جراءة منكورة على بعض مرويات السيرة

وقفت مؤخرًا في بعض مجموعات التواصل على مقالة للدكتور أحمد خيري العمري، فيها دعاوى باطلة وجرأة في غير موضعها، وإصدار أحكام قطعيَّة على نحو من الثقة تُخيِّل للقارئ أنَّ الماء سراب.

مما استوجب التعقيب عليها، والله المستعان.

وهذا نصُّها:

[عندما ولد عليه الصلاة والسلام..

لم يحدث شيء استثنائي ..

لم يحدث شيء ممَّا قيل لنا على المنابر .

لم يولد عليه الصلاة والسلام مختوناً.

لم تنطفئ نار المجوس.

لم ينشق إيوان كسرى ولم تسقط أربع عشرة شرفة منه.

لم تجف بحيرة ساوة.

ولم تنتكس الأصنام في مكة..

كل ما قيل لنا، عبر الأجيال، وما تناثر في قصائد المديح التي تقال في المناسبات، وتسلل إلى وعينا حتى صار من بديهيات (المناسبة)، كله لا يستند إلى دليل شرعي صحيح، واستند إلى أحاديث موضوعة أو لا أصل لها أو ضعيفة في أحسن أحوالها..

كلها تسللت إلى وعينا الجمعي بالتدريج عندما بدأ المسلمون يفقدون (وعيهم) بالمكانة الحقيقية لنبيهم الكريم، خاتم النبيين وصاحب المعجزة الوحيدة المستمرة، المعجزة الوحيدة التي اعتمدت على (إعمال) العقل، بدلا من (إعجازه) كما حدث في المعجزات السابقة..

عندما بدأ المسلمون يفقدون استشعارهم لاستمرار هذه المعجزة، بدؤوا يبحثون عن (معجزات) أخرى .. بدؤوا يأخذون من الأمم الأخرى والديانات السابقة مبالغاتهم وغلوهم تجاه أنبيائهم..

وكان أن تسرَّبت كل تلك الخرافات المحيطة بمولد النبي الكريم، البعض منشغل بالاختلاف حول كون الاحتفال بالمولد بدعة أو لا، لكن هناك ما هو أخطر من هذا بكثير.. ، هناك هذه الرؤية السائدة التي تخرج الرسول الكريم عن أعظم ما فيه: عن كونه قد فعل كل ما فعل بجهد بشري استحق التأييد الإلهي.. عن كونه (القدوة) التي يمكنك أن تقتدي بها، لا الرجل الخارق الذي لن تفكر أصلا بتقليده..

لم تنطفئ نار المجوس بمولده عليه الصلاة والسلام..

ولم ينشق إيوان كسرى.

ولا حتى انتكست الأصنام..

كل ذلك حدث فعلاً، لاحقاً، وأدت له سيرة حياته الكريمة المليئة بالجهد والعمل والفعل..

نعم، لقد أطفئت نار المجوس..

وشقَّ إيوان كسرى..

وانتكست الأصنام على يديه

لكن ذلك لم يحدث قط بمولده

بل عبر حياته بمجملها

حياته التي علينا أن نفهمها حقا....

حياته التي تقول لنا...

قوموا من خرافاتكم يرحمكم الله.. ]اهـ

وقد اخترت أن أجعل التعقيب على هذه المقالة عبر النقاط الآتية: 

أولا: يعاب على هذه المقالة أمران رئيسان:

الأول: في أسلوبها الاستفزازي الذي يمثل تطاولا على علماء الأمة الراسخين في علم الرواية الذين تناولوا هذه الأحداث وبحثوا أسانيدها ودوَّنوها في مصنفاتهم مشيرين إلى ما يكتنفها من العلل التي لا تصل بها إلى حد الجزم بالتكذيب.

فجزمُ الكاتب بأنها لم تقع أصلا، وإطلاق وصف "الخرافة" عليها مرارا وتكرارا، يعتبر سوء أدب مع أولئك العلماء الأثبات، واستخفاف بعلمهم وبحثهم وتصانيفهم.

كما أن الإزراء بمنبر الجمعة ورمزيته إساءة للأمة والملة، يغتبط بها الزنادقة أيما غبطة.

الثاني: في مضمونها المجافي لمنطق العلم ومنطق البحث العلمي.

فالكاتب يقول عن خوارق الأحداث التي روي أنها وقعت عند ولادة النبي صلى الله عليه وسلم: إنها "استندت إلى أحاديث موضوعة أو لا أصل لها أو ضعيفة في أحسن أحوالها.."

وأقول: إن المنهج العلمي الذي هو موضع إجماع العقلاء يقول: (إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل).

فعلى الكاتب أن يثبت لنا بالدليل، دعواه بأن شيئًا من تلك الأحداث التي يتبجح بتكذيبها تستند إلى حديث موضوع، أو لا أصل له.

نعم فيها أحاديث ضعيفة، وأما أنها موضوعة، فعليه أن يثبت ذلك إن استطاع، وإلا فتكذيبه هو المردود الذي لا يستند إلى دليل.

إلا إذا كان يسوي في الحكم بين الضعيف والموضوع، كما توحي بذلك عبارته، وهذه طامَّة علمية أخرى.

فإنَّ الحديث الموضوع مقطوع بتكذيبه، وأما الضعيف فقد يكون في واقع الأمر صحيحا، لكن لم تتوافر لإسناده شروط الصحة أو الحُسن، كما قد لا يكون له وجود في الواقع، وعليه فلا يصح في منطق العلم الجزم بتكذيبه كما فعل الكاتب.

وهذا في الواقع من تداعيات التنكر للحديث الضعيف، وفرط الحساسيَّة ضده إلى حد معاملته معاملة الموضوع، كما هو السائد في ثقافة وقناعة كثير من العامة وأشباه المتعلمين.

ومما روّج لهذه القناعة عند هؤلاء، خلطُهم بين مدلول عبارة (هذا الخبر غير صحيح) في كلام الناس، ومدلول عبارة (هذا الخبر غير صحيح) في كلام علماء الحديث.

فإن مدلول الأولى حكم بتكذيب ذلك الأمر، ولكن مدلول الثانية ليس حكما بتكذيب ذلك الحديث، معاذ الله. إذ قد يكون الحديث غير الصحيح حسنًا لذاته أو لغيره، وقد يكون ضعيفًا، على تفاوت في درجات الضعف كما هو معلوم، وكل هذا يمنع من الحكم الجازم عليه بالتكذيب، لاحتمال أن يكون صحيحا في نفس الأمر. 

وإلا فما الفرق بين الضعيف والموضوع؟

وإليكم الحديث الذي ورد فيه ذكر الخوارق التي صاحبت الولادة الشريفة، والتي يجزم الكاتب بكذبها من غير برهان ولا أثارة من علم. 

جاء في "دلائل النبوة" للبيهقي: حدثنا مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه، وأتت عليه مائة وخمسون سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة. وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، وتصبر عليه تشجّعا، ثم رأى أن لا يدَّخر ذلك عن وزرائه ومرازبته حين عيل صبره، فجمعهم، ولبس تاجه، وقعد على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما بعثت إليكم؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك بذلك. فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود نار فارس، فازداد غمًّا إلى غمِّه، ثم أخبرهم بما هاله، فقال الموبذان: وأنا - أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة. ثم قص عليه رؤياه في الإبل. قال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ وكان أعلمهم في أنفسهم، قال: حدث يكون من ناحية العرب. فكتب كسرى عند ذلك: من ملك الملوك كسرى إلى النعمان بن المنذر. أما بعد، فوجِّه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني. فلما قدم عليه قال: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: يسألني - أو يخبرني - الملك، فإن كان عندي منه علم أخبرته، وإلا دللته على من يعلمه. قال: فأخبرَه بما رأى. قال: عِلم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام، يقال له: سطيح. قال: فاذهب إليه فاسأله وائتني بتأويل ما عنده. فنهض عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه، فلم يحر جوابا، فأنشد عبد المسيح يقول: 

أصم أم يسمع غطريف اليمن 

أم فاد فازلَمّ به شأو العنن 

يا فاصل الخطة أعيت من ومن 

وكاشف الكربة عن وجه غضن 

أتاك شيخ الحي من آل سنن 

وأمه من آل ذئب بن حجن 

..... إلى آخر الأبيات.. 

قال: ففتح سطيح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مسيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الصريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها. يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى رحله وهو يقول: 

شمر فإنك ماضي الهم شِمّير 

لا يفزعنك تفريق وتغيير 

إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم 

فإن ذلك أطوار دهارير 

فربما ربما أضحوا بمنزلة 

يهاب صولتها الأسد المهاصير.

...إلى آخر الأبيات..

قال: فلما قدم عبد المسيح على كسرى فأخبره بقول سطيح، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور. فملك منهم عشرة في أربع سنين، والباقون إلى أن قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.

هذا الحديث الذي رواه البيهقي في "دلائل النبوة" نقله غير واحد من جبال علم رواية الحديث، ولكنهم لم يهجموا على تكذيبه وازدرائه والجزم المطمئن ببطلانه كما فعل الكاتب، وذلك لأن كلامهم موزون بميزان العلم الذي لا مكان فيه للتهور واللامبالاة.

فهذا الحافظ الذهبي – وهو من هو في علم الحديث – أورد الحديث المذكور في كتابه الجامع الواسع " تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام" نقلا عن ابن أبي الدنيا وغيره، بعد أن ترجم له فقال: (ذكر ما ورد في قصة سطيح وخمود النيران ليلة المولد وانشقاق الإيوان)

قال ابن أبي الدنيا وغيره: ثنا علي بن حرب الطائي، أنا أبو يعلى أيوب بن عمران البجلي، حدّثني مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه، وكان قد أتت عليه مائة وخمسون سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وغاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس... الحديث بطوله، بلفظ رواية البيهقي في الدلائل. ثم عقب الذهبي عليه بقوله: هذا حديث منكر غريب. اهـ.

ولم يقل الذهبي: هذا باطل أو خرافة...

وهذا الحافظ المحدث المفسر المؤرخ ابن كثير، أورده في تاريخه "البداية والنهاية" نقلا عن الخرائطي، فقال: (ذكر ارتجاس إيوان كسرى وسقوط الشرفات وخمود النيران ورؤيا الموبذان وغير ذلك من الدلالات) [يلاحظ أنه سماها دلالات] قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب "هواتف الجان": حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها.... ونقل الحديث بتمامه بنحو ما جاء في دلائل البيهقي وتاريخ الذهبي، ثم عقب عليه بقوله: ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس عن علي بن حرب الموصلي بنحوه. قلت: كان آخر ملوكهم الذي سُلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وهو الذي انشق الإيوان في زمانه. وكان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة. انتهى كلام ابن كثير.

ولاحظ قوله: وهو الذي انشق الإيوان في زمانه. فالخبر عنده في موضع القبول. 

وهذا الحافظ ابن عساكر، محدث الديار الشامية في زمانه، يروي في كتابه "تاريخ دمشق" الخبر المذكور بنصه عن مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه وأتت له خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام وغاضت بحيرة ساوة...... الحديث. ثم قال ابن عساكر بعد تمامه: ورواه معروف بن خربوذ عن بشير بن تيم المكي قال: لما كانت اللية التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. اهـ.

وواضح أن ابن عساكر قد ساق الخبر مساق القبول كما لا يخفى، وليس في كلامه ما يشعر برد الخبر أو تكذيبه. 

وهذا الحافظ الأشهر والأخبر في زمانه بعلم الحديث رواية ودراية، الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني يورد الخبر المذكور في كتابه الفخيم النافع "فتح الباري" مورد القبول فيقول: وفي حديث مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه، قال وكان قد أتت عليه خمسون ومائة سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسر إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ما وقع فسأل علماء أهل مملكته عن ذلك فأرسلوا إلى سطيح... فذكر القصة بطولها أخرجها بن السكن وغيره في معرفة الصحابة اهـ .

كما قد روى الخبر الأصبهاني في "دلائل النبوة" بسنده عن مخزوم بن هانئ عن أبيه.... الحديث .

ونقله السيوطي في "الخصائص الكبرى" منسوبا إلى مصادره في المصنفات الحديثية، فقال: وأخرج البيهقي، وأبو نعيم، والخرائطي في الهواتف، وابن عساكر من طريق أبي أيوب يعلى بن عمران البجلي، عن مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه، وأتت له مائة وخمسون سنة قال لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربعة عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام وغاضت بحيرة ساوة... إلى آخر الخبر.

ثم إن السيوطي رحمه الله عقب بذكر أقوال أهل الحديث في الخبر المذكور فقال: قال ابن عساكر: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مخزوم عن أبيه، تفرد به أبو أيوب البجلي. هكذا قال في ترجمة سطيح في تاريخه. وقال في ترجمة عبد المسيح بعد ان أخرجه من هذا الطريق: ورواه معروف بن خربوذ عن بشر بن تيم المكي قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر نحوه. قلت: ومن هذا الطريق أخرجه عبدان في كتاب الصحابة. وقال ابن حجر في الإصابة: إنه مرسل. وأخرج الخرائطي في الهواتف وابن عساكر عن عروة أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، فدخلوا عليه ليلة فرأوه مكبوبا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا، فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فقال عثمان بن الحويرث: إن هذا لأمر قد حدث. وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى من الخصائص الكبرى للسيوطي.

أقول: فهل يسوغ في منطق العلم أو الأدب، أن نلغي كل هؤلاء الأئمة الأعلام، الذهبي وابن كثير وابن عساكر والبيهقي وأبي نُعيم وابن حجر والسيوطي، وهم من حذاق أطباء الحديث في علله، لنأخذ بقول طبيب الأسنان أحمد خيري العمري؟!!!

ولست أعيب على الأخ الطبيب مهنته، معاذ الله، ولكنّي أنكر عليه جرأته وتطاوله على أئمة لا تبلغ هامته ولا هامتي أدنى أعقابهم.

ثانيا: أما ما يتصل بولاته صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، فقد جاء فيه حديثان متعارضان، كلاهما ضعيف.

الحديث الأول: رواه الطبراني في المعجم الأوسط بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوءتي. قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يونس إلا هشيم تفرد به سفيان بن محمد الفزاري.

قال العجلوني في كشف الخفا: رواه الطبراني والخطيب وابن عساكر والضياء عن أنس رضي الله تعالى عنه.

الحديث الثاني: أورده أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد" بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه وجعل له مأدبة وسماه محمدا. قال يحيى بن أيوب طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري. اهـ

وقد اختلف قول العلماء في هذه المسألة، فمنهم من مال إلى مقتضى الحديث الأول، حديث أنس، وهم كثير. منهم أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، حيث قال في المستدرك على الصحيحين: وقد تواترت الأخبار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد مختوناً مسروراً. اهـ ولم يوافقه الذهبي.

ومنهم الحافظ ابن الجوزي، حيث أورد في كتابه "العلل المتناهية" حديث أنس المتقدم، ثم بيَّن وجوه ضعفه، ثم أتبعه بقوله: قُلْتُ وَلا شَكَّ أَنَّهُ وُلِدَ مَخْتُونًا غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لا يَصِحُّ بِهِ.

ومنهم من مال إلى مقتضى الحديث الثاني، حديث ابن عباس، ولكن أحدًا منهم لم يقل عن ولادته صلى الله عليه وسلم مختونا: إنها خرافة لا وجود لها في الواقع، كما فعل الكاتب، فإن هذا مما لا يسوغ في منطق العلم ولا في منطق الأدب.

وقد تناول العلامة ابن القيم هذه المسألة بإسهاب في كتابه "تحفة المودود بأحكام المولود" ومال فيها إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يولد مختونا.

كما بحثها في "زاد المعاد" واستعرض فيها الأقوال مرجّحا ما رجَّحه في "تحفة الودود" ثم ختم بحثه بقوله: وقد وقعت هذه المسألة بين رجلين فاضلين صنف أحدهما مصنفا في أنه ولد مختونا وأجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام، وهو كمال الدين بن طلحة. فنقضه عليه كمال الدين بن العديم، وبيَّن فيه أنه صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب، وكان عموم هذه السنة للعرب قاطبة مغنيا عن نقل معين فيها. والله أعلم. اهـ.

ولعل أوعب المتأخرين لأقوال المتقدمين في هذه المسألة، مع ذكر أدلتهم ونقدِها، العلامة محمد بن يوسف الصالحي الشامي المتوفى سنة 942هـ صاحب السيرة الشامية "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" 

وأنقل كلامه بطوله في هذه المسألة لأهميته، قال:

الباب الثامن في ولادته صلى الله عليه وسلم مختونا مقطوع السرة.

عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي ".

رواه الطبراني وأبو نعيم وابن عساكر من طرق. قال في الزهر: سنده جيد. انتهى. وصححه الحافظ ضياء الدين المقدسي. 

وروي من حديث العباس بن عبد المطلب. رواه ابن سعد، وحسّن مغلطاي سنده في كتابه "دلائل النبوة" ومن حديث ابنه عبد الله، رواه ابن عدي وابن عساكر. ومن حديث أبي هريرة، رواه ابن عساكر أيضا. ومن حديث أنس رواه أبو نعيم. قال مغلطاي في دلائله: بسند جيد.

ومن حديث ابن عمر رواه ابن عساكر.

وقد جزم بأنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا، جماعة من العلماء منهم هشام بن محمد بن السائب في كتاب الجامع. وابن حبيب في المحبر. وابن دريد في الوشاح. وابن الجوزي في العلل والتلقيح.

وقال الحاكم في المستدرك: تواترت الأخبار بأنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا. وتعقبه الذهبي فقال: ما أعلم صحة ذلك فكيف يكون متواترا.؟!

وأجيب باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها في السيرة، لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث.

وقيل: إن جبريل ختنه صلى الله عليه وسلم حين شق صدره. رواه الخطيب عن أبي بكرة موقوفا. ولا يصح سنده. وقال الذهبي: إنه خبر منكر.

وقال الذهبي: إن جده صلى الله عليه وسلم ختنه على عادة العرب. ورواه أبو عمر. قال الحافظ أبو الفضل العراقي: وسنده غير صحيح.

قال الحافظ قطب الدين الخيضري رحمه الله تعالى في الخصائص: أرجحها عندي الأول، وأدلته مع ضعفها أمثل من أدلة غيره.

قلت: قد قدمنا أن له طريقا جيدة صحَّحها الحافظ الضياء.

وقد قال الزركشي: إن تصحيح الضياء أعلى مزية من تصحيح الحاكم. انتهى كلام الصالحي في السيرة الشامية.

ثالثا: إن قبول هذه الخوارق التي رويت في يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، لا ينافي أبدا ما يسمّيه الكاتب "المكانة الحقيقية" للنبي صلى الله عليه وسلم.

وأين المنافاة في ذلك؟ بل نقول: إنَّ ذلك إن ثبت كان إضافة إلى تلك المكانة وزيادة فيها.

وهل كان ما ثبت له صلى الله عليه وسلم من المعجزات المادية، من إسرائه ومعراجه، وانشقاق القمر له، وحراسة السماء من الشياطين عند مبعثه، إلا زيادة في رفعة قدره وعظمة شأنه صلى الله عليه وسلم؟

كما أن كونه صلى الله عليه وسلم صاحب المعجزة التي سمَّاها الكاتب "الوحيدة المستمرة" لا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم أيضا صاحب المعجزات المادية ذات الكثرة الكاثرة.

ثم إن كل المعجزات الماديَّة الثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم بالنص القطعي، هي عند الموقنين بذلك النص في حكم المستمرة، كأنهم يشهدونها كلما قرؤوها أو سمعوها.

ومن كان الأمر عنده ليس كذلك فليراجع يقينه.

فلا داعي للإزراء بالمعجزات النبويَّة غير القرآن، الذي استمرأه في العصور المتأخرة بعض المفتونين بالحضارة المادية الغربية، والذين ما يزالون يغمزون بالمعجزات المادية تلميحا أو تصريحا بدعوى إجلال معجزة القرآن.

وكأن بين معجزة القرآن وبين المعجزات المادية تناقضا، أو كأن عقولهم تضيق عن استيعاب المعجزتين في آن واحد.!

ثم من قال: إن معجزة القرآن اعتمدت على إعمال العقل بدلا من إعجازه؟

وهل يتعذر الجمع بين الإعجاز والإعمال؟

أليس قد عجز الجن والإنس مجتمعين عن أن يأتوا بمثله ولا بسورة ولا بحديث من مثله؟

أم أن إعجاز بيان هؤلاء لا يشمل إعجاز عقولهم التي تنتج ذلك البيان؟!

ثم ألم يشعر الكاتب بالتناقض في سطر واحد من كلامه عندما يقول: "وصاحب المعجزة الوحيدة المستمرة، المعجزة الوحيدة التي اعتمدت على (إعمال) العقل، بدلا من (إعجازه)"

أقول: فإن كانت اعتمدت على الإعمال بدل الإعجاز كما تزعم، فبم سميتها "معجزة"؟!

رابعا: قال الكاتب: " عندما بدأ المسلمون يفقدون استشعارهم لاستمرار هذه المعجزة، بدؤوا يبحثون عن (معجزات) أخرى .. بدؤوا يأخذون من الأمم الأخرى والديانات السابقة مبالغاتهم وغلوهم تجاه أنبيائهم.."

وأقول: يخيل لمن يسمع هذا الكلام أن حديث المسلمين عن ارتجاس إيوان كسرى وخمود نار فارس وغيض بحيرة ساوة، لم يبدأ إلا قبل قرن من الزمان عند سقوط الخلافة، أو قبلها بقليل.

إلا إن كان الكاتب يقصد أن المسلمين بدؤوا يفقدون استشعارهم لاستمرار معجزة القرآن قبل عصر تدوين السيرة ومصنفات التاريخ التي روت هذه الخوارق.؟

مرة أخرى أقول: هذه جرأة منكورة على الأمة، واتهام خطير لعلمائها وعقلائها عبر التاريخ، كان يجب أن يكف الكاتبَ عنه دينُه.

وبهتان آخر في حق الأمة يطلقه الكاتب عندما يقول: "هناك هذه الرؤية السائدة التي تخرج الرسول الكريم عن أعظم ما فيه: عن كونه قد فعل كل ما فعل بجهد بشري استحق التأييد الإلهي.. عن كونه (القدوة) التي يمكنك أن تقتدي بها، لا الرجل الخارق الذي لن تفكر أصلا بتقليده.."

وأقول: هذا تخليط وتلبيس، فمن هذا الذي يزعم أن خصائصه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم تجعل المسلمين لا يفكرون أصلا بتقليده.

وهل كُلف المسلمون بتقليده واتباعه في المعجزات والخوارق، أم بالتكاليف الشرعية الميسورة؟

ثم هل يرى الكاتب أن ثبوت معجزة الإسراء والمعراج وانشقاق القمر قد صرفه عن اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما دعا إليه من الدين؟

أم أن ثبوت تلك المعجزات عند الكاتب هي أيضا موضع نظر؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين