جذور العلمانية

الموروث الثقافي للعقل الغربي يعتبر العلاقة بين الله والناس هي علاقة صراع.

فالأساطير الإغريقية مثلت هذه العلاقة في الصراع بين "زيوس" كبير آلهة الأوليمب الذي يكره البشر ويحاول السيطرة عليهم وحجب أسرار الكون عنهم، وبين "بروميثيوس" الذي تمرد على كبير الآلهة وقام بسرقة سر النار وأهداه للإنسان، وحين علم بذلك "زيوس" اعتقل "بروميثيوس" وربطه بالحبال وتركه في البرية للغربان والعقبان ينهشونه حيا، وكلما أشرف على الموت دبت فيه الحياة مرة أخرى ليستمر في العذاب عقابا له على إهداء سر النار للإنسان.!

صراع انتصر فيه "زيوس" على "بروميثيوس"، أو انتصر فيه (عالم الآلهة) على (عالم الإنسان)، واستمر هذا الصراع واتخذ له وجها آخر في أوروبا العصور الوسطي حيث حل "زيوس" في الكنيسة الكاثوليكية، ومَثَّل نفس دور الصراع بين (عالم الآلهة) و (عالم الناس) باسم الكنيسة.

احتكرت الكنيسة العلم وهيمنت على تفسيره وحالت بين عموم الناس وبين أي تفسير يخالف تفسيرها، ومن تجرأ من العلماء مثل "جاليليو" وفسر حركة الأرض بشكل يخالف تعاليم الكنيسة كان جزاؤه الحرمان والنبذ وإحراق كتبه.

صراع رأى الناس فيه "زيوس" في ثوبه الكنسي يمجد لهم الفقر ويعدهم بأن الجنة للفقراء، ويستأثر هو بالإقطاعات التي تفوق إقطاعات الملك والإقطاعيين؛ بل يظهر "زيوس" في زينة وتاج وصولجان وقلانس يكفي ثمنها إطعام آلاف الجوعى والمحرومين.

صراع استأثر فيه "زيوس" بأن يكون هو قناة الاتصال الحصرية بين (عالم الناس) و (عالم الآلهة)، بل وباع لهم مكانهم في الجنة بصكوك غفران مدفوعة الثمن، صراع لم يترك مجالاً أمام الإنسان الغربي سوى الاختيار بين أمرين لم يعد ممكناً له الجمع بينهما: الدنيا أو الآخرة، الأرض أو السماء.

حسم الإنسان الغربي أمره حين نجح أن يفك قيوده وثار على وضعه البائس وصاح صيحته الثورية الشهيرة: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس.)

وأعلن الإنسان الغربي انتصاره المظفر على "زيوس" وحبسه داخل الكنيسة منبوذا عن المجتمع، وأعلنه انتصارا لا مجال فيه لمناقشة عودة "زيوس" لمجتمع الناس مرة أخرى، ومن أراد "زيوس" فليذهب إلى الكنيسة يوم الأحد.

هذه هي الظروف الموضوعية لنشأة العلمانية التي لاشك حققت نجاحات في تلك المجتمعات عن طريق نظم الحكم الرشيد.

أراد العلمانيون في بلادنا نقل هذا الصراع من بيئته وظروفه الموضوعية إلى مجتمعنا الذي لم يعش يوماً ذات الظروف، وكانوا مجرد وسائط نقل لتجربة نجاح الغرب في الشفاء من مرضه، فدخلوا صيدلية الغرب وأخذوا نفس الدواء ليداووا به مريضا لا يعاني من ذات المرض، فتأخرت حالة المريض ومازالت حالته تتأخر وهم مصرون علي ذات الدواء.

إذا كان هذا هو الموروث الثقافي للغرب وتلك هي تجربته التاريخية، فالإسلام بالنسبة للأمة الإسلامية هو سر حياتها، ومنبع ثقافتها، وباني حضارتها، وصانع تاريخها، وهو سر مستقبلها، به تكون، ومن دونه أبداً لن تكون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين