اشتهرت القُدس -مستمدةً ذلك من موقع المسجد الأقصى في قلبها- بمنزلتها الدينية والعلمية، ومع ذلك فلم يخلُ تاريخها من وضعيّة سياسية مميزة كادت تدفع الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ/719م) إلى اتخاذها عاصمةً للخلافة الإسلامية برمّتها!!فمؤرخ الأقصى شمس الدين الأسيوطي يروي -في ‘إتحاف الأخِصّا‘- أن الخليفة سليمان "أتى بيت المقدس وأتته الوفود بالبيعة..، فكان يجلس في قبة في صحن مسجد بيت المقدس مما يلي الصخرة… ويبسط البُسُط (= الفُرُش) بين يدي قبّته عليها النمارق (= الوسائد) والكراسي، فيجلس ويأذن للناس فيجلسون عل الكراسي والوسائد، وإلى جانبه الأموال، وكُتاب الدواوين (= الوزراء)، وقد هَمَّ بالإقامة ببيت المقدس واتخاذها منزلا، وجمْع الأموال والناس به"!!ولئن كان أمرُ اتخاذ بيت المقدس عاصمة لم يتمّ فعلاً؛ فإنّ المسلمين جعلوه عاصمة عزّتهم وكرامتهم، واعتبروا حاله مقياسًا يقيسون به عزّهم وشرفهم، حتى إنه في سنة 452هـ/1061م حدث أن "سقطت قبة الصخرة فتطيّر المسلمون من ذلك"! حسب أحمد بن يوسف القرماني (ت 1019هـ/1610م) في كتابه ‘أخبار الدول‘.ولم يكن خوفهم ذاك بعيدًا من الواقع؛ إذْ احتَلّ الصليبيون القُدسَ بعدها بأقل من نصف قرن، وألحقوا بأهلها من التقتيل والتنكيل ما صدم حتى المؤرخين الصليبيين أنفسهم الذين سنكتفي هنا بعرض بعض شهاداتهم بشأن ممارسات بني جلدتهم بحق سكان القدس ومقدساتها، التي ما فتئت هدفا للاستهداف الأجنبي ونقطة صدام ديني دائم مع الحضارة الغربية.ينقل مؤرخ الحضارات الأميركي وِيلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في ‘قصة الحضارة‘- عن أحدهم: "يقول القس ريمند الإجيلي (ت بعد 492هـ/1099م) شاهد العيان: وشاهدنا أشياء عجيبة، إذ قُطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين وقتل غيرهم رميا بالسهام، أو أرغِموا على أن يُلقوا أنفسهم من فوق الأبراج، وظل بعضهم الآخر يعذَّبون عدة أيام، ثم أحرِقوا في النار!! وكنتَ ترى في الشوارع أكوامَ الرؤوس والأيدي والأقدام! وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل"!!ويضيف ديورانت: "ويروي غيره (= ريمند الإجيلي) من المعاصرين تفاصيل أدق من هذه وأوفى؛ [فـ]ـيقولون إن النساء كُنَّ يُقتلن طعنا بالسيوف والحراب، والأطفال الرُّضّع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشّم رؤوسهم بدقها بالعَمَد، وذُبح السبعون ألفا من المسلمين الذين بقوا في المدينة، أما اليهود الذين بقوا أحياء فقد سيقوا إلى كنيس لهم، وأشعلت فيهم النار وهم أحياء"!!عنوان للمجد
وتصديقا لكلام هذا الشاهد الصليبي؛ يجدر التذكير برواية ابن العربي المتقدمة عن قتل الصليبيين "العالمة الشيرازية" ونحو ألف من تلميذاتها المرابطات بالأقصى، وثلاثة آلاف من العلماء والصُّلَحاء كانوا زينة أروقته وأكنافه! وكذلك مقولة المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) الذائعة: "قَتل الفرنجُ بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبّادهم وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف"!!وأما عن تدنيس الصليبيين للأقصى ومرفقاته؛ فحسبنا أن نمثّل له بما فعلوه في احتلالهم الثالث للقدس سنة 637هـ/1239م، على أنه كان أخف درجة مما فعلوه في احتلالهم الأول. وعندنا في ذلك شهادة موثقة لمؤرخ عاصر تلك الحقبة هو ابن واصل الحموي، الذي يقول -في ‘مفرِّج الكروب‘- عن زيارته القدس أيامها سنة 641هـ/1243م: "دخلتُ البيت المقدس ورأيتُ الرهبان والقُسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برَسْم (= لأجْل) القربان، ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرَس معلَّق، وأُبطِل (= أوقِفَ) بالحرم الشريف الأذانُ والإقامة، وأُعلِن فيه بالكفر"!!ومنذ وقتٍ قديم؛ عُدّ احتلال بيت المقدس عارًا في حقّ المسلمين –إذا سكتوا عليه- ولا سيّما حكامهم الذين أدى تقاتلهم وتخاذلهم إلى احتلاله ثلاث مرات، اثنتان منهما بالتسليم الطوعي للمحتلين وتمّتا خلال عقد واحد سنتيْ: 626هـ/1229م و637هـ/1239م. ويقول المؤرخ ابن الأثير معلقا على إحداها وأثرها في نفوس المسلمين حينها: "وتسلّم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين"!وقد ذكر المؤرخ الأديب الصفدي -في ‘الوافي بالوفيات‘- قصة بيتين شاع أمرهما بين الناس "لما خرب القدس"، وكأنهما قيلا على لسان هذه المدينة المقدسة:
إن يكن بالشآم قلَّ نصيري ** ثم خُرّبت واستمرّ هُلوكي
فلقد أثبتَ الغداةَ خرابي ** سِمَةَ العارِ في جِباهِ الملوكِ!!ونجد هذا المعنى -الذي يقرن بين ضياع الأقصى وإلحاق العار بالمسلمين- أوضح وأجلى في القصيدة الشهيرة للشاعر العالِم أبي المظفَّر الأبِيوَردي (ت 507هـ/1113م) التي نظمها وهو شاب عند احتلال القدس، مستنهضًا المسلمين عربًا وعجمًا لتحريرها، فكان مما قاله فيها وفقا لابن الجوزي في ‘المنتظم‘:
وتلك حروبٌ من يَغِبْ عن غمارها ** ليسلمَ، يقرعْ بعدَها سِنَّ نادمِ!!
أرى أمتي لا يشرعون إلى العِدى ** رماحَهُمُ، والدينُ واهي الدعائمِ
ويجتنبون الثأر خوفًا من الردى ** ولا يحسبون العارَ ضربةَ لازمِ
وليتهم إن لم يذودوا حميّةً ** عن الدينِ ضنوا غيرةً بالمحارم
وإنْ زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى ** فهلّا أَتَوْهُ رغبةً في المغانم!رعاية متجددة
ولذا حفظ التاريخ أسماء السلاطين الذين تشرّفوا بتحرير الأقصى وعلى رأسهم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي جعل من الأقصى نقطة ارتكاز لمشروع تحرير المنطقة كلها -وليس القدس وحدها- من الصليبيين، فصار له "بذلك الذكْر الجميل على تقضي الأعصار وممرّ الأيام"؛ وفقا لابن الأثير.وقد ازدادت مكانة الأقصى رسوخا في قلوب المسلمين بعد تحريره، وظهر ذلك من أول لحظة استعادوه فيها حين جاء في "خطبة الفتح" التي ألقاها قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي الشافعي (ت 598هـ/1105م)، وكانت بمحضر صلاح الدين في أول جمعة أقيمت بالمسجد الأقصى بعد تحريره؛ فوصفه فيها بأنه "أُولـ[ـى] القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه"!! ومن ثمّ برع من بعده خلفاؤه من "ملوك بني أيوب في فعل الآثار الجميلة بالمسجد الأقصى"؛ حسب العليمي.وذكر المؤرخون أيضا سعي السلاطين المماليك -الذين ورثوا الدولة الأيوبية- للعناية بإدارته ومرافقه، وربط شرعية حكمهم بخدمة أهله والدفاع عنه، وترسيخ ذلك في وعي الجماهير؛ حتى إن عادة قراءة المراسيم السلطانية بالمسجد الأقصى كانت متأصلة بحيث عُيِّن لها موظفٌ خاصّ بها، مثل الشيخ شمس الدين محمد بن محمد المقرئ المؤذّن الشافعي (ت 875هـ/1470م) الذي حكى العليمي أنه كان "يقرأ المراسيم الشريفة الواردة من السلطان على دكة المسجد الأقصى".بل إنهم كانوا إذا أصدروا قرارات عادلة نقشوها في الرخام وألصقوها على جدرانه تأكيدا لأهميتها عندهم وقوة إلزامها لهم ولولاتهم وللرعية. ومن ذلك ما أورده العُليمي من أن السلطان المملوكي برقوق "أبطل المكوس (= الضرائب) والمظالم والرسوم التي أحدثها النواب قبله بالقدس الشريف، ونقش بذلك رُخامةً وألصقت على باب الصخرة من جهة الغرب".وكذلك فعل ابنه وخليفته في الحكم الناصر فرَج (ت 815هـ/1412م) الذي حرص على فصل إدارة المقدسات بالأقصى عن اختصاصات والي السلطة بالقدس، فكان "من جملة ما رسَمَ (= أمَرَ) به بالقدس الشريف أنّ نائب القدس (= الوالي) لا يكون ‘ناظر الحرمين الشريفين‘ (= حرم الأقصى والحرم الإبراهيمي بالخليل)، ولا يتكلم على النظر بالجملة الكافية، ونُقش بذلك بلاطة وأُلصِقتْ بحائط باب السلسلة عن يمنة الداخل من الباب"!!وفي العهد العثماني عاشت القدس والأقصى أحد أعزّ عصورها على الإطلاق؛ فبعد ضمّ السلطان العثماني سليم الأول (ت 926هـ/1520م) منطقة الشام إلى دولته زار القدس -وهو في طريقه إلى مصر- أواخر سنة 922هـ/1517م، وهناك استقبله "علماء المدينة وأتقياؤها وحكماؤها وشيوخ العربان فيها، وسلّموه مفاتيح المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، فسجد لله حامدا وقال: “الحمد لله! فأنا اليوم حامي القبلة الأولى”!!…، وكان يبكي في المسجد الأقصى بكاء حارا"!! حسب د. أحمد حسين الجبوري في كتابه ‘القدس في العهد العثماني (1516-1640م)‘.أما خليفته السلطان سليمان القانوني (ت 974هـ/1566م)؛ فيقول الجبوري إنه في ظل حكمه "نعمتْ القدسُ بأزهى أيامها في العهد العثماني…، [إذْ] نالت.. اهتماما فائقا وقام بأعمال تعمير ضخمة في القدس..؛ ومن الأعمال المهمة للسلطان سليمان القانوني تجديد بناء قبة الصخرة المشرفة سنة 949هـ/1552م".ويضيف أن القانوني تقدَّم خطوة أخرى في منح القدس والأقصى مكانة متميزة، حين أشرك مؤسسة الفتوى بها في ترتيبات حمايتها؛ حيث أصدر "في سنة 944هـ/1537م فرماناً (= قراراً) بمنع الإنكشارية (= العساكر العثمانية) من الدخول إلى القدس، وأوكل مسألة الأمن وضبطه إلى مفرزة تم اختيارها من عناصر إنكشارية متميزة، وقد عهد إلى مفتي القدس بانتقائها"!!
الحلقة السابقة هـــنا
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول