرضها وثرواتها ويُذِلّها، ويبعدها عن دينها:

أنا لولا أن لي من أمتي=خاذلاً ما بتُّ أشـكو النـُّوَبا

امّةٌ قد فَتَّ في ساعدِها=بغضُها الأهلَ وحُبُّ الغُرَبا

تعشق الالقاب في غير العلا=وتُفـَدّي بالنفوس الرُّتـَبـا

لا تُبالي لعب القومُ بها=أم بها صرفُ الليالي لعبا

والشاعر إذ أراد أن يستنهض أمته من الغفلة ويبعدها عن المهانة يضرب لها المثل في فتاة يابانية كانت تعيش في مصر، فلما بدأت الحرب العالمية الأولى عام أربعة عشر وتسع مئة وألف إلى عام ثمانية عشر من العقد الثاني نفسه رأت من واجبها أن تلحق بأمتها لتدافع عن بلدها، فكان بينها وبينه حوار عميق يرسم هدف المرء في هذه الحياة تاركاً مباهج الحياة ملتحقاً بواجبه في خدمة أمته ووطنه، بينما نرى في بلدنا سورية انسلاخاً لكثير من أهلها عن واجبهم نحوها، والهروب إلى المجهول المزخرف في هذه الحياة التي تختزل الإنسان في مأوى غريب ولقمة مغموسة بالهوان، وذلة تنتزع الإيمان من القلوب، وضياع في متاهات بلاد الوحوش الغربية الفتاكة.

فقد كان يهوى في زمان الشباب فتاة ناعمة لينة الجانب وهبها الله من الجمال ما وهب من وجه ذهبي اللون:

كنت أهوى في زماني غادةً=وهب الله لها ما وهبا

ذاتَ وجه مزجَ الحُسنُ به=صُفرة تُنسي اليهودَ الذهبا

أعجب بوصف جمالها غير المتناهي (وهب الله لها ما وهبا) وهو أسلوب يوحي بالجمال الأخاذ الذي لا يقدر على وصفه، لكنه – وهو العالم باليهود – نسي أن اليهود لا يُسليهم عن الذهب وعبادته شيء مهما جلَّ وعظُم فهم لا يعيشون إلا للمال وجمعه بكل الاساليب الدنيئة، والتاريخُ شاهد على ذلك، ولعله أراد أن يصف جمالها الذي يسبي القلوب فلم يجد سوى ذهبِ اليهود ومالِهم.

ويبدأ الشاعر قصته مع الفتاة تحمل له نبأ رحيلها إلى بلادها فجأة، وهو الذي أحبها وتعلّق بها فتراه يتألم لذلك حين يدعو على هذا النبأ الذي أخذ منه من يهواها، ولكنْ تراه وهو الرصين المتعفف يلتقي بالغادة الغريبة الجميلة ويتغزل بها هكذا؟ ربما:

1- على طريقة الشعراء القدامى يتغزل ثم ينطلق إلى هدفه.

2- أو ترَخَّص بذلك حين كان شاباً، والشبابُ مندفعٌ إذا لم ينشأ على هدى ودين.

3- ولعل الغادة خيالٌ في ذهن الشاعر يتحدث عما في نفسه على لسانها.

حملت لي ذات يوم نبأ=لا رعاك الله يا ذاك النبا

كان ينتظرها في أول المساء / والليل فتى/ وكان الهلال في اول أيام الشهر العربي/ تمشي مشية الدلال/ تخطِر/، ولعل الفتاة إذ جاءها خبر الحرب بين اليابان وغيرها يجعلها مهمومة مضطربة المشية على غير ما صور الشاعر مشيتها: تخطِر. وقد يقول بعض العارفين: تتبختر الفتاة في مشيتها أمام المعجبين ولو كانت مضطربة حزينة، هكذا تمشي حين ترى أعين الرجال تنصبُّ عليها. ولا أراني إلا قانعاً بالإجابة لأنني لم أتعرف على امرأة غير زوجتي، وهي جادّة في كل شيء تقريباً، كما أنَّ فتاة اليابان كانت تتصنع الابتسام فيرى الشاعر الوالهُ نضيد الدُّر والياقوت يلمع في ثغرها الباسم، صورة تبدو حالمة ضوؤها خافت في ليلةٍ يزيّنُها الهلال، لا يلمع فيها سوى أسنان الفتاة اللامعة فتزداد ضياءً:

وأتت تخطِر والليلُ فتى=وهلال الأفق في الأفق حبا

ثم قالت لي بثغر باسم=نظـَمَ الـدُّرَّ بـِه والحـَبَـبـا

لقد أخبرَتْه أنَّ عليها أن تلتحق بركب المدافعين عن وطنها، ولعلها لا تعود، طالت حياتُها أم قصُرَتْ أم قتلت في سبيل الدفاع عن بلادها، وحين يدعوها الوطن ينبغي أن تلبّي نداءه، ولو كانت أنثى فلها دورها المناسب في المعارك:

نبؤوني برحيل عاجل=لا أرى لي بعده منقلَبا

ودعاني موطني أن أغتدي=علّني اقضي له ما وجبا

والعدوُ هو الدُّبُّ الروسيّ، فعبرت عن الانتصار عليهم والقضاء على اعتدائهم بذبح الدبِّ وسلخ جلده:

نذبح الدبَّ ونفري جلدَه=ايظُنُّ الدُّبُّ الّا يُغلَبا؟!

بالإصرار والثبات يُغلب المعتدي ولو كان دولة عظمى، فالحقُّ أعظم، والثباتُ أقوى، وسينتصر السوريون إذا أجمعوا أمرهم، واتجهوا إلى ربهم، فليذبحُنَّ الدبَّ ويقتلعُنَّه وعملاءَه من الوطن العزيز والشام الشريف، وحين يعودون إلى ربهم ويوطّنون أنفسهم على الجهاد في سبيله.

وحين يقول الشاعر:

قلتُ والآلام تفري مهجتي=ويكِ ما تصنع في الحربِ الظِّبا

ما عهِناها لظبيٍ مسرحاً=يبتغي ملهىً به أو ملعبا

بالغ الشاعر حين جعل أثر النبأ يفري مهجته، وما كان له أن يقولها، فالخبر عادي ومتوقّع في الحرب العالمية الأولى، بيد أن الشعراء في كثير من الأحيان يفتعلون مواقف وأقوالاً قد تؤثر في القارئ أو السامع إيجاباً أو سلباً وهنا أراه افتعالاً، فلم أتفاعل معه. ولك أيها القارئ رأيك الذي قد تخالفني فيه.

وترى الشاعر يُسهِب في وصف الحرب التي لا تتحمل المرأة شدّتها، وقد يدّعي أنه – إذ كان ضابطاً في يوم ما – قد قاسى منها وعاشها دهراً طويلاً، فكيف تستطيع هذه الفتاة خوضها؟!

ولعل الشاعر نسي أن نسيبة المازنية / أم عُمارة/ رضي الله عنها قاتلت وزوجُها وأبناؤها في غزوة أحد، وأن ابنها حبيباً رسولَ رسولِ الله إلى مسيلمة قتله المتنبئ الكذّابُ وقطّع أعضاءه، فانطلقت إلى أرض اليمامة مع ابنها عبد الله فثأر لأخيه حبيب، وكانت تقاتل مع المجاهدين، فقطعت يدُها، فكان ذلك سببَ موتها بعد انتهاء المعركة.

كما أن رفيدة الأسلمية كانت ممرضة المسلمين في غزوة الخندق، نُصبت لها خيمة في المسجد النبوي لتمريض المسلمين، ومرَّضّت سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وأسهم لها رسول الله من الغنائم كما يُسهم للرجال.

وفي معركة اليرموك كانت خولة بنت الأزور فارسة مجلية تخوض غمار المعارك مع الرجال جنباً إلى جنب....والأمثلة في هذا كثيرة.

ولعل القارئ حين يعود عدّة اسطر فيراني أقول في حق شاعرنا الرائع ( قد يدعي) ليعترض القارئ فيقول: إن الشاعر الرائع حافظ إبراهيم، أراد من قوله هذا أن ينبّه إلى:

1- أن النساء ينبغي ان يكون لهنّ دور في المعارك كلها، السياسية والأدبية والطبية والاجتماعية

2- وأننا معشر المسلمين أولى من غيرنا أن نكون قادة الامم وسادتها، وأن نكون أسوة للعالم كله في بذل الجهد.

3- ولعل الشاعر، يحرضنا على السباق في كل المجالات حين يصور لنا تلك الفتاة التي سارعت إلى الواجب، فهل يفعل رجالنا ونساؤنا ذلك.

أقول للقارئ: قد يكون قولك أصحُّ يا صاحبي، ولعل قارئاً آخر يأتي بشيء صائب آخر.

وهذا ما نراه فعلاً حين أعلنت هذه الفتاة باندفاع الليث وشجاعته أنها لبنة في بناء أمتها ورقْم قويٌّ شموخ فيها. ومرحباً بالموت إن كان موتها حياة لأمتها:

فأجابتني بصوت راعني=وأرتني الظبيَ ليثاً أغلَباً

إن قومي استعذبوا وِردَ الرّدى=كيف تدعونيَ ألّا أشربا

وليت نساءنا ورجالنا كانوا هكذا جميعاً بدل أن يلجؤوا إلى بلاد الكفر التي عملت على تشتيتنا وكانت سبباً في ذلك ودافعاً إلى القتل والتدمير والإبادة. هو الغرب الكاذب والعدو الأول.

وتنادي الفتاة بملء فيها: إنها (يابانية) وتعتز بذلك وستعمل لرفعة شأن أمتها فإما إلى النصر وإما إلى الموت..أجَلْ هكذا هدف الأمة الحيّة.

أنا يابـانـيـة لا أنثـَني=عن مرادي أو اذوقَ العطبا

وتعلن أن للمرأة في خدمة أمتها اساليبَ كثيرة، قتالٌ كالرجال أو خدمة الجرحى والمواساة، وبذر الأمل والتفاؤل في المجتمع، والإغاثة.. وتربية الرجال وإنشاء القادة...

أنا إن لم أُحسِن الرميَ ولم=تستطع كفّاي تقليب الظُّبا

اخدِم الجرحى واقضي حقَّهم=وأواسي في الوغى من نُكِبا

ويعرّج الشاعر على القدوة الجيدة وأثرِها في نهضة الأمة، فيقول على لسان فتاة اليابان:

هكذا الميكادُ قد علّمنا=أن نرى الأوطانَ أمّاً واباً

ملـِكٌ يكفيـكَ منه أنـّه=أنهضّ الشرق وهزَّ المغرِبا

فمن /الميكادو/ هذا؟ تقول / ويكيبيديا/:

(هو قائد دولة اليابان وإمبراطورها اليابان (وتعني حرفيا "سيادة السماء" ويشار إليه رسميا باسم ميكادو (وهو أعلى سلطة لديانة الشينتو، ورمز للدولة ووحدة الشعب. في ذلك الوقت كان الإمبراطور / هيروهيتو/ يحكم اليابان وهو من اتخذ قرار دخول بلاده الحرب العالمية الأولى

وحين دُمِّرَت هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة النووية استسلم للأمريكان، ثم اهتم بالصناعات، فبزّت اليابان العالم كله بصناعاتها.

إن للأسوة الأثرَ العلِيَّ الرائعَ في الأمة – إن كان الملك أو الرئيسُ أو الأميرُ يخدم بلاده بإخلاص وحب وهمّة ونشاط.، وظلاله في رفعة الأمة وارفة، ودوره في تقدمها عظيم.

فهلّا نهضت الأمة من كبوتها وصنعت قياداتها على هدى من ربها، وطرحت كل ذئيم لئيم وخائن بئيس في مزابل التاريخ؟

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين