جلال الدين السيوطي

 

 

عالم جليل ، أملى على التاريخ آيات عبقريته بمحصوله العلمي الذي قد يكون فيه منقطع النظير بين أقرانه ولداته ، وبتآليفه التي زادت في كثرتها عن كل ما له في آفاق التأليف والتصنيف.

ترجم الشيخ لنفسه ترجمة وجيزة في كتابه : (حسن المحاضرة) فأغنانا بذلك عن كثير .

وأقيم بحثي هذا على أربعة أسس:

الأول : والده وأثره في حياته.

الثاني : بيئته العلمية وحالة الأزهر في أيامه.

الثالث : عبقريته.

الرابع: مؤلفاته.

والده وأثره في حياته:

ترجم الشيخ لوالده، فقال: "هو الشيخ كمال الدين أبو المناقب السيوطي ، الذي توفي وسنّ ولده جلال الدين ستة أعوام. وقد تأثر الولد بسيرة أبيه ميتاً أكثر ممَّا كان يتأثر بها حياً.

اشتغل ببلده أسيوط وتولى القضاء قبل قدومه إلى القاهرة ، وهذا يدلنا على أن مدارسة العلم في هذه الحقبة لم تكن قاصرة على الأزهر وإنما كانت في كثير من عواصم البلاد . كما هو الحال الآن ، ثم ذكر لنا كيف كانت أحوال أبيه بعد قدومه إلى القاهرة . حيث درس على كبار الشيوخ علوم الفقه والأصول والكلام والنحو والإعراب والمعاني والمنطق والحديث ، ثم يقول : (وأتقن علوماً جمَّة ، وبرع في كل فنونه . وأقرَّ له كل من رآه في صناعة الإنشاء وأذعن له فيه أهل عصره كافة. بل كان شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي في أوقات الحوادث يسأله في إنشاء خطبة تليق بذلك ليخطب بها في القلعة ثم يقول عن والده من الناحية الخلقية: وكان على جانب عظيم من الدين والتحري في الأحكام وعزة النفس والصيانة ، يغلب عليه حب الانفراد وعدم الاجتماع بالناس.

ثم عدد تآليفه في مختلف العلوم.

فقال : وله من التصانيف حاشية على شرح الألفيه لابن المصنف .. وحاشية على شرح العضد كتب يسيراً ، ورسالة في الإعراب وأجوبة على اعتراضات ابن المقرئ على الحاوي وله كتاب في التصريف ، وآخر في التوقيع.

هذه خلاصة وافية لما كتبه الشيخ جلال في ترجمة والده ، وقد أسلفت أنه تركه بالموت وهو في سن السادسة فكيف ـ وهذه هي الحال ـ كتب ترجمة أبيه المتوفى ، وكيف تأثر بحياته؟

إنه لم يشاهد من حالات والده إلا حالة واحدة ساعده على مشاهدتها أنه كان يقوم بها في منزله . أما غيرها فلم يشاهده فيها . هذه الحالة هي التي حدثنا عنها بقوله :(... مواظباً على قراءة القرآن ، يختم كل جمعة ختمة ، ولم أعرف من أحواله شيئاً بالمشاهدة إلا هذا).

وقد وجد عند والده كل آثاره العلميَّة والأدبيَّة فحبَّبه ذلك في الانقطاع لطلب العلم والأدب.

الأزهر في عهده:

ننتقل بعد ذلك إلى بيئة جلال الدين العلمية وحالة الأزهر وطلبته في عهده .

الحقبة التي انتسب فيها جلال الدين إلى الأزهر هي منتصف القرن التاسع الهجري .

وكان الأزهر في ذلك الوقت قد قطع في بعثه الجديد أشواطاً فإنه بعد أن عطله عن الحياة حساً ومعنى السلطان صلاح الدين الأيوبي ، ليزيل بذلك كل أثر للفاطميين ، واستبدل به مدارس تدرس فيها المذاهب الأربعة ـ بعد هذا جاء عهد السلطان الظاهر بيبرس من ملوك الجراكسة ، فقد ولى هذا السلطان ملك مصر عام 658هجرية، وكان ـ أوْلى ما عني به من الشؤون ـ بعث الأزهر بعثاً جديداً بترميمه بعد التهدمة وبإعداده ليكون معهداً علمياً تدرس فيه العلوم الدينيَّة ، كما تدرس فيه العلوم العقلية مثل ( المنطق ـ آداب البحث والمناظرة) أما علوم التاريخ والجبر والمقابلة والإنشاء والأدب ، فلم يكن لها نظام معين تدرسه ، فقد تدرس وقد لا تدرس ، وإذا رغبها طالب لم يرغب فيها طلبة.

لم يكن هناك مناهج ولا أوقات تضبط الدروس وتحدد أوقاتها . كما أن الطلبة كانوا أحراراً في كل شيء : في العلم الذي يختارونه.

وفي الشيخ الذي يحضرون عليه ، هذه الحرية في التحصيل هي التي مكنت الرعيل الذي كان فيه السيوطي من الإجادة والإتقان والتبحر في مختلف أنواع العلوم والفنون.

فكانوا أعلاماً نابهين .  أمثال السيوطي ، والعز بن عبد السلام ، والقرافي ، وابن هشام، والسبكي وأبناؤه ، وزكريا الأنصاري وغيرهم:

كما كان الزهد في المال ، طابعاً للطلبة يقول العلامة ابن دقيق العيد:

 

لعَمْري لقد قاسيتُ بالفقر شدَّة=وقعتُ بها في حَيْرة وشتات

فإن بحتُ بالشكوى هتكت مروءتي=وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي

فأعظم به من نازل بملمَّة= يزيل حياتي أو يزيل حياتي

عبقرية السيوطي:

إذا لم يكن الشيخ قد حدثنا في ترجمته لنفسه عما يدلنا على عبقريته ـ فإننا نستطيع الحكم عليها من غزارة مادته العلمية ، ووفرة مؤلفاته .

تحدث عن قوة حافظته فقال : (فحفظت القرآن ولي دون ثمان سنين ، ثم حفظت العمدة ومنهاج الفقه والأصول وألفية ابن مالك) حفظ كل هذه المحفوظات قبل أن ينقطع إلى طلب العلم بالأزهر كما حدثنا .

وتحدث عن تبحره في العوم وتعقمه في فهمها.

ورزقت التبحر في سبعة علوم : التفسير ، والحديث ، والفقه ، والنحو ، والمعاني ، والبيان ، والبديع... والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة ـ سوى الفقه ـ والنقول التي اطلعت عليها فيها لم يصل إليه ، ولا وقف عليه أحد من أشياخي ، فضلاً عمن هو دونهم... ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفاً بأقوالها وأدلتها الفعلية والقياسية ، ومداركها ونقوضها وأجوبتها ، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله...).

ويقول أيضاً : (وقد كملت عندي آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى).

ثم يقول في مقدمة كتابه : (المزهر في علوم اللغة).

(هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه ، واخترعت تنويعه وتبويبه ، وذلك في علوم اللغة وشروط أدائها وسماعها ، حاكيتُ به علوم الأحاديث في التقاسيم والأنواع ، وأثبت فيه بعجائب وغرائب حسنة الإبداع ، وقد كان كثير ممَّن تقدَّم يلم بأشياء من ذلك ويعتني في تمهيدها ببيان المسالك ، غير أن المجموع لم يسبقني إليه سابق ، ولا طرق سبيله قبلي طارق).

هذا ما كتبه الشيخ متفرقاً في ترجمته لنفسه ، وفي مقدمات بعض كتبه.

مؤلفات الشيخ:

يقول السيوطي رحمه الله تعالى : وقد بلغت مؤلفاتي للآن ثلاثمائة كتاب سوى ما غسلته ورجعت عنه.

ومن هذا العدد الكبير نعرف أنه كان سريع الكتابة إلى حد كبير ، وهو في إشراق الأسلوب ، ولا في متانة  التعبير ، و لا في إجادة الإنشاء .

إن الثلاثمائة كتاب التي ألفها السيوطي تدور في مدار العلوم الآتية كما ذكرها هو بتعبيراته:

1 ـ فن التفسير وتعلقاته والقراءات.

2 ـ فن الحديث وتعلقاته.

3 ـ فن الفقه وتعلقاته.

4 ـ الأجزاء المفردة ( وهي المؤلفات التي يتناول كل منها مسألة واحدة).

5 ـ فن العربية وتعلقاته.

6 ـ فن الأصول والبيان والتصوف.

7 ـ فن التاريخ والأدب.

هل درس السيوطي كل هذه العلوم في الأزهر؟ إذا صح أنه درس التفسير والحديث والأصول واللغة العربية وبقية ما عرف من العلوم الأزهرية في وقته ، فهل درس أيضاً التاريخ والأدب على الصورة التي رسمها لنا في تعداد الكتب التي ألفها ، إنه لم يترك طبقة من الطبقات إلا ألف فيها كتاباً : الصحابة ، الحفاظ ، النحاة كبرى ووسطى وصغرى ، المفسرين ، الأصوليين ، الكتاب ، الشعراء ، الخلفاء.

كما أنه ألف في التاريخ العام والخاص والرحلات كتباً كثيرة مثل "حسن المحاضرة" ، "رفع الباس عن بني العباس" ، الشماريخ في علم التاريخ ، رفع شأن الحبشان ، الرحلة الدمياطية.

فهل درس الطبقات والتاريخ وكتب اللغة والأدب في الأزهر فأهَّلته المدارسة ليؤلف فيها بهذه الغزارة كما ألف في العلوم الأزهرية؟

إن السيوطي كانت له أهلية علمية تجعله يدرس التاريخ والسير والمغازي على نفسه ، ولم يكن في الأزهر حلقات لمثل هذه العلوم .

لقد شبهت جلال الدين السيوطي بالجاحظ في سرعة الأداء والكتابة ، ولكنني فرقت بينهما من حيث طلاوة الأسلوب ، وإشراق الديباجة ، والآن أشبه مرة أخرى السيوطي بالجاحظ في كثرة الاطلاع ومتنوع الدراسات ، فلقد كان الجاحظ يستأجر دكاكين الوراقين ليطلع على ما فيها من كتب وربما كان يقضي فيها الليالي بأكملها لنهمه في القراءة والاطلاع ، وكذلك الشيخ السيوطي فإنه لم يترك كتاباً في زمانه إلا قرأه واستفاد به.

رحلات الشيخ السيوطي:

وقد كانت له رحلات ، ولكنه لم يكشف لنا عن الدوافع إليها ، فقد قال في ترجمته : (وسافرت بحمد الله تعالى إلى بلاد الشام ، والحجاز ، واليمن ، والهند ، والمغرب ، والتكرور ) وهي رحلات بعضها شاق طويل ، وأي رحلة أبعد من الهند؟ وأي متاعب أقسى في زمنه من الجمع بين الرحيل إلى الشام ، والحجاز واليمن والهند والغرب والتكرور؟ إنه  طوَّف في ذلك بأكثر أجزاء نصف الكرة الشرقي.

وقد ولد السيوطي عام 849 ، وانتقل إلى رحمة الله عام 911 هجرية رحمة الله رحمة واسعة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة الأزهر  المجلد الثاني والثلاثون جمادى الأولى 1380هـ ، الجزء الخامس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين