جهاد لا إفساد- 2-

 

توطئة:

تبنت عدد من الجماعات في السنوات المتأخرة عمليات تفجيرية طالت تجمعات الناس في مدنهم، وأسواقهم، وسكنهم، ووسائل مواصلاتهم، كما طالت الفنادق، والمستشفيات، والسفارات، بل وصلت حتى إلى المساجد، لم تفرق في ذلك بين مسلم من أهل السنة، وشيعي و كافر، ولم تفرق بين عسكري وغير مقاتل، سواء في بلاد المسلمين، أم الكفار، تحت شعار الجهاد والإثخان في أعداء الدين..

فما حكم هذه العمليات في الشرع؟

 

(3)

 

مقدمات مختصرة بين يدي هذه العمليات:

1- لا يشك منصف أن للدول الغربية جرائم كبيرة في حق المسلمين خصوصًا وفي حق البشرية عمومًا على مدى عقود من الزمن، وهي جرائم لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، لم تتوقف منذ أيام الاستعمار في القرن الميلادي السابق إلى الوقت الحالي، وبعض هذه الجرائم مباشر كالاستعمار والقتل، وبعضها غير مباشر بالتفريق بين المسلمين والكيد لهم، وسلب ثرواتهم، والإبقاء على النزاع والقتال وتسلط الحكام الظلمة عليهم.

 فلا بد من التصدي لهذه الجرائم بالفضح والبيان، ودفع المعتدين وجهادهم، والعمل على تحصيل ما ترتب عليها من حقوق بمختلف الوسائل، بحسب كل حالة.

2- اختار بعض المسلمين القيام بعمليات تفجيرية موجهة ضد أهدافٍ لهذه الدول سواء كانت في بلادهم أو في بلاد المسلمين، وضد من يعتقدون تبعيتها لهم من الحكومات في بلاد المسلمين  وأجهزتها والعاملين فيها.

فلا عامة يلزم المسلمين التبرؤ من كل عملية من هذه العمليات، أو بيان موقف منها، فمن يقوم بها لم يستأذنهم، ولا يهتم لرأيهم، بل إنه يعتبرهم أهدافًا مشروعة له كما سيأتي، لكن يلزم أهل العلم توضيح الموقف الشرعي من هذه العمليات عمومًا؛ بيانًا للحق، وتوضيحًا لأحكام الجهاد والدفاع عن النفس؛ وحماية للشباب من الانخراط في مثل هذه الأعمال. 

3- عند الحديث عن مثل هذه العمليات لا بد من الحذر من طغيان جانب على آخر، فليس من العدل ولا المروءة –فضلاً عن الجواز- المبالغة في إظهار التحسر والتألم على ما يصيب هذه الدول وأفرادها جرّاء هذه العمليات، مع الصمت أو الخجل في إظهار جرائمها في حق المسلمين، وأشد من ذلك المبالغة في نفي تهمة الإرهاب عن المسلمين إلى حدَّ الطعن في بعض شرائع الإسلام، أو المطالبة بإعادة النظر في بعض أحكامها، كحصر الجهاد بالدفع فحسب، ونفي جهاد الطلب.

4- كما أنَّ بيان الحكم الشرعي لهذه العمليات لا يعني –كما يظن البعض- الاستسلام للأعداء، أو الطغاة، أو تشريع باطلهم، أو القعود عن نصرة الدين والمستضعفين، بل هذا من أوجب الواجبات، وله مواطنه الخاصة ببيانه وبحثه.

 

*                  *                    *

(4)

شبهات القيام بهذه العمليات:

تستدل هذه الجماعات على جواز عمليات التفجير هذه بمجموعة من الاستدلالات تتلخص فيما يلي:

1- أنَّ ردّ عدوان الكفار المعتدين بالمثل مشروع، وبما أن هؤلاء الأعداء يقتلون نساءنا وأطفالنا وغير المقاتلين منا فيجوز لنا قتل نسائهم وأطفالهم ومن ليس من أهل القتال منهم، عملاً بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ َ}، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}.

2- أنَّ من يقتل في هذه العمليات ممن ليس أهلاً للقتال فهو من التّبييت أو التّرس الذين يجوز قتلهم.

3- جاء في حديث الذين يغزون الكعبة فيهلكهم الله مع أنَّ فيهم من ليس من المحاربين المقاتلين من الخدم وغيرهم قوله صلى الله عليه وسلم: (يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) رواه البخاري، ومسلم، فهؤلاء الذين يقتلون في هذه العلميات من هذا الباب، وإن كانوا مظلومين فنسأل الله أن يعوضهم في الآخرة.

4- يجوز القيام بهذه العمليات في الكفار سواء كانوا في بلادهم أو بلاد المسلمين لأنهم محاربون قد نقضوا عهدهم وأمانهم مع المسلمين، ولا شيء يمنع من استهدافهم بأي نوع من أنواع العمليات.

5- تفجير السفارات خصوصًا وقتل سفراء دول الكفار جائز؛ لأنها أصبحت محل تآمر ضد الإسلام والمسلمين، ووكرًا للأعداء تدار منه مؤامراتهم ومخططاتهم.

6- التفجير في الشرطة والعساكر في البلاد الإسلامية هو قتل للمرتدين، وقتل المرتدين جائز.

7- أن في هذه الأعمال نكاية بالأعداء، والنكاية بالأعداء مشروعة.

مع التنبُّه إلى ما يلي: 

ليس لهذه الجماعات في عملياتها دليل صحيح صريح من كتاب أو سنة، أو قول معتبرٍ لأهل العلم، وغاية عملهم في مصنفاتهم: جمع الكثير من النصوص الشرعية وكلام أهل العلم في مسألة ما، ثم تنزيلها على المسألة التي يبحثونها ويلتمسون لها الدليل بالقياس، أو دخولها في الدليل من باب أولى، حسب رأيهم.

وأكثر استدلالاتهم في أصل المسائل التي يعرضون لها صحيح شرعًا، لكن دخل عليه الخطأ في فهمها، أو تنزيلها على أفراد المسائل المبحوثة؛ لذا فإن الحديث لا ينصب على نقاش أصول هذه المسائل.

وسبب وقوعهم في هذا الغلط: أنهم قطعوا ارتباطهم بأهل العلم بعد أن أسقطوهم ورموهم بالعمالة للطواغيت، فخاضوا في المسائل العظيمة -مع قلة بضاعتهم في العلم- التي يتوقف فيها الراسخون من أهل العلم والفتيا، ويُجمع لمثلها أهل بدر! 

وفيما يلي الإجابة عن هذه الشبهات:

أولاً: قولهم: ردّ عدوان الكفار المعتدين بالمثل مشروع، وبما أن هؤلاء الأعداء يقتلون نساءنا وأطفالنا وغير المقاتلين منا فيجوز لنا قتل نسائهم وأطفالهم ومن ليس من أهل القتال منهم:

ويجاب عن ذلك بما يلي:

ردّ العدوان مشروع في الإسلام، وهو من أعظم الجهاد في سبيل الله، وهو قائم في الأمة منذ عقود، وبمشاركة أهل العلم وتوجيههم، وأحكامه مبثوثة في كتبهم معلومة، ومن أحكامه: أن ردَّ الاعتداء يكون بوسائل مشروعة.

فردُّ العدوان والمماثلة في العقوبة ليست على إطلاقها، بل هي مشروطة في الشرع بشروط، من أهمها:

1- أن يقتصر الردّ على مقدار العدوان دون زيادة؛ لذا فإن الجنايات التي يمكن القصاص فيها دون حيف: يجوز القصاص فيها، أما الجنايات التي لا يمكن فيها القصاص دون تعدٍ على مقدار الاعتداء كالجروح، والكسور، فليس فيها قصاص، بل ينتقل للدية أو الأرش (التعويض).

وهكذا فإنَّ قَتل من ليس من أهل القتال، ومن لم يشترك فيه: هو من الزيادة في رد العدوان؛ فيكون غير جائز.

 2- ردُّ العدوان والمماثلة في العقوبة على الجناية تكون مع الجاني نفسه لا غيره، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}، وجميع نصوص رد العدوان هي في الاقتصاص من الجاني نفسه، ولا يراد منها الاعتداء على غيره.

قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33]، قال ابن كثير في "تفسيره": " فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل". 

كما استدل أهل العلم بنصوص ردِّ العدوان والمماثلة في العقوبة على قتل الجاني بمثل ما قتل ما لم يكن ذلك معصية، فمن قتل شخصًا تغريقًا أو خنقاً أو بحجر فإنه يُقتل بمثل فعله. 

أما من لم يكن من أهل القتال والاعتداء فليس محلاً لردّ العدوان أو القصاص، ولا يجوز التعدي عليه كما سبق في بيان شروط قتل غير المحاربين (ينظر مقال: جهاد لا إفساد- 1/2).

3- ردُّ العدوان مشروطٌ بألا يشتمل على معصية أو محرم، وليس على إطلاقه.

قال ابن قدامة في "المغني:" "وإن قتله بما لا يحل لِعينِه [أي لطريقة القتل عينها]، مثل إن لاطَ به فقتله، أو جرّعه خمراً أو سحره، لم يقتل بمثله اتفاقاً، ويعدل إلى القتل بالسيف..".

وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": "وقوله: (وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُكَافَأَةُ الْخَائِنِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ فَيَكُونُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}".

وقتل من ليس من أهل القتال من النساء والأطفال وغيرهم منهيٌ عليه في الشرع، فيكون الاعتداء عليهم معصيةً لا جهادًا.

استدلال وإجابة:

استدل الظواهري في كتابه "التبرئة" على جواز القيام بمثل هذه العمليات بجواز تخريب بلدان الكفار بمثل ما يخربون به بلادنا، فقال: "يجوز أن يخرب من بلاد العدو مثل ما خرب من بلاد المسلمين" ثم نقل كلام العلماء في جواز إتلاف زروع وثمار الكفار ودوابهم أثناء الحرب.

وهذا الكلام باطل؛ فالمسألة ليست في إتلاف الزروع والثمار والبنيان، فهذا جائز في حال الحاجة إليه كما دلت عليه نصوص الشرع وأقوال أهل العلم، لكن المسألة في قتل الساكنين لهذه المباني والأماكن، والفرق بين الأمرين ظاهر.

كما أنَّ من أشد ما صدر في هذه المسألة فتوى عمر عثمان (أبو قتادة الفلسطيني) باسم (فتوى كبيرة الشأن في جواز قتل الذرية والنسوان درءًا لخطر هتك الأعراض وقتل الإخوان) ونشرتها مجلة الأنصار التابعة للجماعة الإسلامية في الجزائر (الجيا)، بتاريخ شوال 145- 3 / 1995م، حيث أجاز (قتل نساء وأطفال عساكر الدولة الجزائرية المرتدين)، مستدلاً بجواز قتل نساء وذرية المشركين بالتبييت والتترس، فقال: "إذا تبين لنا هذا وعلمنا سابقًا جواز قتل الذرية والنساء توصلاً لقتل الرجال المقاتلة، فإن من باب أولى جواز قتل هذه الذرية وقتل النساء توصلاً لمنع قتل المسلمين بل المجاهدين، وهتك أعراض المسلمات.

 فحقيقة المسالة أننا إن لم نستطع منع المرتدين من قتل أسارى  المسلمين من مدنيين وغيرهم إلا بتهديد هؤلاء المرتدين بقتل نسائهم وأبنائهم فهو جائز إن لم يكن واجبًا، وكذلك إن لم نستطع منع المرتدين من انتهاك أعراض المسلمين  والتلعب بالنساء إلا بتهديدهم بقتل ذريتهم ونسائهم فهو جائز ولا شك إن لم يكن واجبًا؛ إذ أن مصلحه إحياء المسلمين وحفظ أعراضهم أشد وأهم من التوصل إلى قتل المرتدين  بتترسهم بنسائهم وأبنائهم"( ).

 

*                  *                    *

(5)

ثانيًا: قالوا: يجوز قتل التّرس ممن ليس أهلاً للقتال في مثل هذه العمليات:

ويجاب عن ذلك بما يلي:

التّترس الذي وردت به نصوص الشريعة، وأقوال أهل العلم هو: أن يمتنع العدو بغير المقاتلين من مسلمين وغيرهم، ويتخذهم دروعاً بشرية، مثل: أن يهجمَ العدوُّ على المسلمين هجوماً يُؤدي إلى استئصالهم وهو يتترس بهؤلاء غير المقاتلين، فلا يستطيع المجاهدون الدفاع عن أنفسهم إلا بإصابة هذا الترس، أو أن يكون المجاهدون في حال التحام مع العدو في القتال، فيتترس العدو بمن لا يجوز قتلُهم، وبذلك لا يَقْدِرُ المسلمون على قتالهم إلا بإصابة هؤلاء المُتَتَرس بهم، فأجاز أهل العلم إصابة هؤلاء الترس يمكن إجمالها في شرطين:

1- أن يكون ذلك لضرورة، بحيث لا يمكن الوصول للأعداء أو دفعهم إلا إذا أصابوا الترس، وإذا ترك قتال الأعداء خيف من ضرر أعظم على المسلمين.

2- تحاشي ضرب الترس ما أمكن، وقد سبق (ينظر جهاد لا إفساد- 1/2).

أما ما تذكره هذه الجماعات من أحكام التترس في جواز عملياتها التفجيرية فهو عكس التترس المشروع، ويناقض الأدلة الشرعية وأقوال أهل العلم، وهو من بدع هذا الزمان التي أفتى عامة أهل العلم بتحريمها وتجريمها.

حيث إن هذه الجماعات تقول بجواز استهداف الأعداء أينما كانوا، ولو قتل معهم من غير المقاتلين المختلطين بهم من قتل، سواء كان هذا الاختلاط بسبب وجود ثكنات الجنود أو حواجزهم أو دورياتهم في الأحياء، أو بالقرب منها، ويعدون من قتل منهم ترسًا، والفرق بين الصورتين كبير:

1- فالتترس الذي ذكره الفقهاء هو ما كان في ساحة المعركة هجومًا أو دفاعًا.

أما هذه التفجيرات: فإنها تستهدف الجنود في ثكناتهم أو دورياتهم، أو حواجزهم في غير وقت القتال أو التحام الصفوف.

بل إن جمهور أهل العلم قد منع قتال العدو في إذا تترسوا بالمسلمين في غير التحام، فكيف بمن يقتل هؤلاء المستهدفين بغير معركة،  فضلاً عن وجود التحام صفوف، وغالب ضحاياه من المسلمين؟

2- في التترس الذي ذكره الفقهاء: اتخذ الجنود غير المقاتلين ترسًا يحتمون بهم وأكرهوهم على ذلك، فوجودهم بين المقاتلين بينهم طارئ غير معهود ولا أصلي.

أما هذه العمليات: فإنها تستهدف الجنود في قواعدهم وثكناتهم الخاصة بهم، أو في نقاط تفتيشهم، وغير المقاتلين آمنون في حياتهم المعتادة، غير مختطفين ولا مرغمين، ووجود مقرات الجنود أو دورياتهم بين السكان لا يجعل السكان ترسًا حقيقة ولا عرفاً، فوجود الجنود بين السكان أمر شائع ومتعارفٌ عليه.

3- الأصل المتقرر عند الفقهاء القائلين بجواز رمي الترس أنَّه لا يجوز رميهم إلا في حال الضرورة استثناء من تحريم الاستهداف، وأن يتقى ضرب الترس ما أمكن.

أما هذه العلميات فلا ضرورة شرعية فيها؛ لأن جنود الأعداء موجودون منتشرون في كافة أراضي وطرق البلاد، وثكناتهم وأماكنهم معروفة، وهناك طرق كثيرة لاستهدافهم وقتلهم، كما هو معلوم ومشاهد من ساحات الجهاد المختلفة، وعمليات المجاهدين فيها.

أما العمليات الموجهة لغير المقاتلين بالأصل فليست من التترس في شيء؛ لأنها موجهةٌ لهم بالأصالة لا التبع. 

استدلال وإجابة:

عند النظر في استدلالات هذه الجماعات نجدها خالية من أي دليل شرعي صحيح، وبتقعيدات وتقريرات غاية في الخطورة والانحراف، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره حسن قائد (أبو يحيى الليبي) في كتابه "التترس في الجهاد المعاصر" والذي أصَّل لهذا (التترس المقلوب) حيث:

1- اعتبر المسلمين المقيمين في بلاد الكفار من الترس الذين يجوز استهدافهم أثناء استهداف هذه الدول، قال: "أن يكون ضمن حصن من حصون الكافرين، أو قلعة من قلاعهم بعض المسلمين من التجار أو من أسلم ولم يهاجر أو غيرهم، بحيث يكون وجودهم في ذلك الموطن وبقاؤهم فيه اختيارياً، بمعنى أن الكفار لم يقصدوا اتخاذ من هو بينهم من المسلمين ترساً يتقون به هجمات وضربات جيوش المسلمين، وإنما وقع وجود التجار المسلمين ونحوهم بين الكافرين اتفاقاً، إلا أن رمي الكفار بما يعم يؤدي قطعاً أو بغلبة الظن إلى إصابة أو قتل من يوجد بينهم من المسلمين، وهذه الصورة أكثر وقوعاً في جهاد الطلب".

ثم استدل على جواز هذه الصورة بأدلة نصب المنجانيق ورمي الكفار بما يعم.

وفي هذا الكلام غلط من وجوه:

أ /  وجود المسلمين في بلاد الكفار لا يبيح دماءهم، بل دماؤهم معصومة محرمة، ولو كانت إقامتهم محرمة في بلاد الكفار، فهم باقون على هذا الأصل لا يتغير.

ب / في الاستدلال خلط بين مسألة الترس بمسألة رمي الكفار بما يعم من أسلحة، فالرمي بما يعم يكون في حال الحرب القائمة بين المسلمين والكفار، ولا يستطيع المسلمون هزيمة الأعداء، أو فتح البلاد، فيجوز لهم رمي الأعداء بما يعم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بنصب المنجنيق على الطائف، وقاس عليه أهل العلم الأسلحة المعاصرة من القاذفات والقنابل والصواريخ، ونحوها، فمن قتل من غير المقاتلين أثناء ذلك  فلا شيء فيه، وهذا من طبائع الحروب ولوازمها.

 أما التترس فمسألة أخرى تقوم على إكراه غير المقاتلين على الوجود في أماكن المقاتلين احتماءً بهم.

ج / هذه العمليات لا تستهدف جنود الأعداء أو معسكراتهم، بل هي تستهدف غير المقاتلين بالأصل، ولا وجود فيها لامتناع الجنود، ولا وتحصنهم. 

د / أن هذا (التترس) هو عكس مسألة الترس الشرعية، والإخلال بشرط الاضطرار فيها.

وهو بهذا الاستدلال قد أباح دماء جميع المسلمين الآمنين في بلاد الكفار بزعم التترس!

2- اعتبر أنَّ المسلمين في بلاد المسلمين من الترس الذين يجوز قتلهم أثناء استهداف الأعداء المحتلين للبلاد الإسلامية، أو جنود حكوماتها (المرتدين)، حيث قال: "مما لا شك فيه أن أضرار تسلط الكفار على بلدان المسلمين شرقاً وغرباً قد بدت جلية يراها الأعمى فضلاً على البصير، وأن شرهم المستطير قد نال كل أبواب الشريعة، ولحق سائر فروعها وأصولها... هذا سوى البلدان التي علاها الحكام المرتدون ونُصِّبوا على أهليها واستأصلوا شأفة الشريعة ...

 فما ينبغي للمسلم الصادق المستبصر أن يماري إطلاقاً في قيام عظائم المفاسد وفدائح المضار وكبائر الرزايا من جراء تسلط الكفار على ديار المسلمين سواء تسلطاً مباشراً كما هو الحال في الديار التي داهمتها الجيوش الكافرة السافرة أم كان تسلطهم عبر وكلائهم وعملائهم ... فهذه الجيوش المحتلة وأعوانهم المرتدون هم عدو صائل لا ريب فيه، وهم مفسدون للدين والدنيا ظاهرا وباطناً ومهلكون للحرث والنسل...

فهذا وغيره كثير يدلنا دلالة قطعية أن المفاسد والمضار التي ألمح إليها الفقهاء في مسألة التترس، وجوَّزا لأجلها رمي الترس وإن أدى إلى قتل من يقتل من المسلمين: كلها قائمة وموجودة شائعة ذائعة تزداد يوماً بعد يوم وتتنوع صورها حينًا بعد حين ... 

يصعب تحديد صور التترس المعاصرة وحصرها في حالات معينة محدودة كالتي ذكرها الفقهاء قديماً، لا سيما مع وجود العدو وسُكناهم بين المسلمين، وإقامتهم لمعسكراتهم ومراكزهم وقواعدهم في أحيائهم، وتنقلهم في طرقاتهم وتعاملهم معهم واختلاطهم بهم اختلاطاً شبه متكامل، وغدت المدن والقرى والأسواق المأهولة بالسكان هي أهم ساحات معاركهم ضد المجاهدين قصفاً واشتباكات وكمائن، وأصبحت مطارداتهم للمجاهدين واعتقالهم لأهليهم ومناصريهم لا يكاد ينفك عنها مكان ولا ينقطع زمان".

فبما أن الدول الإسلامية تعيش إما تحت حكم الاحتلال، أو حكومات مرتدة، فجميع هذه الدول أرض معركة لهذه الجماعات، وجميع المسلمين فيها ترس لضرورة الجهاد!

وبمثل ذلك استدل الظواهري في كتابه "التبرئة" حيث أجاز هذه العمليات من عدة أوجه:

فقد ذكر حديث تبييت المشركين ثم قال: " فإن هذا الحديث يدل على أن النساء والصبيان ومن لا يجوز قتله منفردًا يجوز قتلهم إذا كانوا مختلطين بغيرهم ولم يمكن التمييز، لأنهم سألوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن البيات وهو الهجوم ليلاً، و البيات لا يمكن فيه التمييز، فأذن بذلك لأنه يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالاً.

الوجه الثاني: أن القادة المسلمين كانوا يستعملون في حروبهم مع الكفار ضربهم بالمنجنيق. ومعلوم أن المنجنيق إذا ضرب لا يفرق بين مقاتل وغيره، وقد يصيب من يسميهم هؤلاء بالأبرياء، ومع ذلك جرت سنة المسلمين في الحروب عليه...

الوجه الثالث : أن فقهاء المسلمين أجازوا قتل (الترس) من المسلمين إذا كانوا أسرى في يد الكفار وجعل الكفار هؤلاء المسلمين ترسًا يقيهم نبال المسلمين ...".

ثم خصص فصلين كاملين في الاستدلال على مسألتي الترس، والبيات، ونقل أقوال أهل العلم فيهما، وهما مسألتان لا خلاف في مشروعيتهما من حيث الجملة، بل وقع الخطأ في تنزيل الاستدلال بهما على واقع مختلف، وخلط المسائل وإدخالها ببعض. 

وبمثل هذه التعسفات في الاستدلال والتقعيد أصبح المسلمون في جميع بلاد العالم (إسلامية وكافرة) ترسًا لهذه الجماعات يجوز استهدافهم في أي مكان كانوا: بيوتهم، أسواقهم، أعمالهم، مدارسهم ...إلخ؛ لزعم زعم ضرب أعداء الدين من المحتلين أو (المرتدين)، فانتهكت حرمات البلاد، واستبيحت دماء المسلمين والآمنين، وانتشر القتل والتفجير فيها.

وكان أعداد قتلى المسلمين فيها أضعاف قتلى الأعداء المستهدفين، وسيأتي الحديث عنه.

 

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين