حاجتنا إلى رجال

هذه خطبة جمعة قديمة في جامع الرضا بحي النعيم بجدة، كنت أكتبها وألقيها ارتجالا، واستفدت في موضوع هذه الخطبة مما كتبه شيخنا القرضاوي في كتابه :" من أجل صحوة راشدة" والشكر للأخ طارق عبد الحميد على إحياء هذه الموضوعات وتجديد نشرها والتذكير بها

 

في دار من دور المدينة المنورة جلس عمر رضي الله عنه إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: (تمنوا. فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنوا. فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءةً لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله. ثم قال: تمنوا. فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر:ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله).

رضي الله عن عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقَّة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة.

إن الأمم والرسالات تحتاج إلى الرجال أولي العزائم القوية، والقلوب الكبيرة قبل حاجتها للثروات والمعادن والجواهر.

الإنسان أعزُّ من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجوده عزيزاً في دنيا الناس، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة) ـ متفق عليه ـ.

الرجل الكفء الصالح هو محور الإصلاح، وأساس النهضات، وعماد الرسالات. أعدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب.

ضع ما شئت من القوانين واللوائح، فستظل حِبْراً على ورق، ما لم تجد الرجل الذي ينفذها.

وضع ما شئت من مناهج التربية والتعليم فلن يغني المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه.

فلله ما أحكم عمر حين لم يتمن ذهباً ولا فضة، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذي تفتتح على أيديهم كنوز الأرض وأبواب السماء. 

إن رجلا ً واحداً قد يساوي مئة، ورجلا ً قد يوازي ألفاً، ورجلا ً قد يزن شعباًَ بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحي أمة.

حاصر خالد رضي الله عنه الحيرة، فطلب من أبي بكر رضي الله عنه مدداً فما أمده إلا برجل واحد، هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا ينهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل.

واستمد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو في مصر، عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فبعث إليه بأربعة آلاف، على رأسهم أربعة من رجالات الإسلام، عدَّ كل واحد منهم بألف رجل.

لكن ما الرجل الذي نريد؟ هل هو كل من طرَّ شاربه، ونبت لحيته من بني الإنسان؟ إذن فما أكثر الرجال؟!

هل الرجولة بالسن المتقدمة؟ فكم من شيخ في السبعين وقلبه في السابعة،ي فرح بالتافه، ويبكي على الحقير، ويتطلع إلى ما ليس له، و يقبض يده حتى لا يشكره غيره، فهو طفل صغير، ولكنه ذو لحية وشارب.

وكم من شاب في مقتبل العمر، ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه.

مرَّ عمر رضي الله عنه على ثلَّةٍ من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبيٌّ مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فسأله عمر: لِمَ لمْ تَعْدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسعها لك!

ودخل غلام صغير على الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسنُّ منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدّم بالسن لكان في الأمة من هو أحق منك بالخلافة.

أولئك هم الصغار الكبار، وفي دنيانا ما أكثر الكبار الصغار!!

هل الرجولة ببسطة الجسم، وطول القامة، وقوة البنية؟! ليست الرجولة كذلك فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ] ومع هذا فهم  [كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ] {المنافقون:4}.

وفي الحديث الصحيح: (يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى:[ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا] {الكهف:105}. [فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ] {التوبة:108}. [رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ...] {النور:37}. [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23}.

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً ـ وهما دقيقتان هزيلتان ـ فضحك بعض الصحابة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد).

ليست الرجولة بالسن والجسم ولا بالمال ولا بالجاه، وإنما الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفافها، قوة تجعله كبيراً في صغره غنياً في فقره، قوياً في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه: واجبه نحو ربه ونحو نفسه، ونحو بيته، ونحو أمته.

  الرجولة بإيجاز هي قوة الخلق وخلق القوة.

  إن ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من مسجد ومدرسة وإعلام هو صناعة هذه الرجولة.

ولن تترعرع الرجولة إلا في ظلال العقائد والفضائل والأخلاق، أما في ظلام الشك والإلحاد والانحلال فلن توجد رجولة صحيحة، كما لا ينمو الغرس إذا حرم الماء والهواء والضياء.

ولم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج التي صنعها الإسلام على يد رسوله الكريم.

أما اليوم فقلما ترى إلا أشباه الرجال، ولا رجال.

وما أصدق تلك الكلمات التي قالها ذلك الرجل الذي درس الإسلام فقال في إعجاب مرير: (يا له من دين لو كان له رجال).

وهذا الدين الذي يشكو قلَّة الرجال يضم أكثر من ألف مليون نسمة ينتسبون إليه، ويحسبون عليه، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غثاء كغثاء السيل).

(يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها....) ـ أخرجه أحمد وأبو داود عن ثوبان ـ.

بناء الرجل الصالح:

1 ـ بناؤه بالإيمان الذي يصرفه سر وجوده، ويجيبه على أسلته الخالدة: من أنا؟ ومن أي جئت ؟ وإلى أين أذهب؟

2 ـ يبنيه بالعبادة التي هي غاية خلقه: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}. بالصلاة التي تصله بربه، وبالزكاة التي يزكي بها نفسه، وبالصيام الذي يربي الإرادة ويعلم الصبر وبالحجج الذي هو هجرة إلى الله.

3 ـ بناؤه بالأخلاق والآداب والأسوة الحسنة حتى يتكون في ظلها إنسان (سورة العصر) الناجي من خسران الدنيا والآخرة.

الأخلاق التي يريدها الإسلام هي أخلاق المؤمن القوي المنتج الواثق.

(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)

(اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل...).

لقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً تجسَّد فيهم الإسلام، فإذا هم مصاحف تمشي على الأرض، انتشروا في أنحاء الدنيا، فرأى الناس فيهم نماذج فريدة من البشر، يمثلون منهجاً فريداً، فلما رأوا المنهج الفريد مجسداً في الفرد المؤمن الصادق، أقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.

والإنسانية اليوم في أمس الحاجة إلى هذا النموذج الفريد.

وماذا يفيد الإسلام رجال أهمتهم أنفسهم، وحكمتهم شهواتهم، وسيَّرتهم مصالحهم رجال يجمعهم الطمع، ويفرقهم الخوف والفزع، رجال صنعوا من زجاج، فلا يستر عورة لا يتحمل رمية حصاة.

أما والله لو ظفر الإسلام في كل ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الرجولة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدَّسة التي لا يهابها عدد، ولا ينتصر بها صديق.

إن الإصلاح والتغيير لا يهبط علينا من السماء، ولا تنزل ملائكة يتولون أمر البشر، وإنما البشر هم الذين يصلحون أنفسهم، إن التغيير يجب أن يبدأ منا أولاً، من داخلنا.

إنه قانون القرآن إن المجتمعات لا تتغير إلا بجهد بشري، جهد يتجه إلى الأنفس ليغير ما بها من صفات فاسدة إلى صفات صالحة:[ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الرعد:11} . وتغيير الإنسان ليس بالأمر الهين، فليس بمجرد الوعظ والإرشاد، وليس بالأوامر ولا القوانين، إنما يتغيَّر إنسان من داخل نفسه.

إن أزمة المسلمين الكبرى أزمة روحية أخلاقية... وهناك أزمات أخرى، ولكن جذورها وأسبابها تعود إلى انطفاء جذوة الإيمان، والأخلاق.

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم=فأقم عليهم مأتماً وعويلاً.

إنه ضعف الإيمان والأخلاق لدى الحاكمين والمحكومين، إنه الوهن المتمثل في حب الدنيا وكراهية الموت لدى الناس، فكل يقول: نفسي نفسي.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 3/3/2022

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين