ثغرة مُحقَّرات الذنب

 

قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : "إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا"، فيه أن الإيمان لا يرفع عقوبة صغائر الذنوب فكيف بكبارها يدل عليه قوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[1]"  وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أي مكتوبا أي مثبتا في كتابهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أي لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا ولا يؤاخذ أحدا بجرم لم يعمله ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[2] في الصحيح عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،: «إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم مِنَ المُوبِقَاتِ» «يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ»[3] (أدق في أعينكم) كناية عن احتقارهم لها واستهانتهم بها. (المهلكات) الذنوب الكبيرة]

 

قوله هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ رحماك ربنا. يقول ابن بطال – رحمه الله - وَكَانَت الصَّحَابَة يعدون الصَّغَائِر من الموبقات لشدَّة خشيتهم لله وَإن لم تكن لَهُم كَبَائِر، ، ألا ترى أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم  إذا سئل الشفاعة يوم القيامة يذكر  أنه كذب ثلاث كذبات، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، 1-قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ أي: سأسقم – لو خرجت معكم في باطلكم ولهوكم -  2- وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، يعنى الصنم – مع أنه هو الذي " فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ"[4]  " تنفيذا وبرا بيمينه " وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ"[5] " فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ"[6]  3-وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ  وهى قوله في زوجته: هذه أختي. وهى أخته في الدين[7] ، فرأى ذلك صلى الله عليه وسلم  من الذنوب، وإن كان لقوله وجه صحيح، فلم يقنع من نفسه إلا بظاهر يطابق الباطن، وهذا غاية الخوف. والمحقرات، إِذا كثرت صَارَت كَبَائِر للإصرار عَلَيْهَا والتمادي فيها"[8]

 

يقول أبو أيوب: إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها ويغشى المحقرات، فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئته، وإن الرجل ليعمل السيئة، فما يزال منها مشفقًا حذرًا حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا[9].

 

وقال أبو عبد الرحمن الحبلى: مثل الذى يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقيه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذى يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات. قَالُ الصَّدِيقِ : إِنَّ اللهَ يَغْفَرُ الْكبائرَ فَلَا تَيْئَسُوا ، وَيُعَذِّبُ عَلَى الصَّغَائِرِ فَلَا تَغْتَرُّوا "[10] وفي الصحيح: قَالَ رَسُولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ تُعْبَدَ الْأَصْنَامُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ سَيَرْضَى مِنْكُمْ بِدُونِ ذَلِكَ، بَالْمَحَقَّرَاتِ وَهِيَ الْمُوبِقَاتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاتَّقُوا الْمَظَالِمَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَجِيءُ بِالْحَسَنَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُو يَرَى أَنْ سَتُنَجَّيهِ، فَمَا زَالَ عَبْدٌ يَقُومُ يَقُولُ: يَا رَبِّ ظَلَمَنِي عَبْدُكَ فُلَانٌ بِمَظْلِمَةٍ قَالَ: فَيَقُولُ: امْحُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ، قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى لْا يَبْقَى مَعَهُ حَسَنَةٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَسَفْرٍ نَزَلُوا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، لَيْسَ مَعَهُمْ حَطَبٌ، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ لِيَحْتَطِبُوا، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنِ احَتَطَبُوا وَأَنْضَجُوا مَا أَرَادُوا قَالَ: وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ "[11]

 

«ولَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم مِنْ حُنَيْنٍ نَزَلَ قَفْرًا مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَقَالَ: " اجْمَعُوا، مَنْ وَجَدَ شَيْئًا فَلْيَأْتِ بِهِ، وَمَنْ وَجَدَ عَظْمًا أَوْ سِنًّا فَلْيَأْتِ بِهِ "، قَالَ: فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةٌ حَتَّى جَمعوا رُكَامًا بين يديه ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " أَتَرَوْنَ هَذَا؟ فَكَذَلِكَ تُجْمَعُ الذُّنُوبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْكُمْ كَمَا جَمَعْتُمْ هَذَا، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَجُلٌ، فَلَا يُذْنِبُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً ; فَإِنَّهَا مُحْصَاةٌ عَلَيْهِ»[12].

 

وفي الصحيحين  «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ» فَقَالَ بِهِ هَكَذَا،.. بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ"[13]  يُطَيِّرُه. فمن مداخل إبليس ، وتلابيسه : تهوينه أمر الذنوب ولا سيما - صغائرها واحتقار شأن بعضها حيث يقول له : مَا عَلَيْكَ إِذَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ مَا غَشِيتَ مِنَ اللَّمَمِ، أَوَمَا عَلِمْتَ بِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبِالْحَسَنَاتِ، وَلَا يَزَالُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا حَتَّى يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ الْخَائِفُ الْوَجِلُ النَّادِمُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ. وفي الصحيح :"..مَثَل مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى حَمَلُوا مَا أنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ وإنَّ مْحَقَّراتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخذْ بها صاحبها تهلكه"[14]  وَمعنى الحَدِيث رَاجع إِلَى قَوْله عز وَجل: {وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم}[15] ، وفي الحديث " لا تَنْظُرُوا إِلَى صِغَرِ الذُّنُوبِ وَلَكِنِ انْظُرُوا عَلَى مَنِ اجْتَرَأْتُمْ"[16]. وفي رواية ".. وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ تَعْصِي". وفي اعتصام الشاطبي – رحمه الله - إِنَّ الَّذِي قَطَعَ الْعِبَادَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَقَطَعَهُمْ عَنْ أَنْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَبْلُغُوا حَقَائِقَ الصِّدْقِ، وَحَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْآخِرَةِ، تَهَاوُنُهُمْ بِأَحْكَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَبُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ. وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحْكَمُوهَا لَأُدْخِلَ عَلَيْهِمُ الْبِرُّ إِدْخَالًا تَعْجَزُ أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما ورثهم اللَّهُ مِنْ حُسْنِ مَعُونَتِهِ، وَفَوَائِدِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنَّ أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب، وتهاونوا بِالْقَلِيلِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، فَحُرِمُوا لذة ثواب الصَّادِقِينَ فِي الْعَاجِلِ)[17] ولهذا أحسن القائل

 

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى ...

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ ... ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى ...

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الكهف : 49

[2] الزلزلة : 7 -8

[3] صحيح البخاري كِتَابُ الرِّقَاقِ بَابُ مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ

[4] الصافات : 93

[5] الأنبياء: 37

[6] الأنبياء :58

[7] صحيح البخاري كِتَابُ أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاءِ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] صحيح مسلم كتاب الْفَضَائِلِ بَابُ مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمِ الْخَلِيلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

[8] شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 202)

[9] شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 202)

[10] شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 203) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (29/ 548)

[11] شعب الإيمان (9/ 404) صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 2221

[12] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 190)

[13] صحيح البخاري كِتَابُ الدَّعَوَاتِ بَابُ التَّوْبَةِ أخرجه مسلم في التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بها

[14] صحيح الجامع حديث رقم: 2686

[15] (النُّور: 51)

[16] العلل المتناهية في الأحاديث الواهية (2/ 287)

[17] الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 122)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين