جهاد لا إفساد -3-

(6)

ثالثًا: قالوا: من كان غير مستحق القتل بهذه العمليات فإنه يبعث على نيته يوم القيامة.

ويجاب عن ذلك بما يلي:

الاستدلال بحديث البعث على النية على مشروعية هذه العمليات خطأ وخلطٌ كبير لما يلي:

1- حديث البعث على النيات ليس في جواز قتل غير المقاتلين المختلطين بمن يجوز قتلهم، بل في بيان عموم عقوبة الله تعالى للعصاة وإن كان فيهم من ليس منهم من المكرهين أو الصالحين، ثم يبعثون على نياتهم وأعمالهم، فالطائع يجازى بنيته وعمله، والعاصي تحت مشيئة الله تعالى، وهذا الإهلاك من فعل الله تعالى؛ فله أن يهلك من شاء من عباده، وليس للبشر أن يقيسوا أفعالهم على أفعال الله تعالى.

2- استدل عدد من أهل العلم بهذا الحديث على أنَّ من كان في جيش المعتدين مكرهًا، أو ومشاركًا بجهل أو تغرير، فإنَّه يُقاتَل كبقية الأعداء، ولا تعفيه نيته في تركنا لقتاله، حتى لا يتعطل الجهاد بسبب ذلك؛ إذ لا يخلو جيش من هؤلاء.

 قال النووي في "الشرح": "وفيه أنّ مَن كثَّر سوادَ قومٍ جرى عليه حكمُهم في ظاهر عقوبات الدّنيا".

وقال ابن تيمية في "الفتاوى": "وقد يُقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال ويُبعث على نيته...".

وجميع هذا مما ليس له علاقة بهذه التفجيرات التي يقتل فيها الآمنون، ثم الزعم أنهم يبعثون على نياتهم!

والاسترسال في هذا الأمر يقود إلى التساهل في الدماء، وعدم التأكد من استحقاق الأنفس المعصومة للقتل، وقد وصل الأمر بالعديد من الغلاة أن يقولوا في عملياتهم تلك، أو عند قتل مسلم لمجرد الشبهة:                                          "نلتقي في الجنة إن كنت صادقاً" !

 

 

*                  *                    *

(7)

 

رابعًا: قالوا: دول هؤلاء الكفار محاربة لنا؛ فلا أمان بينهم وبين المسلمين:

ويجاب عن ذلك بما يلي:

1- كون هذه البلاد محاربة أو غير محاربة لا أثر له في حكم هذه العمليات؛ لأنه إن ثبت أنَّها محاربة مقاتلة فينصرف القتال إلى أهل القتال منها، لا إلى عموم أهلها من المقيمين في بلادهم أو بلاد المسلمين بعمليات عشواء لا تفرق بينهم.

2- من المتقرر عند أهل العلم أنَّ الكافر المحارب إن أخذ الأمان من المسلمين ودخل بلادهم فإنه يحرم على المسلمين قتله أو إيذاؤه، وكذا إذا دخل المسلم بلاد الكفار المحاربين بعقد أمان فأنه لا يجوز له نقض هذا العقد والاعتداء عليهم.

ولا يجوز بعد ذلك نقض هذا الأمان، فمن نقضه أو اعتدى على مَن أعطي أماناً فهو خائنٌ آثم، قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) رواه البخاري، والمعاهد شامل للذمي والمعاهد والمستأمن .

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "والمراد به: من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم".

قال الشافعي في "الأم": "إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم .." .

وقال ابن قدامة في المغني: "وأما خيانتهم، فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتهم، وأمَّنه إياهم من نفسه ... فإذا ثبت هذا، لم تحل له خيانتهم، لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر".

وقد نص أهل العلم على أن الأمان في الشرع ينعقد بكل ما يفيده لفظًا، أو كتابة، أو عرفًا؛ صريحًا أو كناية، مهما كان ضعيفًا تغليبًا لجانب حقن الدماء، ولم يشترطوا لذلك لفظًا أو صيغة أو طريقة، قال ابن قدامة في "المغني": "وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ، فهو معلوم في المعنى".

 وقالوا ينعقد الأمان ولو بالإشارة التي يفهم منها ذلك، قال السيوطي في "الأشباه والنظائر": "أمان الكفار ينعقد بالإشارة: تغليبًا لحقن الدم".

كما ينعقد بما يفهم منه الكافر أنه أمان ولو لم يقصده المسلم، وينعقد ولو أُعطي خطأ، قال ابن عبد البر في "الاستذكار": "كل ما اعتبره الحربي أمانًا من كلام أو إشارة أو إذن فهو أمان يجب على جميع المسلمين الوفاء به"...

وقال المرداوي في "الإنصاف": "قال الإمام أحمد: إذا أُشير إليه بشيء غير الأمان، فظنَّه أمانًا: فهو أمان. وكل شيء يرى العلج أنه أمان: فهو أمان. وقال: إذا اشتراه ليقتله، فلا يقتله؛ لأنه إذا اشتراه فقد أمَّنه. 

قال الشيخ تقي الدين: فهذا يقتضي انعقاده بما يعتقده العلج، وإن لم يقصده المسلم، ولا صدر منه ما يدل عليه".

ولو كان الأمان غير مكتمل وفيه شبهة فهو أمان، قال ابن تيمية في "الصارم المسلول": "ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم".

وعلى هذا كلام أهل العلم، قال الشافعي: في "الأم": "أنهم إذا أمنوه فهم في أمان منه، ولا نعرف شيئا يروى خلاف هذا".

2- من صور الأمان المعاصرة من صور الأمان المعاصرة: دخول الكفار لبلاد المسلمين بتأشيرة إقامة أو زيارة، ومثله دخول المسلمين لبلاد الكفار بتأشيرة إقامة أو زيارة أو طلب لجوء، أو كان الدخول مجرد مرور في البلد بوسائل المواصلات كالطائرات والسيارات والقطارات والسفن وغيرها؛ لأن فيها إذن دخول مشروط، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد عقد بينه وبين الكفار أماناً لا يجوز له نقضه.

استدلال وإجابة:

ومع هذا الكلام الواضح لأهل العلم لعقد الأمان بأي طريقة وبأي لفظ قال الظواهري في كتابه "التبرئة" بعد أن عرَّف تأشيرة الدخول من القواميس الأجنبية بما يدل على أنها دول، ومرور، وإقامة مؤقتة ونحو ذلك: "وبهذا يتبين من تعريف التأشيرة، ومن معناها أنها لا تتضمن أية إشارة لأمان"! 

ثم يقول: "هل هناك عقد -بين المجاهدين لأمريكا من ناحية، وبينها وبين حلفائها من ناحية أخرى- يفيد هذا المعنى [أي الأمان] لفظاً أو عرفاً؟ أم أن العكس هو الواقع...

فإن قيل إن هذا العقد قام على أساس الاتفاقات الدولية حول التأشيرة والعمل القنصلي وما يتعلق بهما، فالجواب واضح أنَّ هذه الاتفاقات لا تلزمنا...

فإن قيل؛ سلمنا لكم بأن المجاهدين ليسوا في أمان من أمريكا لا لفظاً ولا عرفاً، ولكن المجاهدين -مثل المنفذين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر- دخلوا أمريكا بجوازات ليست للإمارة الإسلامية، ولكن بجوازات مصرية وسعودية ولبنانية وإماراتية، وهذه دول في أمان مع أمريكا، فهذا أيضاً خطأ، فالمسلمون من كل هذه الدول وغيرها في مصائب وكوارث بسبب أمريكا، سواء كانوا في داخلها أو خارجها...إلخ".

وفي هذا الكلام مغالطات وأخطاء؛ إذ ليس المقصود بعقد الأمان ألا يكون بين المسلمين –جماعة أو دولة- والكفار أمان، أو أن يكون نظام التأشيرة بين بلاد المسلمين والكفار قام على أسس صحيحة شرعًا، لكن المقصود أنَّ من طلب التأشيرة –ولو كانت مزورة أو على جواز ليس بينه وبين تلك الدولة عهود ومواثيق- قد أجابه مانحوا التأشيرة لطلبه المتضمن أمن جانبه وتصرفاته حقيقة وصراحة.

وقد سبق بيان أن الأمان ينعقد بكل ما دل عليه مهما كان ضعيفًا.

قال الشافعي في "الأم": "إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم .." .

3- دخول بلاد الكفار لادعاء الزيارة، أو الدراسة، أو غير ذلك ثم القيام بهذه العمليات هو من الخيانة والغدر ونقض الأمان، وليس من باب الخداع الجائز في الحرب؛ إذ أن هناك فرقًا بين الخداع الجائز، والغدر المحرم:

فالغدر: نقض العهد دون إعلام الآخر وقبل أن ينقضه الآخر.

أما الخداع: فهي جعل العدو يظن أمراً على غير حقيقته ثم إتيانه من حيث لا يشعر. 

قال النووي في "شرحه": "واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل".

حادثة قتل كعب بن الأشرف:

 قد يستدل بعضهم بقتل كعب بن الأشرف مدعيًا أن الصحابة أمَّنوه ثم قتلوه، وهذا غير صحيح، فليس في حديث قتل كعب أمان ثم غدر؛ بل إنَّ كعبًا نقض عهده مع المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم:  (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فقال محمد بن مَسْلَمَة: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نَعَم، قال ابن مسلمة: فَأْذَنْ لي أن أقول شيئًا [أي خداعًا]، قال: قُلْ،  فأتاه ابن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صَدَقة، وإنه قد عنّانا [أرهقنا بما يطلبه من الصدقة]، وإني قد أتيتك أستسلفك... إلى أن اتفق معه على الرهن وفي بقية الحديث قال محمد بن مسلمة: "إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه، فدونكم فاضربوه، وقال مرة: ثم أشمكم، فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحًا، أي أطيب، وقال غير عمرو: قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب، قال عمرو: فقال أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه" رواه البخاري.

قال البغوي في "شرح السنة": "قد ذهب من ضلَّ في رأيه، وزلَّ عن الحق، إلى أن قتل كعب بن الأشرف كان غدراً وفتكا، فأبعد الله هذا القائل، وقبَّح رأيه، ذهب عليه معنى الحديث، والتبس عليه طريق الصواب". 

وذكر النووي قول المازري: "إنما قتله كذلك [أي مخادعة]؛ لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه وسبّه  ... ولا يحل لأحد أن يقول إن قتله كان غدراً .. وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود، وكان كعب قد نقض عهد -النبي صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ورفقته، ولكنه استأنس بهم، فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان".

وأخرج الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار أنه ": "ذُكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين: كان قتله غدرًا. فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية، أيُغدَّر عندك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لا تنكر؟! والله لا يُظِلني وإياك سقف بيت أبدًا".

استدلال وإجابة:

مع ما سبق من كلام أهل العلم أجاز الظواهري في "التبرئة" الغدر بالكفار بعد أخذ الأمان منهم مستدلاً بقصة كعب، معتمدًا على أمور أهمها:

أ / أن ما يدعيه الشخص عند دخول تلك البلاد هو من المعاريض! قال: "وإخواننا لما أخذوا التأشيرات لم يكذبوا، ولكنهم استخدموا المعاريض، فإنهم لم يقولوا لهم أنتم آمنون منا، ثم قتلوهم، ولكنهم قالوا جئنا للدراسة، ومقصدهم دراسة الطيران لقتلكم، وقالوا جئنا للسياحة، وسياحة الأمة المسلمة الجهاد، وقالوا جئنا للتجارة، والجهاد هو التجارة المنجية بنص القرآن" انتهى.

وهذا من التلاعب بالألفاظ التي لا يجعلها جائزة.

ب / استدل بكلام ابن تيمية في أن ما حصل مع كعب نوع من الأمان، لكن جاز للمسلمين أن يقتلوه لأنه بسبه الرسول صلى الله عليه وسلم كان من مستحقي القتل، ولم ينعقد أمانه أصلاً.

وعلى فرض التسليم بكلام ابن تيمية الذي خالف فيه غيره من أهل العلم، فإنَّ ابن تيمية أجاز فعل ذلك فيمن وجب قتلُه بعينه شرعًا، حيث قال: "وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله، ومن حلَّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان ولا بعهد. كما لو أمّن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل، أو أمَن من وجب قتله لأجل زناه، أو أمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام ونحو ذلك.

ولا يجوز أن يعقد له عقد عهد، سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة، لأن قتله حد من الحدود، وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً".

 أما المقتولون بهذه العمليات من عامة الناس فليسوا من أهل القتل ولا القتال أصلاً، والكفار الحربيين يصح أمانهم باتفاق.

وبمثل معنى ما قاله ابن تيمية جاءت فتوى: هل يحاسب المنشق عن النظام على جرائمه السابقة ؟ http://islamicsham.org/fatawa/1164.

وفتوى: حكم استيفاء الحقوق من الأعداء بعد إعطائهم الأمان http://islamicsham.org/fatawa/970.

3- لو قيل بنقض أمان تلك الدول بسبب محاربتها للمسلمين فلا يجوز استهداف أو قتل إلا من كان أهلاً للقتال، لا عامة الناس من سكانها أو حملة جنسياتها كما في هذه العمليات.

4- أن قولهم: إن الأمان الذي تعطيه الحكومات في الدول الإسلامية للكفار المحاربين باطل؛ لأنه صادر عن مرتدين، وأمان المرتد باطل، فهذا كلام مردود؛ لأن عقد الأمان  وهذه العهود لا تبطل بردة الحاكم ولا الحكومة، وإلا لزم من ذلك  بطلان جميع العهود والعقود التي تعقدها (الحكومات المرتدة)  وهذا بيّن البطلان.

بل إن المرتد –إن صحت ردته- يجوز عقد الأمان له عند الحاجة، كما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لسفير مسيلمة، وكما يعطي المسلم الأمان للمرتدين في حال القتال لتبادل الأسرى، أو غير ذلك.

وبما أنَّ هؤلاء الكفار يعتقدون أنهم آمنون فيبقى لهؤلاء الكفار شبهة أمانٍ على أقل تقدير لقصدهم الحصول على التأشيرة -ونحوها- وطلبهم لها ثم حصولهم عليها، فهم آمنون بنظرهم، وهذا كافٍ في عصمة دمائهم، وتحريم الاعتداء عليهم كما سبق من كلام أهل العلم.

 

 

*                  *                    *

(8)

 

خامسًا: قالوا: التفجير بالسفارات جائز؛ لأنها ممثلة لدول كافرة محاربة، وفيها موظفون محاربون للمسلمين.

ويجاب عن ذلك بما يلي:

1- مرَّ سابقًا الحديث عن حكم قتل السفراء، والنهي عن ذلك، وحتى في حال سفيري مسيلمة المرتدين المحاربين الذين جاؤوا للرسول صلى الله عليه وسلم مظهرين كفرهم وردتهم، مخاطبين له بذلك لم يقتلهم وتركهم، وقال: (أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا) رواه أبو داود، وأحمد؛ وما كان السفراء إلا ممثلين لدولهم.

2- على فرض صحة أن السفارة المقصودة وكر للمؤامرة ضد المسلمين، فتعتبر في جميع الأعراف دولة مستقلة، لا يحق لجماعة ما في بلاد المسلمين أن تتعامل معها كتعامل الدول، فتقتل وتدمر. 

3- القتل بالتفجير العام الذي يطال جميع الموظفين والمراجعين والموجودين في السفارات محرم غير جائز، وليس هو من باب التترس في شيء، فإن أضيف إليه إصابة من هو في محيط السفارة من السكان الآمنين فهو أشد تحريمًا. 

4- ليس في تفجير هذه السفارات أثر يذكر على دولها، ولو قتل فيها من قتل، بالإضافة إلى العواقب الوخيمة لهذا الفعل، كما سيأتي في الحديث عن المآلات.

 

*                  *                    *

(9)

 

سادسًا: قالوا: التفجير في الشرطة والعساكر في البلاد الإسلامية جائز؛ لأنه قتل للمرتدين.

والإجابة عن ذلك:

أ- هذه الشبهة قائمة على الحكم على بلاد المسلمين بأنها بلاد كفر، وعلى الحكومات في الدول الإسلامية بالكفر بإطلاق، ولا شك أن ذلك من الغلو، ومكان تفصيله في غير هذا الموضع.

ومع ذلك فلو ثبت كفر هذه الحكومات فإنَّ تكفير جنودها وعساكرها لكونهم طائعين لهذه الحكومات فهم مغلوط وغير صحيح، وهو أهم مواضع زلل هذه الجماعات:

فليس كل من أطاع الطاغوت أو الحاكم الكافر يكون كافراً، وقد قرر أهل العلم أنّ من أطاع الطاغوت الكافر إنّما يكفر إذا أطاعه في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، مع علمه أنه بدّل دين الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال ابنُ العربي في أحكام القرآن: "إنّما يكون المؤمنُ بطاعة المشركِ مشركًا إذا أطاعه في اعتقادِه الذي هو محلُّ الكفر والإيمان؛ فإذا أطاعه في الفِعلِ، وعَقْدُه سليمٌ مستمرٌّ على التّوحيد والتّصديق فهو عاصٍ. فافهموا ذلك في كلِّ موضعٍ".

وقال ابنُ تيمية في "الفتاوى": "هؤلاء الذين اتّخذوا أحبارَهم ورهبانهم أربابًا حيث أطاعوهم في تحليلِ ما حرّم اللّهُ، وتحريم ما أحلّ اللّهُ يكونون على وجهين:

أحدهما: أنْ يعلموا أنّهم بدّلوا دينَ اللّه فيتبعوهم على التّبديل، فيَعتقدون تحليلَ ما حرّم اللّه، وتحريمَ ما أحلّ اللّه؛ اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دينَ الرّسل، فهذا كفرٌ، وقد جعله اللّهُ ورسولُه ? شركًا، وإن لم يكونوا يصلّون لهم ويسجدون لهم، فكان مَن اتّبع غيرَه في خلاف الدّين مع علمه أنه خلافُ الدّين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله اللّه ورسوله مشركًا مِثلَ هؤلاء.

والثاني: أن يكون اعتقادُهم وإيمانُهم بتحريم الحلالِ، وتحليل الحرام ثابتًا، لكنّهم أطاعوهم في معصية اللّه، كما يفعل المسلمُ ما يفعله مِن المعاصي التي يعتقد أنّها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكمُ أمثالهم مِن أهل الذّنوب".

ب- على فرض التكفير العام بالطاعة فإنه لا يجوز تكفير أعيان هؤلاء الجنود إلا بعد توفر الشروط، وانتفاء الموانع، كما هو معلوم من منهج أهل السنة.

ج- التعامل مع (الحاكم المرتد) وأنصاره لا بد فيه من شروط –وليس ذلك مراعاة له- بل لمصلحة المجتمع المسلم؛ لذا اشترط أهل العلم للخروج بالسلاح على الحاكم المرتد الاستطاعة، وحصول المصلحة من ذلك.

قال ابن تيمية في "منهاج السنة": "الحكمة التي راعاها الشارع - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما.

لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه، صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا".

وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر... ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء".

والخروج على الحاكم المرتد بعد توفر الشروط لا يكون بمثل هذه العمليات التي لا أثر لها على الحكومات، ولا تؤدي إلى عزل الحاكم ولا تغيير نظام الحكم، ولو قتل فيها من قتل، فكيف وهي لا يقتل بها إلا صغار العساكر فحسب وكثير من عامة المسلمين؟ وتاريخها شاهد منذ عشرات السنين.

 

 

*                  *                    *

(10)

سابعًا: قالوا: في هذه العمليات نكاية بالأعداء، والنكاية من الجهاد في سبيل الله، ولا يشترط فيها تحقيق كامل المقصد من هزيمتهم، بل رفع راية الجهاد فحسب.

والإجابة عن ذلك:

في هذه الشبهة مغالطة كبيرة، والحاصل هو عكس ذلك تمامًا، وبيان ذلك في النقاط التالية:

1- ليس المقصود بالقدرة على نكاية بالعدو مجرد الفعل من تفجير أو قتل، فهذا يحسنه الكثيرون، بل المقصود ترتب المقاصد الشرعية على الفعل، وهذه الجماعات تغفل شرطي الاستطاعة واعتبار المآلات مع أنهما شرطان مهمَّان دلت عليهما الأدلة والقواعد الشرعية، وذكرهما أهل العلم في العديد مِن المواضع، وخاصة في باب السّياسة الشّرعية.

ففي الاستطاعة قال ابن تيمية في "منهاج السنة": "فالشّارع لا ينظر في الاستطاعة الشّرعية إلى مجرّد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعلُ ممكنًا مع المفسدة الرّاجحة لم تكن هذه استطاعةً شرعيّةً، كالذي يقدر أن يحج مع ضررٍ يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلّي قائمًا مع زيادة مرضه، أو يصوم الشّهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك".

وفي المآلات قال الشاطبي في "الموافقات": "النّظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصودٌ شرعًا كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفةً، وذلك أنّ المجتهد لا يَحكم على فعلٍ مِن الأفعال الصّادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعلُ مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُستجلب، أو لمفسدة تُدرأ".

والنظر لمآل هذه العمليات في البلدان الإسلامية والغربية لا يرى إلا الدمار والخراب والقتل المجرد، ثم لا تلبث أن تعود على المسلمين بأبشع الآثار والنتائج من قتل، وإسقاط دول، واحتلال أخرى، وحصار، وتضييق على الأعمال الدعوية، والخيرية، وهذه العمليات لا بد من النظر في مآلاتها وعواقبها، وما تجرّه على المسلمين مِن ويلاتٍ ودمارٍ، ولا يكفي فيها زعم الصّدعِ بكلمة الحقِّ، أو الجهاد، وسيأتي مزيد تفصيلٍ لها.

بل ربّما كانت بعض تلك الدول محتاجة إلى مثل هذه الأعمال لتحقيق بعض مآربها، وإنفاذ بعض سياساتها، فتغض الطرف عن المنفذين وتحركاتهم حتى تقدم لهم هذه الأعمال لها مطلوبها.. كما هو مشاهد.

2- أما الاستدلال على مشروعية القيام بأمثال هذه العمليات بأنَّ الشخص قد قام بالمطلوب منه وهو الإثخان في العدو أو التسبب بخسارتهم، وإن لم تكن النتائج كاملة، فهذا كلام باطلٌ شرعًا، وغير صحيح واقعًا، وقائله جاهل بأصول الجهاد، والسياسة الشرعية؛ فالجهاد وأحكامه ومآلاته لا تعلق لها بشخص المقاتل فحسب، بل بسائر المسلمين.

3- الأوامر الشرعية مرتبطة بمصالحها ومقاصدها؛ فمتى ما حققت المصالح المرجوة منها كانت مشروعة، وإلا فهي غير مشروعة، قال الشاطبي في "الموافقات": "ما ثبت أن الأحكام شُرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها كما تبيّن، فإذا كان الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقًا والمصلحة مخالفة: فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة [لأنفسها]، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها؛ فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع؛ فليس على وضع المشروعات".

والقتال من ذلك؛ فإذا ترتب على القتال مفاسد أكبر من المصالح المتوقعة منه، أو أنه تسبب بضياع مصالح أعلى، فيكون القتال حينها ممنوعًا، ومن أقوال أهل العلم في ذلك: قول ابن حجر في "فتح الباري":" وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرّح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك، أو يجرئ المسلمين عليهم، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن، ومتى كان مجرد تهور فممنوع، ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين".

وقال الصاوي في "حاشيته": "الجواز المذكور [أي جواز إقدام الرجل المسلم على كثير من الكفار] بشرطين: أحدهما: قصد نصر دين الله بأن لا يكون قصده إظهار شجاعة ولا طمعًا في غنيمة، ثانيهما: أن يعلم أو يغلب على ظنه نكايته لهم، وإلا لم يجز، وإن مات يكون عاصياً وإن كان شهيداً ظاهراً".

وقال العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام": "فإذا لم تحصل النكاية، وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيّها مصلحة".

4- الناظر لمآلات هذه العمليات ونتائجها، يرى أنَّ الجماعات تقوم بالعمليات منذ عشرات السنين ولم يترتب عليها إلا كل مفسدةٍ ومضرة، وكل ما تذكره هذه الجماعات عن النكاية في الأعداء غير صحيح، فمن مصر إلى الجزائر إلى أوربا والعديد من الدول الإسلامية ثم أمريكا: لم يترتب عليها سقوط دولة، ولا دفع احتلال عن المسلمين، ولا هزيمة جيش، بل جاءت بعكس ذلك تمامًا.

فغالب من قتل في هذه العمليات من الكفار من غير المقاتلين الذين لا يجوز استهدافهم، ولا أثر على دولهم من قتلهم ولا قتل أضعافهم، بل قد يضحون ببعض أبنائهم ومواطنيهم لأجل أهدافٍ أعلى وأكبر، كحادثة مقتل السفير الأمريكي في باكستان.

كما أن غالب القتلى في بلاد المسلمين كانوا من غير المقاتلين، بل من الآمنين من المسلمين وغيرهم، كما هو في العراق والسعودية مثلاً، ففي العراق انتهجت (دولة العراق الإسلامية) التفجير في حسينيات الشيعة، وأسواقهم، وتجمعاتهم الدينية، كما ذكر ذلك الظواهري في مراسلاته مع أبي بكر البغدادي، بالإضافة للقتلى في صفوف أهل السنة (تترسًا) بذريعة قتل (المرتدي) من الشرطة والصحوات.

وفي السعودية سقط في التفجيرات أكثر من 250 ضحية، حوالي 50 منهم فقط من الكفار، والبقية مسلمون قتلوا تترسًا!

ولو فرضنا أنه حصل في هذه العمليات قتل بضع مئات من الأعداء فإن ما قتل من المسلمين في مقابلهم عشرات أضعافهم، واحتلت بلادهم ودمرت، وانتهكت أعراضهم، وهجرت ملايين منهم، وحدثت تغييرات على الأرض لصالح المحتلين، ولا يمكن لعاقل أن يقارن بين هاتين الخسارتين.

فتفجيرات 11 أيلول / سبتمبر مثلاً جرَّت على المسلمين إسقاط إمارة طالبان، واحتلال أفغانستان، والعراق، وتسلّط الرافضة والتمكين لهم مكافأة لهم على تواطئهم مع الأعداء، وإن كان قد قتل في هذه الهجمات قرابة 3000 شخص، فقد قامت قوات التحالف في عملية واحدة بقتل 3000 أسير من الطالبان عبر جمعهم في حاويات كبيرة أثناء نقلهم عبر الصحراء، وإطلاق النار عليهم، فماتوا نزيفًا، وعطشًا بعد ثلاثة أيام، فيما عرف بقافلة الموت.. 

وكان أشدّ آثار هذه العمليات ما جرته من وبالٍ على المسلمين دينيًا، ودعويًا، وماليًا، فقد حوصرت الدعوة إلى الله، وأغلقت عشرات المؤسسات الدعوية في الدول الغربية والإسلامية، والإعلامية، والإغاثية، ونُحي مئات الدعاة والعلماء عن مراكز التعليم والتأثير في المجتمعات، وغُيرت المناهج التعليمية في الكثير من البلدان، وتسلط التغريب والإفساد على تلك البلاد، مما أثر على أجيال كاملة بعشرات الملايين.

كما أثرت هذه العمليات على عامة الناس؛ حيث إن أفعال هذه الجماعات زهَّدت الناس في الدين والشرع؛ لذا فإنَّ لا يخفى على الباحث والمراقب، بل عامة الناس ظهور موجات البعد عن الدين، بل الإلحاد في المجتمعات التي مرت بتجارب هذه الجماعات.

وقد استغل أعداء الدين هذه العمليات لتشويه الدين، والطعن فيه بكافة الوسائل، واستغل موجة السخط من عامة الناس لتقديم البدائل العلمانية أو المحلدة للمجتمعات.

5- بدعة استجلاب الأعداء:

مِن أخطر آثار هذه العمليات بدعة أشدّ خطرًا منها، وأعظم جرمًا، وهي دعوى القيام بهذه العمليات لاستجلاب الأعداء لبلاد المسلمين لقتالهم وإنزال الخسارة بهم، كما يزعمون.

وعلى الرغم من فشل هذه الطريقة في القتال، وظهور عدم جدواها في العديد من التجارب، إلا أنها محرمة شرعًا، بل هي من أعظم المخالفات الشّرعية، والكوارث التي يمكن أن تحل ببلاد المسلمين، وذلك لما يلي:

أ / جلب الحرب والخراب لبلاد المسلمين، مخالفة للأمر الشرعي الصريح الواضح بالدفاع عن بلاد المسلمين، وتجنيبها الأعداء، وقد بذل النبي ? للدفاع عن المدينة جهده تارة بالخروج للقتال، وتارة بحفر الخندق، وتارة بعقد الهدن والمصالحات، فاستجلابُ الكفّار يتضمّن تسليطهم على رقاب المسلمين بالقتل، وعلى أموالهم بالنهب، وعلى أعراضهم بالهتك، وعلى بلادهم بالتّدمير، ثمّ تكون المعركة أكبر مِن أولئك الأغرار فينحازون إلى الجبال والكهوف أو يهربون إلى بلادٍ أخرى، ويتركون المسلمين لمصيرهم! مع سلامةِ بلاد الكفار مِن كوارث هذه الحروب.

ب / مخالفة الأمر النبوي في عدم استجلاب الحرب ودفعها:

- قال ?: (أيّها النّاسُ، لا تتمنّوا لقاء العدوّ ، وسَلوا الله العافيةَ، فإذا لقيتموهم فاصبروا) رواه البخاري، ومسلم.

قال المازري في "المعلم بفوائد مسلم": "المراد بهذا أي لا تَستهينوا بالعدوّ فتتركوا الحذر والتحفّظ على أنفسكم وعلى المسلمين، أو يكون لا تتمنّوا لقاءه على حالة يشكّ في غلبته لكم، أو يخاف منه أن يستبيح الحريم، أو يُذهب الأنفس والأموال أو يُدرَك منه ضررٌ" .

- وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لمؤمنٍ أنْ يذلَ نفسَه، قالوا : وكيف يذلُ نفسَه؟ قال : يتعرّض مِن البلاء لما لا يطيق) أخرجه الترمذي، وغيره.

وليس هناك أعظم من تعريض البلاد بأهلها، ودينها، وأخلاقها، وخيراتها للعدو المحتل الغاصب، كيف وقد عُدَّت أزمنة الاحتلال الصليبي لبلاد المسلمين، ثم الاستعمار الحديث من أعظم البلايا التي نزلت بالمسلمين؟

وإذا كانت هذه الجماعات تشدد على أنَّ إعانة الكافرِ على المسلمِ بأي إعانة كفرٌ أكبر مخرجٌ من الملة، فكيف بتسليط الكفار على المسلمين، وتمكينهم من أرضهم، وتعريضهم للقتل، وانتهاك الأعراض، وضياع الثروات، وتغييرِ هويةِ البلاد؟ لا شك أنَّ ذلك أشدّ مِن مجرد إعانة الكفار على المسلمين! 

وبالنظر لكل ما سبق فإنَّه لا يسع إلا الأخذ بما قررته الأصول العامة في الشريعة الإسلامية من (درء المفاسد مقدَمٌ على جلب المصالح) على فرض أنَّ في هذه العلميات مصالح، وبما قرره أهل العلم أنه ‏"ليس ‏كلُّ سببٍ نال به الإنسان حاجتَه يكون مشروعًا ولا مباحًا، وإنما يكون مشروعًا ‏إذا غلبت ‏مصلحته على مفسدته ممَّا أَذِن فيه الشرعُ".‏

 ولو لم يكن في هذه العمليات إلا عدم الاحتراز من استهداف مَن لا يجوز قتله، فهي محرمة لدخولها في قول الرسول ‏صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي، ‏يَضْرِبُ بَرّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَ مِنْ ‏مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا؛ فَلَيْسَ مِنِّي) رواه مسلم‏.‏

بالإضافة إلى أنَّ فيها انتهاكًا لممتلكات محترمة شرعًا -كليّا أو جزئيّا- تعود ‏لمعصومين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ‏كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا) متفق عليه.‏

*                  *                    *

 

اجتهادٌ مأجور!

على الرغم من وضوح الحكم الشرعي في هذه المسألة، وتكرر فشلها مراتٍ ومرات، وترتب الكثير من الضحايا والخراب في بلاد المسلمين عبر عشرات السنين، إلا أن المصيبة أن تعتبر هذه الجرائم من قبيل الاجتهاد في الجهاد الذي ينال فاعله الأجر، ولا يحق لأحد نقده أو الاعتراض عليه لأنه مجاهد مجتهد قد أدى ما عليه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين