ثنائية العلماء والعوام في السياق الإسلامي

كنت ذات مرة مع زملائي في الجامعة ننتظر الأستاذ في مكتبه، وبعد فترة وجيزة فُتح الباب وكان أستاذنا وبقية الأساتذة يرحبون بأستاذ مسن يبدو أنهم من طبقة تلامذته، فجلس وتحلَّق الجميع حوله، ويبدو أنه كان خارجاً من محاضرة عامة، فاستضافوه على هامشها ليشرب كأساً من الشاي، وجرى حوار عفوي على الهامش، فكان مما قاله هذا الأستاذ الكبير: قبل سنوات كنت أمشي في حينا فأوقفني رجل متوسط في العمر، قال لي: أستاذي كل سكان محلتنا يقولون إنكم بروفيسور في الفلسفة الإسلامية وأنا لدي سؤال فهل تسمح لي أن أطرحه عليك؟ يقول الأستاذ: قلت له طبعاً تفضل؟ فقال لي: هل كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حنفي أم شافعي؟ يقول الأستاذ: لقد ظن هذا الرجل بي خيراً وحقه عليَّ أن أجيبه على سؤاله، فقلت له تعال لنشرب كاساً من الشاي في المقهى المجاور وأحدثك، يقول تحدثت له بصورة مبسطة أظن أنها مفهومة للعامة وعرضت بشكل مختصر تاريخ الإسلام ونشوء المذاهب، وظننت أن الرجل حصل على الجواب الذي يريده مني، وبعدما أنهيت حديثي، قال لي الرجل رضي الله عنك يا استاذي وأخيراً فهمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حنفياً! بعد أن ساق الأستاذ هذه القصة ضحك وقال هكذا هم العوام، في كل ملة وفي شعب وفي كل زمن، فهؤلاء الناس البسطاء موجودون، والقول إنهم عوام ليس سبة لهم. وكلمة أو مصطلح عوام هذه سنعود لها في نهاية حديثنا.

وبالعودة لموضوعنا، سنناقش قضية العلماء والعامة بشكل عام، أي أننا لن نعالجها من بوابة علم أصول الفقه والمصطلحات الفنية ذات الدلالات المحددة التي يستعملونها عادة.

لنقول: نستطيع تقسيم الناس إلى قسمين (متعلم - عامي) ولنقل إن العامي هو من أشرنا لمثله في المقدمة فهم منشغلون باكتساب أرزاقهم وغير مهتمين كثيراً باكتساب العلوم بمعناها الفني الدقيق صحيح أنهم قد يمتلكون دراية عامة مجملة، وصحيح أن بعضهم أكثر دراية من بعض، غير أن درايتهم المجملة لم تجعلهم من أهل العلم. 

وأما القسم الأول أي المتعلم ففيه قوم سعوا لاكتساب العلم بما فيه من صناعة الاستدلال والعلم بالشروط والأحكام والقواعد، وقضوا في ذلك فترات من أعمارهم، وربما تركوا بلادهم وهاجروا إلى بلاد أخرى ليكتسبوا معارفهم..

يذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان يقول: وجدت بمدينة حلب طائفة كثيرة يقال لهم الباشغردية شُقر الشعور والوجوه جدّا يتفقهون على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فسألت رجلاً منهم استعقلتُه عن بلادهم وحالهم فقال أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة أمة من الإفرنج يقال لهم الهُنكَر (وهي هنغاريا أو المجر حالياً)، وتاريخ الرحلات في طلب العلم مشهورة، ولا تزال مستمرة بصورة فردية وربما تبنتها بعض الحكومات تحت مسمى الابتعاث الدراسي. فالعلم صناعة مكتسبة، وهذا الصنف المتعلم اشتغل بهذه الصناعة واكتسب كل فرد فيه على قدر ما بذل من الجهد، ولنكون أكثر دقة فإننا نقول هو متعلم في تخصص معين، فمن درس الفقه دراسة منهجية فهو متخصص فيه، ومن درس النحو العربي فهو متخصص فيه، ومن درس الفيزياء فهو متخصص فيها، ومن درس الأحياء فهو متخصص فيه، وهكذا

ثم نقول إن كل متخصص في مجال ما؛ تلقائياً هو غير متخصص في المجالات الأخرى، يعني من تخصص بالرياضيات تلقائياً غير متخصص في علم الاجتماع أو اللسانيات وبقية العلوم، مع مراعاة الجانب المشترك والتداخل بين بعض العلوم، كالعلاقة المشتركة مثلاً بين الرياضيات والهندسة، وبين الصيدلة والأحياء، وبين التفسير وعلوم اللغة العربية وهكذا وعليه فيمكن أن أكون عالماً في تخصصي، غير أنني عامي في تخصصات الآخرين، ومن لم يستسغ كلمة عامي فليقل غير متخصص بما تخصص به الآخرون.

فإن كنت أحمل شهادة دكتوراه باللغة العربية مثلاً فكلامي عن الشعر والبلاغة يفترض أنه كلام من متخصص، والدال التي قبل اسمي ذات دلالة، لكن إن كنت سأتحدث عن النانو والكوانتم وما أشبهها من مسائل الفيزياء، فالدال التي تسبق اسمي غير ذات معنى، ودخولي لهذا المجال هو دخول المستفسر المستشكل المتعلم وهكذا..

لكن السؤال: ما هو معيار التخصص من عدمه، وهل يمكن التخصص بأكثر من مجال؟

في عصرنا الحالي تعد الدراسة الجامعية أحد أهم علامات التخصص، لكننا نقول إن الدراسة الجامعية هي مظنة التخصص، فكتب الجامعة وسطياً بين 40 و60 كتاب، وبعض الطلبة يقرأ ملخصاتها ويقدم امتحاناتها ثم ينساها، فقد يدخل الجامعة ويتخرج فيها ولا يقرأ أكثر من 5 آلاف صفحة، ولا يطور ذاته، فربما تؤهله شهادته للوظيفة، لكنها في ميزان العلم متدنية، كما أن البعض قد يأخذ شهادة لكنها لا تشفع له ولا تخلصه من جهله. 

وفي المقابل قد يقرأ أحدهم بلا جامعة مئات الكتب وبطريقة منهجية حتى يغدو متخصصاً بدون شهادة، ونحن هنا نتحدث عن الدراسة بطريقة منهجية لنفرقها عن الدراسة غير المنهجية كما فعل شحرور -هذا لو سلمنا أنه درس فعلاً- ومن الأمثلة على الدراسة المنهجية وحيد الدين خان وهو رجل ألف عشرات الكتب وترجمت لكثير من اللغات وأقر له في العلوم العقلية كالفلسفة وعلم الكلام ومناقشة الفلسفات والتيارات الفكرية المعاصرة مناقشة عالم وكتب عنه رسائل ماجستير ودكتوراه، ولم يدخل الجامعة، فهو رجل متخصص، ومثله الأديب الكبير عباس محمود العقاد فالرجل لم يدرس غير الابتدائية لكنه برع في علوم العربية حتى تقلد مناصب يتنافس عليها أصحاب الشهادات فلا ينالونها بسهولة، فالقبول العام من أهل الاختصاص بكفاءة عالم أكثر جدوى من معيار الشهادة. والعالم تصدقه آثاره العلمية فهو شهادة لنفسه، سواء حمل شهادة ورقية أو لم يحملها، والجاهل يدل عليه جهله سواء حمل شهادة ورقية أو لم يحمل. نعم إن الاقتصار على معيار الشهادة يمارسه بعض المتخصصين للتنقيص من أهلية آخرين حتى وإن كانوا مؤهلين، وهذا برأيي مما لا ينبغي الالتفات إليه. 

أما بالنسبة لتعدد التخصصات فمع إقرارنا بغياب صورة العالم الموسوعي في الزمن الحاضر، لكننا نرى أن جمع أكثر من تخصص وفهمه واستيعابه أمر ممكن وله شواهد. فإذا وجدنا من قرأ كتب تخصص آخر وتابع محاضرات أساتذته -لا سيما التخصصات النظرية- حتى فاقت معارفه فيها معارف بعض حملة شهاداتها فهو أهل لأن يعد متخصصاً به، فلو كانت دراستي الجامعية في الرياضيات وكان لي اهتمام كبير في التاريخ مثلاً وقرأت فيه مثل ما قرأ أهل العلم فأنا ابن الاختصاصين، وإن لم أحمل شهادة في التاريخ.

ما سبق كلام عن العلوم بشكل عام، فإن وصلنا للعلوم الإسلامية تحديداً نجد من بعض الناس اعتراضاً يقول طالما أنه لا كهنوت في الإسلام فالمسلمون سواء في قدرتهم على التعامل مع النص، ولا معنى للقول بمتخصص وغير متخصص، وثمة استشكال يطرح اليوم يقول: حتى أقيم تعبدي فأنا أمتلك معلومات عن الأحكام ومعلوماتي ليست صفراً كما هو حالي مع اللغة السنسكريتية مثلاً، وبالتالي فيفترض أني بوجه ما متخصص بالعلوم الإسلامية ومن حقي أن أفتي وأقطع برأيي في المسائل والأحكام.

ونحن نقول نعم يعرف المسلمون ما يسمى بالمعلوم من الدين بالضرورة، حتى يقيموا تعبدهم كعلمهم بأحكام الوضوء والصلاة والزكاة والبيع والشراء والربا بعمومها، لكن كثيراً منهم لا يعرفون تفاصيلها، ولا تزال أسئلة الناس تدور حولها، ويسألون في جزئياتها، وهذا الحد من المعلومات علمه النبي صلى الله عليه وسلم لعموم القبائل المبايعة، لكن السؤال إن كانت هذه المعرفة المجملة كافية فأي معنى بقي للأمر القرآني: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}؟ فإذا انتقلنا لما هو غير معلوم من الدين بالضرورة، نجد أن معرفتهم الإجمالية هذه تأخذ في التقلص، وربما تكاد تنعدم. ومن كانت معرفته تفصيلية وليست بإجمالية فنعم ما فعل، وما أجملها من معرفة، وليته يطوروها وينميها وينشرها بين الناس، وهذا الحد للمستقر من العلوم والمعارف، فإن جئنا للجديد من أقوال وأفكار وآراء وفتاوى، فالأمر هنا يتطلب قدرة على التأصيل والإقناع، فمن قدر على ذلك سيقدِّر المسلمون صنعه وربما اتخذوه أستاذاً، تذكروا أن مالك بن نبي درس الهندسة وكتب بالفرنسية، لكن الأمة لم تغمطه حقه، ومن لم يقدر على التأصيل والإقناع فلن يجد احتفاء من الأمة به ولو احتفت به قنوات أبو ظبي و mbc. (وشحرور والكيالي أمثلة على ذلك).

وبالنسبة لمقولة (لا كهنوت في الإسلام) فقد فهمت خطأ، وظن قائلوها أنه لا علماء وغير علماء في الإسلام، وأن الإسلام يرفض التخصص العلمي، ويأبى أن يكون فيه قوم هم المجتهدون العالمون بالأحكام!! 

تضطرنا عبارة لا كهنوت في الإسلام للعودة للجذور التي أوهمت هذا الفهم، فقد كان الكتاب المقدس عند النصارى لا يمكن لغير طبقة رجال الدين أن يقرؤوه ويطالعوا ما فيه، وهو أصلاً ليس في متناول اليد، وبقي على ذلك قروناً حتى كسرت البروتستانتينية هذا العرف، فكان من المسائل الدينية المهمة التي أقرها مارتن لوثر هي الاحتكام إلى الكتاب المقدس، حين أعلن لوثر في مجمع أوغزبرغ انصرافه عن البابا المنحرف إلى البابا الصحيح، أي إلى الكتاب المقدس، لذلك اهتم لوثر بإتاحة الكتاب المقدس للعامة وترجمه إلى الألمانية لإمكان فهمه والاحتكام إليه، وطبع الكتاب المقدس لأول مرة عام 1522م، وبعد حوالي 70 سنة توفر منه حوالي 100 ألف نسخة، ولم يعد الكتاب المقدس غريباً عن الناس، الذين أقبلوا على دراسته ومناقشة محتوياته لأول مرة واكتشاف عدم وجود أصل من الكتاب المقدس للعديد من المفاهيم وأشكال العبادة السائدة مثل عصمة البابا ورجال الدين، وعزوبة رجال الكهنوت واستعمال صكوك الغفران وغيرها

وأما في الإسلام فمتى كان حال المسلمين مع المصحف وكتب الحديث مشابهاً لهذا الحال؟! والقرآن نزل بلغة العرب وهو مفهوم لهم، ومن امتلك اللغة العربية بحق ليس بينه وبين فهم النص القرآني فجوة، وحتى من لم تكن سوية لغته العربية عالية فهو قادر على فهم الكثير من النص القرآني ولا سيما آيات الهداية العامة تأمل مثلاً قول الله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}، لكن عندما نأتي للمحكم والمتشابه والتفسير الموضوعي والجمع بين ما قد يوهم ظاهره التعارض، واستنباط الأحكام الفقهية والعقدية والرؤى الكلية وعقد المقارنات، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وتتبع الروايات ومعايير الجرح والتعديل والضبط وتاريخ التشريع وما شابه ذلك، فكل ذلك يحتاج لنظر منهجي وفرته العلوم الإسلامية.. نعم لا كهنوت في الإسلام، لكن من أبجديات نظرية المعرفة، أن المعارف ليست كلها بدهيات عقلية أو حسية فليست كل المعارف العلمية من نمط: الكل أكبر من الجزء أو أن العسل حلو، فثمة معرفة تتطلب تأملاً ونظراً واستقراء وقياساً ومعرفة بالشروط والأحكام وهذا ما سميناه الصناعة العلمية، فمن لم يتعلم الصناعة فهو غير متخصص، وبعضهم قال هو عامي. 

ومصطلح عامي الذي وعدتكم بالعودة إليه، أنا أعلم أن البعض يكرهه ولا يستسيغه، ولا غاية لي بالدفاع عنه فهو في نهاية الأمر ليس مصطلحاً قرآنياً، وقد رجحت أن أستبدله بغير المتخصص حتى أبتعد عن مصطلح العوام ما أمكن، على أننا لو تجردنا قليلاً سنجده توصيف منطقي للتفريق بين من اكتسب علماً، وبين من لم يفعل، وقد استعمل طوال التاريخ الإسلامي ولم أكد أجد أحداً من العلماء على مر العصور من جادل فيه أو رآه تصنيف غير منطقي، واستعماله ليس وقفاً على المسلمين، بل تحدث العلماء عن عوام أهل الأديان الأخرى، ونلاحظ أن البيروني وهو يتحدث في كتابه الشهير تحقيق ما للهند يفرق بين عامة الهندوس وعلمائهم، وقد رأيت أن بعض أهل اللغات يستعملون كلمة رجل الشارع للدلالة على هذا المعنى، وثنائية العلماء والعوام في الفكر الإسلامي ليست طبقية دينية تشبه المنبوذين في الهندوسية مقابل البراهما وهم أعلى طبقات الهندوس، بحيث لا ينتقل من هذه الطبقة إلى تلك إلا بدورات عديدة من الحياة والموت والمرور بتناسخ الأرواح، وليست طبقية لاهوتية ذات وظيفة دينية كما هو في اليهودية والمسيحية، بل هي تقسيم فني ويمكن هجرها بالاكتساب وهو ما كلف الإسلام من سبق باكتساب المعرفة ببذلها والسعي في لتبليغها للآخرين.

هذا التصنيف الفني كما أشرنا ليس تزكية للعلماء ولا تحقيراً للعامة، ومن ظن أو فهم أنه تقسيم طبقي أو استعلائي فقد تمادى في الضلال، وكم في العوام من هم أفضل عند الله من بعض أهل العلم، وكم في العوام من كان صاحب موقف مبدأي وأخلاقي، وكم في العلماء من باع بدين الله واشترى، وكم من العوام من أخطئ فتاب وأناب، وكم في العلماء من حرَّف وأوَّل ولوى ليوافق هوى فرعون أو هامان. 

إذن ما الذي دعا لهذه القسمة وما هو جدواها؟ نقول إن الذي دعا لذلك هو ضبط الحالة المعرفية وتوجيهها لتثمر، وتكريس فكرة أن يتكلم الإنسان بما يحسن، وألاَّ يتشبع بما لم يعط، وأن يكبح بعض الناس جرأتهم في إطلاق الأحكام البلهاء بثقة العباقرة على رأي الشيخ الغزالي، فما نريده أن يدخل الإنسان لأي مجال من بابه، وأن تُتَناولُ المعرفة بمعرفة. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين