ثُمامة ابن أثال أسير إحسان النبي صلى الله عليه وسلم

 

      في السنة السادسة من الهجرة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم  إلى بعض ملوك الأرض  بكتب  يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكان من جملة من كاتبهم ثمامة بن أثال الحنفي، سيد بني حنيفة، وملك من ملوكها ، فلما وصله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته العزة بالإثم وتلقاه بالإعراض، ثم ركبه الشيطان فأغراه بالتخطيط لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته

ثم خرج ثُمَامَة بن أثال من اليمامة  متنكراً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب فأخذه المسلمون  أسرته سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم تجوس خلال الديار؛ خوفًا من أن يطرق المدينة طارق يريدها بشر، أسرت السرية ثمامة وهي لا تعرفه، فأتت به إلى المدينة وشدته إلى سارية من سواري المسجد – سارية التوبة - ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف عليه بنفسه، وأن يأمر فيه بأمره.

ولننظر إلى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم الحسنى للأسرى وأثرها عليهم من خلال قصة ثمامة بن أثال الذي حوله لطف النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانه من مشرك موتور حاقد إلى مسلم داعية ومجاهد ومناضل ومنافح ومدافع عن  الإسلام والمسلمين

يقول أبو هريرة  رضي الله عنه  قال: خرجت خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت رجلاً من بني حنيفة لا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالصلى الله عليه وسلم:(أتدرون من أخذتم؟)

قالوا: لا والله يا رسول الله !!

قال: (هذا ثمامة بن أثال، هذا سيد حنفية وفارسها أحسنوا إساره, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: (اجمعوا ما كان عندكم من طعامكم فابعثوا به إليه

وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها ويراح 

ثم خرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) 

فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (ما عندك يا ثمامة؟) قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) 

فقال: عندي ما قلت لك  

قال أبو هريرة  رضي الله عنه : فجعلنا المساكين نقول بيننا, ما نصنع بدم ثمامة !! والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة !! 

فقال صلى الله عليه وسلم:(أطلقوا ثمامة) 

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: 

أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبْغَضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُكَ أحبَّ الوجوه كلِّها إليَّ، والله ما كان من دِين أبغَضَ إليَّ من دينِك، فقد أصبح دِينُك أحبَّ الدِّين كلِّه إليَّ، والله ما كان من بلد أبغَضَ إليَّ من بَلَدِك، فقد أصبح بَلَدُك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ" 

ثمّ أقبل فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فلمّا أمسى جاءوا بما كانوا يأتونه من طعام فلم ينل منه إلا قليلاً، وجاءوا باللقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيراً، فتعجب من ذلك المسلمون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(ما يعجبون من رجل أكل في أول النهار في معاء كافر وأكل من آخر النهار في معاء مسلم, الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معاء واحد

ثم قال ثمامة  رضي الله عنه  : 

يا رسول الله إنّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره  رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول اللهصلى الله عليه وسلم ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم 

قال ابن هشام : 

"بلغني أنه خرج معتمراً ، حتى إذا كان ببطن مكة لبى، فكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش، فقالوا: لقد اخترت علينا ، فلما قدموه ليضربوا عنقه قال قائل منهم: دعوه 

فإنكم تحتاجون إلى اليمامة لطعامكم فخلوه فقال الحنفي في ذلك: 

ومنّا الذي لبى بمكة معلناً                برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم

فلما قدم مكة قالوا : أصبوت يا ثمام ؟! 

فقال لا ، ولكني اتبعت خير الدين دين محمد 

ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً" 

وكانت اليمامة بلد ثمامة  رضي الله عنه  من الأرضين الخصبة في جزيرة العرب، قال عنها أهل الأخبار: كانت أحسن بلاد الله أرضًا، وأكثرها خيرًا وشجرًا ونخيلاً من سائر الحجاز , وقد نعتت بـ"ريف مكة"، إذ كانت تمون مكة بالحبوب 

فلما أضرّ بهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

إنّ عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها, وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا, فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلى بيننا وبين ميرتنا فافعل 

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

(أن خل بين قومي وبين ميرتهم) 

ثم قدم ثمامة  رضي الله عنه  على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: 

(يا ثمامة، لا يثأر المسلم بالكافر، ولكن ارجع إلى قومك فادعهم إلى الإسلام، فمن أقر منهم بالإسلام واتبعك فانطلق إلى بني قشير ولا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، فإن بايعوك حرمت عليك دماؤهم، وإن لم يبايعوك فقاتلهم) فدعا قومه فأسلموا معه، ثم غزا بني قشير فثأر بابنه" 

ظلّ ثمامة  رضي الله عنه  ما امتدت به الحياة وافيًا لدينه، حافظًا لعهد نبيه صلى الله عليه وسلم أسيراً لإحسانه , فلمّا التحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وخرج الأعراب من دين الله أفواجاً ، وقام مسيلمة الكذاب في بني حنيفة يدعوهم إلى تبوته المزعومة، وقف ثمامة موقفًا شجاعًا في وجه مسيلمة الكذاب

وفكلما وسوس له الشيطان بالردة عصمه إحسان النبي صلى الله عليه وسلم إليه فقد كان يقول: 

أهم   بترك   القول   ثم   يردني            إلى  القول   إنعام   النبيّ  محمد

شكرت له فكّي من الغل بعدما            رأيت  خيالاً  في  حسام  مهند 

قال محمد بن إسحاق: 

لـمّا ارتد أهل اليمامة عن الإسلام نهاهم ثمامة عن اتباع مسيلمة وتصديقه وكان يقول لهم:

إياكم وأمرا مظلماً لا نور فيه, وإنّه لشقاء كتبه الله  على من أخذ به منكم , وبلاء من لم يأخذ به منكم يا بني حنيفة فثبت معه كثير من قومه رضي الله عنه  

لقد ثبت ثمامة  رضي الله عنه  مع ممن ثبت، وأغلظ لمسيلمة وبرئ منه وقال: 

ما قضيت حق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد.

وجمع بني حنيفة وخطبهم فقال: 

يا بني حنيفة إني أرى فيكم بغياً ولجاجة، والبغي هلاك، واللجاج نكد، وإنكم والله لو قاتلتم أمثالكم لما خفت أن يغلبوكم ولكنكم تقاتلون النبوة بالكهانة، والقرآن بالشعر، والأنصار بالكفار، والمهاجرين بالأعراب، فلو كان لنادم إقالة أو لشاك بقاء، لم نكره أن تذوقوا عواقب ما أنتم فيه ولكنه هلاك الأبد 

وكان ثمامة بن أثال  رضي الله عنه  يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يومًا لأصحابه: 

إن محمدًا لا نبي معه ولا بعده، كما أنّ الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته, يا 

قومي أين قول مسيلمة: يا ضفدع نِقي نقي، كم تنقين! لا الماء تكدرين، ولا الشِربَ تمنعين!!؟؟ 

من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ

يقول الدكتور أكرم ضياء الدين العمري:

"كان في بني حنيفة قبيلة مسيلمة عدد كبير من المسلمين وقد قاوموا مسيلمة بقيادة ثمامة بن أثال" 

ثم انتقل ثمامة بن أثال  رضي الله عنه  من مقاومة الردة باللسان إلى السنان فلحق بالعلاء بن الحضرمي  رضي الله عنه  في مقاتلة المرتدين 

فقد بعث الصديق صلى الله عليه وسلم  بجيش إلى البحرين بقيادة العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه  فلما دنا من البحرين انضم إليه ثمامة بن أثال رضي الله عنه  في محفل كبير من قومه 

يقول الحافظ ابن حجر: 

"في قصة ثمامة من الفوائد ربط الكافر في المسجد والمن على الأسير الكافر وتعظيم أمر العفو عن المسيء لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل وفيه الاغتسال عند الإسلام وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير" 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين