جهاد الشيخ العـلامة محمد بدر الدين الحسني نموذجاً للعالم الرباني

 

جهاد الشيخ العـلامة محمد بدر الدين الحسني

نموذجاً للعالم الرباني

(1267- 1354هـ = 1851- 1935م)

بقلم: د. طه محمد فارس

ولد الشيخ بدر الدين الحسني في وقت كانت فيه الخلافة العثمانية في أسوأ أحوالها، حيث دبَّ الضعف والوهن فيها، وانتشر الفساد في إدارتها، وعمَّت الفتن جميع أجزائها، وظهر توجه في بلاد الشام والعالم العربي يدعو إلى الانفصال عن الخلافة العثمانية، لاسيما بعدما حكمها الاتحاديون الطورانيون (الدونمة)، وحدث أن سقطت الخلافة العثمانية.

وقام ما سُمي بـ «الثورة العربية الكبرى» على يد الشريف حسين بن علي في مكة المكرمة، خديعة التحالف الغربي الأوروبي للعرب، وقُسِّمَ العالم العربي ووقع تحت الاحتلال، وكانت بلاد الشام من حصة فرنسا([1]).

نأى الشيخ بنفسه عن التقرب إلى السلطان أو العمل في دواوينه، لأنه يعلم أنه لن يستطيع أن يقول كلمة الحق، فما كان يدخل ديوان الحكومة قط إلاّ لشفاعة أو مصلحة عامة، بل كان يرسل خواص تلاميذه لينوب عنه مما يريده الشيخ ويقضي حاجته([2]).

وكان يرى أن عزة الإسلام يجب التمسُّك بها، ولهذا عندما كان يأتيه سلطان أو والي أو ضابط جنرال لا يقوم له، فقد جاء إليه الجنرال الفرنسي غورو المندوب السامي الأول، فلم يقم له الشيخ([3]).

ولما زاره جمال باشا لم يقم له أيضاً، وحاول آنئذٍ أن يأخذ فتوى منه في إعدام من سموّا لاحقاً بـ «شهداء السادس من أيار» فرفض الشيخ ووعظه([4]).

وكذلك زاره أنور باشا أحد قادة تركية العثمانية في آخر عهدها فلم يقم له الشيخ فأحنى أنور على ركبة الشيخ يقبلها ويبكي، فدعا له الشيخ ثم أمره بإنصاف المظلومين وتفقد الرعية([5]).

وعندما أرسل السلطان عبد الحميد الثاني باخرةً للشيخ بدر يدعوه مع من أراد لمجتمع عنده ودعا له العلماء، لِمَا سَمع عنه من علمٍ وخُلق وزهدٍ وعبادة، فلما قرأ الكتاب المرسل إليه، قال للرسول: «يابا.. ما في إذن»، وعادت الباخرة من حيث أتت فارغة([6]).

وعندما وقعت بلاد الشام تحت الاحتلال الفرنسي، أعلن الشيخ الجهاد المقدس، حتى جلاء آخر جندي فرنسي عن البلاد، وجاب الولايات الشامية من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، برفقة تلميذيه العالمين القديرين الشيخ علي الدقر، والشيخ هاشم الخطيب، داعياً إلى الثورة على الاحتلال والاضطهاد الذي وقع على المسلمين، ومحرضاً على الجهاد والقتال بحماس منقطع النظير، فما لبث أن اندلعت الثورة السورية المسلمة، وكانوا يعدونه أبا الثورة السورية([7]).

كان الشيخ يجد في الشباب مصير الأمة ومستقبلها، فيجتمع بهم كما يجتمع بالوجهاء والشجعان، فيأتون إلى دار الحديث بكامل أسلحتهم فرساناً وركباناً، يودُّون أن يسلموا على الشيخ، فينزل من غرفته فيمرُّ بينهم، وهم مصطفّون أقساماً، على الخيول المطهّمة، ومشاةً مسلحين، يوجههم إلى تقوى الله عز وجل، ويدعوهم إلى طلب الفرج منه، والنصرة على أعدائهم، ثم يودعهم ويرجع إلى دار الحديث فيذهبون وقد أذكى الشيخ فيهم نار الحماس، وكان الشيخ يمدهم بالذخيرة والمؤن، وما يحتاجون إليه عن طريق بعض طلابه المخلصين([8]).

وكان على تواصل دائم بالثورة والمجاهدين، إذ كان المجاهدان حسن الخرَّاط، والشيخ محمد الأشمر (من أشهر قادة المجاهدين) يأتيان كل صباح قبيل الفجر ليقابلا الشيخ بدار الحديث فيوجههما التوجيه المفيد، ويربط قلبيهما بالله، فيزدادان ثقة بالله واتكالاً عليه.

كما كان يمدهما بالذخيرة والمؤن، وما يحتاجان إليه بطريق بعض طلابه المخلصين، وقد جعل الشيخ من يكون همزة وصل بينه وبين الثوار، فيقدم له بياناً يومياً عن نتائج معارك الغوطة المشهورة([9]).

وكان المجاهد حسن الخراط قد جعل محكمة للثوار يحاكم بها من أخطأ منهم، وكانت محكمة إسلامية شرعية، تحكم بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخذ من علماء مجاهدين قضاة لكي يقضي بالشريعة، وكان يُصدِّر حكمها باسم إمام المسلمين المحدِّث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني([10]).

وقد أثارت دعوة الشيخ للجهاد نقمة الفرنسيين وشعر المندوب السامي الفرنسي بالخطر، فجاء إلى دار الحديث فأدخل إلى غرفة فارغة وحده، وانتظر قريباً من نصف ساعة، فدخل عليه الشيخ البدر فقام له احتراماً، فطلب المندوب من الشيخ تهدئة الأوضاع، فأجابه الشيخ: لا تهدأ هذه الثورة إلاّ بخروجكم، وأنتم جئتم لتعليمنا وتثقيفنا فيما تزعمون، فقد تعلمنا وتثقفنا، فلم نعد نحتاج إلى شيء، فغضب المندوب السامي وخرج([11]).

هذا هو نموذج العَالـِمِ الرَّباني، الذي تعرفه ساحات الجهاد والوغى، كما تعرفه المحاريب والمساجد وحلق الذكر، لا انفصام ولا انفصال بين هذين المسارين، رغم أنف كل من يريد أن يصور على أن الإسلام لا يكون إلا في المساجد والمحاريب، وأنه لا سياسة في الإسلام ولا إسلام في السياسة.

 

 

 

 



([1]) المحدث الأكبر وإمام العصر ص12.

([2]) المحدث الأكبر وإمام العصر ص 59.

([3]) المحدث الأكبر  وإمام العصر ص117.

([4]) المحدث الأكبر وإمام العصر ص 122ـ 123.

([5]) المحدث الأكبر وإمام العصر ص 123.

([6]) المحدث الأكبر وإمام العصر ص125.

([7]) المحدث الأكبر وإمام العصر ص 129.

([8]) المحدث الأكبر وإمام العصر ص 130ـ 131.

([9]) المحدث الأكبر ص 136.

([10]) المحدث الأكبر لمحمد صالح الفرفور ص138.

([11]) عالم الأمة وزاهد العصر ص292؛ المحدث الأكبر وإمام العصر ص 135.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين