ثمن الشهوات العاجل منها والآجل!!

 

ما أشأم العصيان وأوخم عقباه! إنه قاتل للأفراد والأمم على سواء

 

ولست أعني بالعصيان كبوة الجواد وهو ماض إلى غايته، راكضاً لا يكسل عازماً لا يهن مبصراً لا يعمى! كلا فلكل سائر جاد عثرة أو عثرات لا تضيع مروءته، وألا تسقط مكانته!!

 

وإنما أقصد بالعصيان استمراء الانحراف، وإيلاف الشهوات، وانفكاك العزيمة، وموت القلب!!!

 

هذا اللون من الحياة الظالمة المظلمة هو الذي ينتهي بالحضارات إلى التفسخ وبالأفراد إلى البوار، وبالبلاد وأهليها إلى متالف الغضب الإلهي، [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] {هود:117}.

 

وجماهير غفيرة من أهل أوروبا وأمريكا يعيشون في سكرة موصولة، وإن كان لا ينتهي لهم كدح، ويفتنون في الملذات، وإن كانوا كذلك يفتنون في الكشوف العلمية والكونية...

 

وعندما ألمح بشاشة الترف في حياتهم أقول: استغلوا تفوقهم  المادي والأدبي، واغتصبوا خيرات العالم المتخلف! فلما تراكمت النعم من فوقهم ومن تحت أرجلهم عاشوا على ذلك النحو! ما تلبسه المرأة في الصباح غير ما تلبسه في الأصيل وللسهرة ثوب غير ثوب النهار، وغناهم الفاحش من ثروات الضائعين يتيح لهم المزيد مما يشتهون...

 

لكن عجبي لا ينقضي من الدهماء في البلاد المتخلفة، ما حرصهم على تقليد أولئك الناس في فنون اللذة التي يخترعونها؟

 

لماذا تصر النساء على أن تكون ثيابهن في هذا الفصل غير ما في الفصل السابق من العام، مع أنهن يعشن في بلاد فقيرة إلى التقدم محتاجة إلى ما يعينها على الجد والانطلاق؟؟

 

إذا كان الاستعمار العالمي قد مكَّن الأمم الغالبة من التشبع والسرف فما معنى أن تتكالب الأمم الغصوبة المحروبة على استيراد تقاليد الفساد من هنا وهناك؟!!

 

إن للمعاصي وجهين دميمين: أحدهما قيمتها عند الله، فإن الله يكره أن يجحد وينسى، وأن يهيم عباده وراء نزواتهم القريبة والبعيدة غير مؤدين له حقاً ولا موفين له بعهده، أن العقاب الذي ينتظرهم عدل، ويومئذ يسمعون قول الحق، [ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ] {غافر:75-76} .

 

أما الوجه الآخر: فهو أثر هذا التحلل في المجتمعات البشرية، إنه يستتبع كارثة قومية مدمرة، ويكاد، في نظري، يمثل خيانة وطنية للأرض التي نعيش فوقها، والجماهير التي نضطرب بينها...

 

ومنذ أيام قرأت كتاباً عن الجاسوسية ومغامراتها فشعرت بأن افتضاح الأسرار، وانكشاف المخبوء لا يعود إلى ميل بعض الناس إلى معاقرة الخمر ومعاشرة النساء.

 

إن السكر والزنا ليسا قذارات فردية فقط، بل وسائل طيعة لقتل الأمم وتسليم مقدراتها لخصومها..

 

ولو عقلت الأمم العربية كلها لاعتبرت الدعوة إلى اللهو، واحوالها ما تعلم، جريمة خلقية وسياسية معاً و لاعتبرت توهين الإيمان خيانة لله والناس، وتخريباً للمستقبل والحاضر جميعاً...

 

إنه باسم الفن تثور في كياننا براكين مدمرة، ومن عشرات السنين ونحن نرفع عقائرنا بالتحذير دون جدوى....وقد أثبت هذه الخاطرة لي من ربع قرن أعود إلى ذكرها..

 

علم العرب والعجم والأنس والجن أنه كان للمسلمين ملك طويل عريض في ديار الأندلس عمرت به حيناً ثم حرمت منه وحرم منها، وانطوت بطون التاريخ على ذكرياته الجلوة والمرة! وقد يحدث أن ينبش المسلم الثرى عن رفات هذا التاريخ المدفون فإذا هو يطالع من أنبائه ما يذكر بقول القائل:

 

أبك مثل النساء ملكاً تولى=لم تحافظ عليه مثل الرجال

 

ولكن الأستاذ الأديب محمد اسعاف النشاشيبي، جزاه الله لا يرى بعد أن يطالع التاريخ الأندلسي البكاء مع النساء، بل يرى الرقص مع النساء ويقول: (الرقص شيء حسن لا يجادل في حسناته وفضائله مؤمن)...

 

وطبيعي أنه يقصد بالإيمان شيئاً آخر غير الإيمان بالله ورسوله، أي: غير الإيمان بالإسلام وفضائله وحسناته فلما أعوزته الشواهد على صدق رأيه ذهب إلى كتاب (نفح الطيب عن غصن الأندلس الرطيب) لينقل لنا صورة من صور الخلاعة والتهتك الذي جنح إليه بعض الأمراء والوزراء الأندلسيين في عصور انحطاطهم وتحللهم الذي لم يزل بهم حتى أحلهم دار الهوان.

ذهب الأستاذ الأديب إلى كتاب (نفح الطيب...) فأخرج منه القصة الآتية: (كان المنصور بن عامر سلطان الأندلس قد عزم في يوم على الانفراد، فأمر باحضار من جرى رسمه من الأدباء والندماء وأحضر الوزير (أحمد بن شهيد) في محفة لتقرس كان يعتاده وأخذوا في شأنهم.

فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله، وطما الطرب، وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد فأقامه الوزير أبو عبد الله بن عباس، فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ويرتجل ويومئ إلى المنصور وقد غلبه السكر:

هاك شيخنا قاده عذر لكا=قام في رقصته مستهلكا

لم يطق يرقصها مستتبتا=فأثنى يرقصها مستمسكا

عاقه عن هزها منفردا=تقرس أخنى عليه فاتكا

من وزير فيهم رقاصة=قام للسكر يناغي ملكا

أنا لو كنت كما تعرفني=قمت إجلالاً على رأس لكا

قهقه الابريق مني ضاحكا=ورأى رعشة رجلي فبكى

ونحن نذكر القصة آسفين، ليرى القارئ في ثناياها أطراف مأساة كأبيه، تصرخ بأسرار الانهيار الذي أصاب بناءنا، وتفصح عن أسباب الهزيمة التي طوت عن هذه البقاع اعلامنا.

 

وقد كان المظنون بكل مؤرخ مسلم إذا عرض لهذه المخازي أن ينير بها شتى العبر، وأن يجعل من توجيهها دروساً تنفع الأمة في حاضرها ومستقبلها، لا أن يذكرها على سبيل الاحتجاج لمحاسن الرقص وفضائله، ثم يدعو الناس إلى الاقتداء الأثيم بملوك ذلك مسلكهم، ووزراء هذا عملهم يعاقرون الخمر! ويهيجون للرقص، ولا يجوز أن يشيع المسلمون سيرتهم إلا بالأسى واللعن.

 

ثم هم لم يكونوا، بعد، شيئاً طائلاً في المحافظة على دنياهم حتى سئم المتنبي أبهتهم الكاذبة وألقابهم الفارغة وصد عن الذهاب إليهم قائلاً أبياته المشهورة:

مما يزهدني في أرض أندلس=ألقاب معتصم فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها=كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

 

والعجيب في أمر كاتب مقال الرقص أن يذهب إلى كتب السيرة ليروي منها كيف أن الأحباش رقصوا في المسجد!

 

كأن المساجد صالات تتلوى فيها البطون والظهور، فيسوغ لنا أن نذكر ما حدث فيها بين يدي الرقص الأندلسي المخمور!! أي كأن الألفاظ وسيلة للتلبيس على العقول وتضليل الناس، عن الرقص الذي شهده الرسول صلى الله عليه وسلم والذي لم يكن في الحقيقة غير عرض عسكري طريف.

 

ماذا على الناس لو أراحوا الدين من عنت الأهواء الجامحة؟! فإذا أرادوا العصيان لم يلجأوا إليه بفتوى تشرعه...

 

ثم لنا أن نتسائل: هل الجو الذي يعيشه المسلمون الآن في غيومه ورجومه يتحمل هذا اللغو من الكلام؟!

 

ألا فليطمئن الكاتب الراقص: فإن المسلمين الآن جميعاً يرقصون ولكن كما يقول القائل:

 

لا تحسبوا رقصي بينكم فرح=فالطير يرقص مذبوحاً من الألم

 

ما قرع آذاننا من فواجع مئات القتلى من المسلمين في كل مكان، يغتالهم لصوص العقائد فذهبوا إلى الله ضحايا الظلم المنظم، وضحايا ما أصاب المسلمين من خور في القوة وتطلع إلى الشهوة.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد العاشر السنة الخامسة والعشرون جمادى الثانية 1391 أغسطس 1971

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين