أذيع صباح الثلاثاء 23 من شعبان 1381 هجرية، جعله الله نافعاً خالصاً لوجهه الكريم
أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.
فعنوان حديثي إليك اليوم: ثلاثةٌ من أصحاب المال بين النجاح والرسوب
إنَّ الإنسان في طبيعته ميال للاحتواء، حريص على ادخار المال، متسارع إلى جمعه، متباطئ في بذله ودفعه، يركب في سبيل تنميته الأهوال والمخاطر، وقد يجنح أحياناً إلى اكتسابه من طريق حرام، وهو يظن أنه يحسن صنعاً، ومزيداً لخير نفسه جَمْعاً، ولهذا لا يستكثر الإنسان المال مهما كَثُرَ لديه، بل من المشاهد أن كثرة المال تزيد صاحبه نَهَماً فيه وتطلعاً إلى الازدياد منه، حتى إنه لينسى أن المال وسيلة إلى غيره، فيجعل همَّه كلَّه منصباً على جمع المال، ويصبح المال لذاته مقصِداً أساسياً له، يتفنن في طرق تحصيله أيَّ تفنن، ولا يسمح لخاطره أن يفكر في طرق بذله وإخراجه من حوزته ولو حاز القناطير المقنطرة، روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن ابن آدم أُعطي وادياً مَلْأً من ذهب، أَحبَّ إليه ثانياً، ولو أُعطي ثانياً أحبَّ إليه ثالثاً، ولا يَسدُّ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويتوبُ الله على من تاب.
وهذه النزعة النفسية للمال تكاد لا تخلو من إنسان، ولهذا حضَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على تحصيل المال حضاً حكيماً، وحذر من التهالك في جمعه تهالكاً ذميماً، وبيَّنَ أن الإنسان قد خرج من بطن أمه إلى هذه الدنيا فقيراً أجرد ضعيفاً لا يملك شيئاً، فرزقه الله وأنعم عليه، روى ابن حبان في صحيحه عن حَبَّة وسَواءٍ ابني خالد الخزاعي رضي الله عنهما أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملاً يبني بناءً، فلما فرغ دعاهما فقال: لا تَنَافَسَا في الرزقِ، ما هَزَّت رؤوسكما - يريد ما بقيتما في الحياة - فإن الإنسان تلده أمه وهو أحمرُ ليس عليه قِشر، ثم يعطيه الله ويرزقه. وروى ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أيها الناس اتقوا الله وأَجمِلُوا في الطلب، فإنَّ نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقَها وإنْ أبطأَ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلَّ، ودعوا ما حَرُم.
ولقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمِه رعايةَ حق الفقير في المال ورعايةَ حق المال أيضاً: أنْ حدَّث أصحابه بحادثة وقعت لثلاثة من بني إسرائيل، كانوا في فاقة وعاهة، ثم أبدلهم الله بتلك الفاقة والعاهة غنىً وجمالاً، ثم اختبرهم في تلك النعمة التي أغدقها عليهم، فرسب اثنان منهم في الاختبار، ونجح واحد فقط.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن ثلاثةً من بني إسرائيل؛ أبْرَصَ وأقرعَ وأعمى، أراد الله أن يَبْتَلِيَهُمْ - أي يختبرهم - فبعث الله مَلَكاً – أي في صورة إنسان- فأتى الأبرصَ فقال له: أيُّ شيء أحبُّ إليك؟ قال: لونٌ حَسَنٌ وجِلْدٌ حسن، ويذهبُ عني هذا الداء الذي قَذِرَني الناس من أجله. فمسحه الملَك، فذهب عنه قَذَرُه - أي داؤه وهو البرص - وأُعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، ثم قال له: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الإبل. فأُعطي ناقة عُشَرَاء- أي حاملاً - وقال له الملَك: بارك الله لك فيها.
ثم أتى الأقرع فقال له: أي شيء أحب إليك؟ قال: شَعْرٌ حسن، ويذهبُ عني هذا الذي قَذِرَني الناس من أجله! فمسحه الملَك فذهب عنه ذلك الداء، وأُعطي شعراً حسناً، ثم قال له الملَك: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: البقر. فأعطي بقرة حاملاً، وقال له الملَك: بارك الله لك فيها.
ثم أتى الأعمى، فقال له: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إليّ بصري فأُبصِرَ به الناس. فمسحه الملَك فردَّ الله إليه بصره، قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنم. فأُعطي شاةً والداً. أي ذات ولد.
فأُنْتِجَ هذان ووَلَّد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، ثم إن الملَك أتى الأبرص في صورته - أي صورة إنسان أبرص مثل الصورة والهيئة التي كان عليها الأبرص قبل أن يذهب بَرَصُهُ - فقال له: رجلٌ مسكين وابن سبيل - أي أنا فقير ومسافر - قد انقطعت بي الحبال - أي الأسباب - في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلا بالله ثم بك - أي لا وصول لي اليوم إلى بلدي - أسألك بالذي أعطاك اللونَ الحسن والجلد الحسن والمالَ الكثير بعيراً أتَبَلَّغُ به في سفري. فقال له: الحقوق كثيرة! - أي ليس عندي ما يزيد عن حاجتي وأداء الحقوق التي عليَّ- فقال له الملَك: كأني أعرفك؟ ألم تكن أبرص يقذَرُكَ الناس؟ فقيراً فأعطاك الله؟ فقال الرجل: إنما ورثتُ هذا المال كابراً عن كابر! - أي إنما ورثت هذا المال عن آبائي وأجدادي وأنا أصيل في الغنى والثراء - فقال له الملَك: إن كنتَ كاذباً في دعواك فصَيَّرَك الله إلى ما كنت. فردَّه الله إلى ما كان؛ أبرص فقيراً.
ثم أتى الملَك إلى الأقرع في صورته - أي صورة إنسان أقرع مثل الصورة والهيئة التي كان عليها الأقرع قبل أن يذهب قرعه - فقال له أيضاً: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال الكثير بقرةً أتَبَلَّغُ فيها في سفري. فقال له: الحقوقُ كثيرة! فقال له الملَك: كأني أعرفك؟ ألم تكن أقرع يقذرك الناس؟ فقيراً فأعطاك الله؟ فقال الرجل: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابراً. فقال له الملَك: إن كنتَ كاذباً في دعواك فصيّرك الله إلى ما كنت. فردَّه الله إلى ما كان؛ أقرع فقيراً.
ثم أتى الملَك إلى الأعمى في صورته وهيئته - أي في صورة أعمى مثل الصورة والهيئة التي كان عليها الأعمى قبل أن يذهب عنه عماه- فقال له: رجلٌ مسكينٌ وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتَبَلَّغُ فيها في سفري. فقال الرجل له: قد كنتُ أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئتَ ودَعْ ما شئتَ، فو الله لا أجْهَدُك - أي لا أمنعك وأشق عليك - بشيء أخذته لله عز وجل. فقال له الملَك: أمسِكْ عليك مالك، فإنما ابتُليتُم، فقد رضي الله عنك، وسَخِطَ على صاحبيك.
فيا أيها الذين أنعم الله عليكم بالغنى واليسار، وأكرمكم بالسمع والبصر، وعافاكم من الأمراض والعاهات، وأسبغ عليكم الصحة والشبع والمأوى، تذكروا فضل الله عليكم، وواسوا إخوانكم الذين حُرِموا هذه النعم التي جاد الله بها عليكم، واحرِصُوا أن تكونوا ناجحين في اختبار نعمة المال لا راسبين، واسمعوا قول الله تعالى إذ يتكفل لكم التعويض المضاعف والجزاء الحسن على ما تقدمون: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾، والسلام عليكم ورحمة الله.
من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول