حارسة القلعة

 

 

إلى أختي المسلمة: 

إلى مَنْ رَضِيَت بـالله ربـاً، وبـالإسـلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، إلى مَنْ رَضِيَت بعائشة بنت الصديق، وأسماء وفاطمة أسوة حسنة، إلى من أعزَّها الله بالإسلام ووقفت وسط جاهلية القرن الـعـشـريـن تـمـسـك بحبل الله المتين وتحرص على مرضاته، وترغب في الفرار إليه لتفوز في الدنيا والآخرة وتـكـون لها الحياة الطيبة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنـَـجْـزِيـَـنَّـهُـمْ أَجْـرَهُـم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ النحل: 97]، إلى شريكة العبد المسلم وحارسة قلعة العقيدة.. إليها في بيتها (بـيـت الـدعــوة).. أهدي هذه الكلمات، لتعلم أنَّها في بيتها تقف على خطِّ الدفاع الأول ضدَّ أعداء الإسلام، وأنّ وقفتها هذه تمثِّل نقطةَ الارتكاز في دائرة امتدادِ هذا الدين، وأنّ نسيج ثوبها الشرعي هو نسيج الراية الإسلامية في الصراع بين الإسلام والجاهلية.

 

أختاه: 

تعلمين أنّه فـي مـكـة، وحـيـن كـان الإســلام يعيش غربته الأولى، كانت المرأة بجانب الرجل في مَسِيرة الدعوة أختًا وزوجاً وأمّاً تعيش همَّه؛ بل كان ربع المجتمع الوليد في مكة من النساء، وعاشت المرأة هذه المرحلة تحاول مـع زوجـهــا إزالـة غُرْبــة الإسلام وتحفظ السرَّ وتكتمه.

وتعلمين ـ يا أًخْتاه ـ أنَّ هذه الغربة الأولى للإسلام.. غربة النبي صلى الله عليه وسلم وأُسْرة ياسر وبلال وغيرهم.. قد عادتْ للذين يَقولون ربُّنا الله لا قيصر، والحاكمية لله لا للبشر، وأنَّ هؤلاء الغُرَباء مُكلَّفون أن يُصلحوا ما أفسدَ النَّاس، فمُهَمَّتُهم كمُهمة الغُرَباء الأوائل أن يُزيلوا غُربة الإسلام ويُمَكِّنوا له في الأرض!

وتـعـلـمـيـن ـ يـا أخـتـاه ـ أنَّ من أهمِّ حقائق صراعنا مع الجاهلية من حولنا أنّه صــراع اجتماعي قائمٌ بين واقـع إســلامي وواقـع جاهـلي، وأنَّنا في حاجة إلى سنواتٍ طَويلة من صمود الظاهرة الاجتماعية الإسلامية في وجه الظـاهرة الاجتماعية الجاهليَّة الغالبة الآن، والتي تحمل بين طيَّاتها عوامل فنائها من العفن الخُلُقي والشقاء المعيشي!.

وتعلمين ـ يا أختاه ـ أنّ بيتك خليَّة من خلايا كثيرة يتألَّف منها الجسم الحي للواقع الإسلامي، فبيتك قلعةٌ من قِلاع هذا الدين، وفي هذه القلعة يقف كلُّ فَرْد على ثَغْرةٍ حتى لا ينفذ إليها الأعداء؟!

وأنت ـ يا أختاه ـ حارسة هذه القلعة، ولقد أفردك الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسؤولية فقال: «والأمُّ راعيةٌ في بيتها ومَسؤولة عن رعيتها» فأنت حارسة النشء الذي هو بذور المستقبل، وطفلك اليوم هو رجل الغد وامرأة الغد، ولكل دوره في الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وينبغي أن يؤهَّل لهذا الجهاد منذ مولده بإعطائه القدر المضبوط من الحبِّ والحنان والرعاية بغير نَقْص مُفسد أو زيادة مفسدة! ثمَّ حماية مَبادئ الإسلام ومَفَاهيمه في ذهنه.

أعلمُ ـ يا أختاه ـ أنّك تشعرين بثِقَل الوَطْأة السَّاحِقَة لهذا المجتمع بكلِّ ما فيه من مَكائدَ ومُثيرات، وبما فيه من تقاليدَ مَوروثة تأخذُ في بعض الأحيان طابعَ العقيدة وتضغط على حسِّك ـ يا أختاه ـ أضعاف ضغطها على حِسِّ الرجل، وهذا يتطلب منك مُضاعفة الجهد وأنت قادرة على ذلك ـ بإذن الله ـ فأنت صاحبة عقيدة قوية واهتمامات عالية، فـهـدفــك عــبــادة الله وحــده لا شـريــك له، ورسالتك العمل على بناء المجتمع المسلم، ومسؤوليتك تربية جيل مسلم، ووجهتك رضا الله وجنته في الآخرة!.

ولا شك ـ يا أختاه ـ أنّك لكي تقومي بدورك الحضاري على أتمه لا بد أن تعرفي واقعك، وعندها ستجدين أن دورك يتطلب قسطاً من الصفات الأخلاقية والفكرية والعقائدية. بل كل الصفات التي تلزم مجاهدة في معركة بين الحق والباطل، معركة يـقــف فـيها أمامك أكابر مجرمي قُرَانا يُنفِّذون أوامرَ أسيادِهم من اليهود فينشرون فكراً قذراً وأدباً مـريــضــاً يحاولون به تدمير الأسرة، بل وتدمير جميع المقوِّمات الأخلاقية حتى يخرجوا أجيالاً مُدمَّرة مُهدَّمة لا تعرف حقوق الله، وصدق الله العظيم: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ومَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ ومَا يَشْعُرُونَ} [ الأنعام: 123]. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صـنـفــان من أهل النّار لم أرهما، قوم معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها النّاس، ونساء كاسـيـات عـاريـات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» [أخرجه مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

فالرسول صلى الله عليه وسلم يـربــط فـي هــذا الحـديــث بين الاستبداد السياسي وبين الانحلال الخلقي! فاحذري ـ أختاه ـ المجرمين الذين يريدون أن يسيروا بك بخطى سَريعة وحَاسمة إلى الجاهلية الأولى أو إلى جاهلية القرن العشرين!.

إنـَّهـم يـقـولــون لـك إنَّ الرجل قد ظلمك حين فرضَ عليك ارتداءَ الحجاب، ولا بد من الـتخـلُّـص من هذا الظلم وخلع الحجاب!. فقولي لهم ـ يا أختاه ـ لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضده لتتخلَّص من ظلمه، إنّما الذي فرضَ الحجاب على المرأة هو ربّها وخالقها الذي لا تملك ـ إن كانت مؤمنة ـ أن تجادلَ فيما أمرَ به، أو يكون لها الخيرة في الأمر: {ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} [ الأحزاب: 36]. 

وقولي لهم: لقد أسلمت نفسي لله وخرجت من إسار الشيطان ورضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وارتقيت في فكري وسلوكي، ولله الحمد والمنَّة.

وهم يـقـولـون لك: ـ يـــا أختاه ـ إنَّ أختك الأوروبية قد حملت قضيتها وأخذت حقـوقَها، وقضـايــا المرأة واحدة في كل بلاد العالم!. فقولي لهم بادئ ذي بدء لا أخوة بيني وبين الأوروبيَّة؛ لأنّ المسلمة لا تؤاخي المشركة.

وأمّا عن الحقوق التي تزعمونها للمرأة الأوروبية، ففي الحقيقة لقد كانت هذه المرأة ضحيَّة من ضـحـايـا المجتمع الذي حرَّرها فقذفَ بها إلى المصنع والمكتب، وقال لها: عليك أن تأكلي من عَرَق جَبينك، في بيئة مَليئة بالأخطارِ على أخلاقها، فتركَها في حريَّة مَشْؤومة لـيـس لـهـا ولا للمجتمع فيها نفع، ففقدت الشعور بالعاطفة نحوَ الأسرة، وأصبحت بما ألـقـي عـلـيـهـا مـن مَتَاعب العمل صورة مُشوَّهة للرجل دون أن تبقى امرأة، وهكذا حَرَم المجتمعَ من هذا العنصر الأساسي في بناء الأسرة، وجَنَت أوروبا ثمار هذه الأسرة المنحلَّة مشكلات كثيرة.

تلك هي الحقيقة يا من تحاولون إعطاء كلمة "تحرير المرأة" معنى السفور والاختلاط، بينما الإسلام يرى أنَّ التحرُّر إنّما هو في الحجاب، فقد كانت المحجَّبة هي الحرَّة والسافرة هي الأَمَة، فالسفور هو العبودية. 

وهم يقولون.. ويقولون.. ويقولون... ولسان حالهم يشير إلى اليهود والملاحدة والفاسقين إشارة الحب والرضى: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [ النساء: 51]، ولما كان هذا هو ادعاؤهم واعتقادهم، فأجيبيهم ـ يا أختاه ـ بقول الحق تبارك وتعالى: {ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً} [ النساء: 115]، وقولي لهم ـ يا أختاه ـ: لقد وَدَّعـتُ مَواكبَ الفَارغات وأسأل الله لكم الهداية ولي الثبات..

أختاه: كانت هذه بـعـض الـتـحديات التي تحيط بك من خَارج بيتك مُتمثِّلة في مكر وكيد أكابر المجرمين وذيولهم فماذا عن التحديات التي تواجهك داخل البيت؟.

لا شكَّ يا أُختاه أنَّ بيتك (بيت الدعوة) لا يعرف الخراب؛ لأنَّه يتكون ومعه أسباب حمايته من الحبِّ والرضا. وليس معنى هذا أنَّه بيت لا يقع فيه شقاق أو عِتَاب أو خلاف، فهذا أمر لا يمكن أن يتحقَّق في عالم البشر ولم يتحقق في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوةِ البشريَّةِ كلِّها، وإنَّما معناه أنَّ الخلاف بين المرأة المسلمة وزوجها لا يستمرُّ بل يثوبُ كلاهما إلى اللهِ سَريعًا فيذهب الشقاق ويبقى الوئامُ والحبُّ والرضا.

فالزوجُ المسلمُ هو أحبُّ النَّاس لزوجته، وهي أحبُّ النَّاس إليه يربطهما الحب في الله ـ أوثق عرى الإيمان ـ وتزداد مشاعر الحبِّ بينهما باستمرار العلاقة الزوجية، ومع ذلك فإنَّ هذه المشاعر لا تدفع الزوج إلى الركون للبيت والزوجة، ولا تدفع الزوجة إلى محاولة الاستئثار بزوجها؛ لأنَّ كلا منهما يعلم أنَّ من حلاوة إيمان المرء «أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما»، فكلٌّ منهما يُقدِّم حبَّ اللهِ ورسولِه على أي حُب، وهذا يجعل حياةَ الدعوة والجهاد من أجل الإسلام منبعاً للحب لا يجفُّ بين الزوجين، فالحياة في (بيت الدعوة) إمَّا لحظة وداع وأمل، أو لحظة حنين وشوق، أو لحظة لقاء وفرحة.. فهي حياة طيبة وعيشة راضية وعمر مُبارك..

وهكذا بيتك ـ يا أختاه ـ بيت يملؤه الحب وينعم بظلال الرضا بعيدًا عن ظلمات الماديَّة الطاغية ومُوبقات الفسادِ والإباحية، فماذا عن ذُرِّيتك؟ ذرية (بيت الدعوة)؟.

لا شكَّ ـ يا أُختاه ـ أنَّ الذريَّة في بيتك ليست مجرد الرغبة في التناسل، بل الرغبة في استمرار الدعوة بما في هذا الاستمرار من طاقة وإمكانية.

وبعد إتمام الرضاع وإعطاء القدر المضبوط من الحبِّ والحنان للطفل تأتي أولى محاولات تحقيق عبودية الطفل لخالقه عند سنِّ سبع: « مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»[أخرجه أبوداود وأحمد وغيرهما]، والصلاة تُؤسِّسُ في نفسِ الطفلِ إحساسَ التَّناقض مع أي مُجتمع لا يُقيمُ الصلاة، ويبقى هذا الإحساس في نفس الطفل حتى يأخذَ صورة العمل لتمكين دعوة الإسلام حتى يُسْلِمَ المجتمعُ ويقيمَ الصلاة: {الَذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج: 41].

وكما ينبغي تعليم الأطفال الصلاة ينبغي أيضاً الاهتمام بتكوين شخصيتهم قويةً قادرةً على مواجهة الحياة من خلال طاعة الله والإيمان بالقدر، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «يا غلام... احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، واعلم أنَّ الأمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتَبَه الله لك، ولو اجتمعت على أن يَضرُّوك بشيء لن يَضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصحف» [أخرجه الترمذي وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح].

ومن الأمور الهامَّة في التربية الحثُّ على ممارسة الدعوة إلى الله، وهذه كانت نصيحة لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [ لقمان: 17].

وفي الحقيقة ـ يا أختاه ـ إنّ قضية تربية الأولاد ليس هذا موضع استيفائها، ولذا أنصحك ـ أختاه ـ بمراجعة كتاب (منهج التربية الإسلامية) للشيخ محمد قطب، وكتاب (تربية الأولاد في الإسلام) للشيخ عبد الله ناصح علوان.

 

وأخيراً يا أختاه: 

فإنَّ الدور الذي تقومين به هو لونٌ من ألوانِ الجهاد، وأنا أعلم أنَّ لديك من إيمانك زاداً يستعلي بك على الجاهلية، ويصمد بك في وجه مَكَائدها، غير أنَّ النفس تحتاج دائمًا إلى سلوى تعضدها، ولا أجد سلوى للنفس أعظم من القدوة، ولذا أدعوك ـ أختاه ـ إلى زيارة بيت قدوة من بيوت الدعوة، وهو بيت "الرميصاء" امرأة أبي طلحة وكنيتها "أم سليم". فأما كيف تكون هذا البيت؟ فقد طلب أبو طلحة زواج الرميصاء فاشترطت عليه أن يكون صداقُها إسلامَه (وقد كان مُشركاً) فأسلمَ وتزوجته، وتكوَّن بيتٌ مُسلم. 

ويجيء ضيفٌ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن في بيته طعام، فيسأل من يَسْتضيفُ ضيفَ رسولِ الله فيقول أبو طلحة: أنا يا رسول الله، ويذهب بالضيف إلى بيته ويسأل زوجته "أم سليم" عن الطعام، فتقول: لا يوجد غير طعام الأولاد، وتنيم "أم سليم" أطفالها وتضع طعامهم أمامَ الضيف، وتتصنَّع أنَّها تصلحُ السِّراج فَتطفئه، وتتصنع هي وزوجها أنَّهم يأكلونَ حتى أكل الضيف وشبع! ويذهب أبو طلحة إلى صَلاة الفجر فيستقبله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «يا أبا طلحة لقد ضحكَ الله من صَنيعكما الليلة»، وهكذا أطعمت الرميصاء ضيفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم طعامَ الأولاد وعلمتنا نحن معنى إكرامِ الضيف، ففي المعنى طعمُ الإيمان ورائحةُ الجنة، ويبارك الله تعالى كرم "الرميصاء" فيطعم بطعامها جميع الصحابة إذ صنعت الرميصاء طعاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت ابنها "أنس بن مالك" يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطعام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: «لقد صنع لكم أبو طلحة طعامًا»، وذهب جميع الصحابة إلى بيت الرميصاء، فقال أبو طلحة: ماذا نصنع ؟! فقالت "الرميصاء": رسول الله أعلم بما يفعل، فأمرَ الرسولُ الصحابةَ أن تدخل عشرةً عشرةً حتى أكلوا جميعاً ولم ينقصْ من طعام الرميصاء شيء !.

ويروي لنا أنسٌ رضي الله عنه حادثةَ وفاةِ غُلامٍ في بيت الرميصاء: عن أنس قال: ماتَ ابنُ أبي طلحة من "أم سليم" فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحَدِّثُه، قال فجاء فقرَّبت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم تَصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأتْ أنَّه قد شَبِعَ وأصابَ منها قالت: يا أبا طلحة أرأيتَ لو أنَّ قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسبْ ابنَك، فغضب أبو طلحة وانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لكما في غابرِ ليلَتِكما» [أخرجه مسلم، من حديث أنس رضي الله عنه]، قال: فحملتْ وأنجبتْ بعد ذلك عشرة أولاد كلهم يقرؤون القرآن.

بل وتقاتل "أم سليم" بنفسها يومَ أُحُد وتنقل القِرَب وتفرغها في أفواه الجرحى!.

كانت تلك مَعَالم بيتٍ من بيوت الدعوة في خير القرون، امرأة جعلت صداقَها إسلامَ زوجها، وأطعمت الصحابة من طعامها، وأضحكت الله بكرمها، وقاتلت في سبيل الله بنفسها، ربَّما قلت ـ يا أختاه ـ وأين نحن من هؤلاء الذين عاشَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم؟.

وأنا أقول لك: ـ يا أختاه ـ إنَّ هذه الدعوة ما زالت تُؤتي تلكَ الثمار الطيبة في عصرنا اليوم، فبين أظهرنا قامَ بيتٌ من بيوت الدعوة، وقلعة من قلاع العقيدة تحرسها أخت لك هي (أمينة قطب)، فكيف تكوَّن هذا البيت؟.

لقد تقدَّم لخطبتها عِلْية القوم فآثرت أن تُخطب لأحد المحكوم عليهم بالأشغال الشاقَّة المؤبَّدة في عام 1963م، وهو الأخ "كمال السنانيري" وكان هذا الارتباط في وقته قمَّة التحدي للحاكم الفرد الطاغية الذي قرَّر أو تقرَّر له من قبل صانعيه القضاء على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون.

وانتظرت "أمينة قطب" زوجها عشر سنوات، وفي عام1973 خرج زوجها من السجن وتكوَّن البيت.

لعلك تدركين الآن ـ يا أختاه ـ أنَّ تاريخ هذا الدين وقد رسم فيه وجوهاً كريمة تمثله، فوجه المرأة ليس أقلَّها بروزًا ووضوحاً، وليس من العبث أنَّ تاريخ هذا الدين يحفظُ في ذاكرته أسماء نساء عِشْنَ في لحظات ما قضية هذا الدين، فلتأخذي دورَك يا أختاه.

ربَّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّياتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا للمتقينَ إماماً.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة البيان) (شوال – 1409 هـ )، (العدد: 68).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين