جوده صلى الله عليه وسلم وكرمه

ومن معين الرحمة التي جبل عليها قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم: نَبَعَ الجودُ والكرمُ، والبذلُ والإيثار، وكان صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الذي لا يدانيه فيه أحد.. وقد كان جوده صلى الله عليه وسلم كلّه لله، وفي ابتغاء مرضاة الله، فإنّه صلى الله عليه وسلم كان يبذل المال تارةً لفقير أو محتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله تعالى، وتارة يتألّف به على الإسلام من يقوى به الإسلام، وكان يعطي عطاءً يعجز عنه الملوك، ويؤثر أصحابه على نفسه وأهل بيته، ويعيش في نفسه وأهل بيته عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران، لا يوقد في بيته نار، وربّما ربط الحجر والحجرين على بطنه الشريفة من الجوع، وقد أتاه صلى الله عليه وسلم مرّةً سبي، فشكت إليه ابنته فاطمة رضي الله عنها بتوجيه من زوجها رضي الله عنه ما تلقى من عناء في خدمة البيت، وطلبت منه خادماً، يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، وقال: ( لا أعطيك وأدع أهل الصفّة تطوي بطونهم من الجوع ) الأنوار المحمّديّة ص/238/ بتصرّف يسير.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، ما ردّ أحداً قطّ إلاّ بحاجته، وما طلب منه أحد شيئاً فقال: لا، فلا يصدق قول الشاعر إلاّ عليه:

ما قالَ لا قَطُّ إِلاّ في تَشَهُّدِهِ *** لَولا التَشَهُّدُ كانَت لاءَهُ نَعَمُ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ ) رواه البخاريّ في كتاب بدء الوحي برقم /5/ ومسلم في كتاب الفضائل برقم /4268/ وسيمر بك الحديث بطوله في الفصل الأوّل من الباب الثالث من شهادات المنصفين.

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: ( مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً قَطُّ فَقَالَ: لا ) رواه البخاريّ في كتاب الأدب برقم/5574/ومسلم في كتاب الفضائل برقم /4274/.

وعَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ، مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي، فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلانٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا ! قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لا يَرُدُّ، قَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَلْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ ) رواه البخاريّ في كتاب الجنائز برقم /1198/.

ولقد بلغ من كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن يطلب معروفه: ( استدن علينا حتى يأتينا ما نقضيه.. ) إن لم يجد تلك الساعة ما يعطي السائل..

عن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ فسأله أن يعطيه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءني شيء قضيته. فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله قد أعطيته، فما كلّفك الله ما لا تقدر عليه، فكره صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق، ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، فتبسّم رسول الله، وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاريّ، ثمّ قال: بهذا أمرت ) أخرجه الترمذيّ في الشمائل ص/381/.

ولا عجب في ذلك، وهو القائل كما جاء في الحديث القدسيّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللهِ مَلأَى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ المِيزَانُ، يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ.. ) رواه البخاريّ في كتاب تفسير القرآن برقم /4316/.

وبلغ من كرمه صلى الله عليه وسلم وجوده أن يعطي المؤلفة قلوبهم مئات من الشاء أو البقر أو الإبل، حتّى سمّوا في السيرة أصحاب المئين..

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِسْلامِ شَيْئاً إِلاّ أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّداً يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الْفَاقَةَ ) رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم /4275/.

وقال آخر في مناسبة مشابهة: أشهد أنّه لا تجود بهذا إلاّ نفس نبيّ..

وبلغ من كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم أن يقول لأحدهم، وقد رأى من الغنائم غنماً كثيراً يملأ وادياً، فقال: ما أكثر هذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيعجبك؟ قال: نعم. فقال له بكلّ أريحيّة: هو لك..

وعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ *** بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ

فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلا حَابِسٌ *** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي المَجْمَعِ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا *** وَمَنْ تَخْفِضْ الْيَوْمَ لا يُرْفَعِ

قَالَ: فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً ) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم/1757/.

وليس هذا العطاء الكثير من الإسراف في شيء، وإنمّا هي سياسة تربويّة حكيمة، اتّبعها النبيّ صلى الله عليه وسلم لتأليف النفوس الشاردة عن الحقّ، واستلال الأحقاد والضغائن منها، وتعليم الناس جميعاً أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم ليس طالب ملك ولا مال، وإنّما هو داعٍ إلى الله بإذنه، لا همّ له إلاّ هداية الناس إلى صراط الله المستقيم.

وقد أثبت الواقع أنّ هؤلاء المؤلّفة قلوبهم أسلموا، وحسن إسلامهم، وصدقوا مع الله، وجاهدوا في سبيله..

وبلغ من كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم أن بعض الأنصار كانوا يهدون إليه بواكير الثمر، ليدعوا لهم بالبركة فيها، فلا يردّ الطبق إلاّ بملئه ممّا يحضره من الخير، وربما ردّه بملئه من الذهب والفضة..

ولقد بلغ من جوده وكرمه أنّه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر فقراء أصحابه، وبخاصّة أهل الصفّة، ويقدّمهم على أهل بيته فيما يهدى إليه من طعام:

عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّه قال: أَاللهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنْ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْماً عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلاّ لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلاّ لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ.

ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي، وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الحَقْ، وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَناً فِي قَدَحٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ، أَوْ فُلانَةُ.

قَالَ: أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي، قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلامِ، لا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلا مَالٍ، وَلا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئاً، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً، أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بُدٌّ.

فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ، قَالَ: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: أَبَا هِرٍّ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ، قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: اشْرَبْ، حَتَّى قُلْتُ: لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكاً، قَالَ: فَأَرِنِي، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ ) رواه البخاريّ في كتاب الرقاق برقم /5971/.

وإنّ دلالة هذه القصّة البالغة على إيثار النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وكرمه وجوده أعمق وأقوى أثراً من دلالتها على تكثير اللبن القليل ببركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي حقيقة لا ريب فيها..

ومَثَلٌ آخرُ يومَ الخندَقِ: عَن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه يَقُولُ: لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصاً، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ لَهَا: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصاً شَدِيداً، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَاباً فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ.

قَالَ: فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتْ فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ.

قَالَ: فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَتْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ، فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُوراً، فَحَيَّ هَلا بِكُمْ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلا تَخْبِزُنَّ عَجِينَتَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْدَمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا، فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلا تُنْزِلُوهَا، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللهِ: لأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَتَنَا، أَوْ كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ: لَتُخْبَزُ كَمَا هُوَ ) رواه البخاريّ في كتاب المغازي برقم/3793/ومسلم في كتاب الأشربة برقم /3800/.

فانظر رعاك الله إلى سموّ النفس، وكرم الأخلاق النبويّة: كيف لم يرتض صلى الله عليه وسلم أن يلبّي دعوة جابر رضي الله عنه مع نفر قليل من أصحابه.؟ بل دعا كلّ من حضر حفر الخندق باسم جابر رضي الله عنه، وهذا من مروءته صلى الله عليه وسلم وسموّ أخلاقه، وظهر إكرام الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، يعضد إكرام النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه..

فهل رأت عيناك ما يشبه هذه الأخلاق الكريمة، أو يدانيها.؟!

ويشبه هذه القصّة ما وقع لأبي طلحة وأمّ سليم، كما جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفاً، أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصاً مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَاراً لَهَا، فَلَفَّتْ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي، وَلاثَتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا، فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ.

فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ.

ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا، حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ، أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلاً ) رواه البخاريّ في كتاب المناقب برقم/3313/ ومسلم في كتاب الأشربة برقم /3801/.

وبعد؛ فإن لم يكن محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الأخلاق العظيمة، الزكيّة الطاهرة، والشمائل الكريمة ـ نبيّاً، بل أفضل من اجتباهم الله تعالى بالنبوّة، وحباهم بالرسالة، فمن عسى أن يكون نبيّاً.؟ وماذا يثبت من نبوّة سواه من الأنبياء.؟

وإذا كان أهل الكتاب يقرّون باصطفاء الله بعض خلقه بالنبوّة، وتكليفهم بالرسالة، فأنى لهم أن يثبتوا نبوّة أنبيائهم، وما يؤمنون به من كتب، إن لم يعترفوا بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم ورسالته.؟! وليس في الدنيا كتاب سماويّ موثوق في ثبوته، وفي جميع حروفه كالقرآن العظيم، يتحدّث عن نبوّة الأنبياء، ويروي أخبارهم.. وإن لم يكن هذا الفضل العظيم الذي أسداه محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم للإنسانيّة، وهذه الأمّة العظيمة التي أخرجها فكانت بإذن الله خير أمّة للناس.. إن لم يكن ذلك من عمل النبوّة فماذا يمكن أن يكون إذن.؟

وهل يمكن أن يقاس ما قدّمه محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم للإنسانيّة من خير وبرّ، وهدى ورحمة، بما قدّمه من سبقه من الأنبياء.؟

{قُلْ صَدَقَ اللهُ.. }[آل عمران:95]، {... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا}[النساء:87]، {... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا}[النساء:122]، ] {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الأحزاب:40].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين