جهد إبليس

 

ماذا كان جهد إبليس بعد أن طُرد من السماء؟ 

كان جهده أن يغرى أبناء آدم بالجحود، ونسيان ما أولاهم الله من نعم...

 كان جهده أن يشغلهم بفنون من الغفلة تُزَيّنُ لهم أن يأكلوا من رزق الله، ولا يحمدوه، وأن يفتحوا عيونهم على آيات العظمة، ولا يمجدوه...

 إن الدواب إذا وجدت أقواتها التَهَمَتْها، ما تعي شيئاً غير هذا، وإذا فقدتها أحست لذع الجوع، ما تعي شيئاً غير هذا، وإذا استمتعت بالعافية جرت ووثبت، وإذا قيدها المرض استكانت وهمدت، ما تعي شيئاً غير هذا......

 إنها لا تعرف صبراً على بأساء، ولا شكراً على نعماء...

 وكذلك يريد الشيطان من أبناء آدم أن يعيشوا على هذا النمط المنحط، لا ذكر، ولا شكر.

 وكذلك آلى إبليس على نفسه يوم أخرج من الجنة فقال: [...لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ(16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17) ]. {الأعراف}. 

وأسوأ ما يكون الجحود عندما يكون جماعياً تنحدر إليه أمَّة بأسرها.

 فترى كأن هناك تواصياً على ألا يُذكر الله بخير!! بل ترى كأن هناك اتفاقاً مكتوباً أو غير مكتوب على أن تُلتهم أفضال الله، وتُنسب ذلك إلى أي شيء ما عداه...!!!

 وهل هلكت عاد، وهلكت ثمود، إلا بهذا الخلق الدنيء؟.

 قيل لعاد:[ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأعراف:69} . 

 وقيل لثمود: [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] {الأعراف:74}.

 لكن هؤلاء وأولئك لم يستشعروا فيضَ النعم الذي سالَ في أرجاء بلادهم فحُرموا ما جحدوا، وسُلبوا ما غمطوا، وحقَّت عليهم كلمة العذاب.

 وقد أهاب الله سبحانه بخلقه ألا يَردُوا هذه الموارد الوبيئة فقال:[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ] {البقرة:152} .

 ومع ذلك، فما أقل الذين يعترفون بالفضل، ويشعرون بالجميل: [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] {سبأ:13} .

 وإنه ليسرُّنا أن نثبت هنا باقة من النصوص والآثار الحافزة على الشكر، المشيعة لعواطفه في الأفئدة نقلاً عن الإمام الجليل ابن القيم رضى الله عنه.

قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا المؤمل بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا حميد الطويل، عن طلق بن حبيب، عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أعطيهن فقد أعطى خير الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لا تبغيه حوباً في نفسها ولا في ماله).

 وذكر أيضا من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنعمَ الله على عبدٍ نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها.

 وما علم الله من عبد ندامةً على ذنب إلا غَفَر الله له قبل أن يستغفره.

 وإن الرجل يشترى الثوب بالدينار فيلبسه فيحمد الله، فما يبلغ ركبتيه حتى يغفر له).

 وقد ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها).

 فكأن هذا الجزء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء كما قال تعالى: [وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ] {التوبة:72} ،  كان في مقابلة نعمته بالحمد.

 وذكر ابن أبى الدنيا من حديث عبد الله بن صالح، حدثنا أبو زهير يحيى بن عطارد القرشي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يرزق الله عبداً الشكر فيحرمه الزيادة، لأن الله تعالى يقول: [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ] {إبراهيم:7}.

 وقال الحسن البصرى: (إن الله ليُمَتِّعُ بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابا).

 ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب: لأنه يجلب النعم المفقودة.

 وذكر ابن أبى الدنيا عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال لرجل من همذان: (إن النعمة موصولةٌ بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد).

 وقال عمر بن عبد العزيز: (قيِّدوا نعم الله بشكر الله) وكان يقال: (الشكر قيد النعم).

 وقال مطرف بن عبد الله: (لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر).

 وقال الحسن: (أكثروا من ذكر هذه النعم فمان ذكرها شكر).

 وقد أمر الله تعالى نبيه أن يحدث بنعمة ربه فقال: (و أما بنعمة ربك فحدث)

 والله تعالى يحب من عبده أن يرى عليه أثر نعمته، فإن ذلك شكرها بلسان الحال.

وقال الشعبي: (الشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله).

 وقال أبو قلابة: (لا تضركم دنيا شكرتموها).

 وقال الحسن: (إذا أنعم الله على قوم سألهم الشكر، فإذا شكروه كان قادراً على أن يزيدهم، وإذا كفروه كان قادراً على أن يبعث بدل نعمته عليهم عذاباً).

 وقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى الكنود أي: هو الذي لا يشكر نعمه، قال الحسن: [إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ] {العاديات:6}   أي يعدُّ المصائب وينسى النعم.

 وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب، قال: لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط.

 فماذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج، وهي في الحقيقة من الله، فكيف بمن ترك شكر نعمة الله؟؟ 

يا أيُّها الظالم في فعِلهِ=والظلمُ مردودٌ على من ظلم 

إلى متى أنت، وحتى متى=تشكو المصيبات وتنسى النعم؟؟ 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين