تونس.. النكوص الثوري والأخلاقي



ابكوا ثورة كالنساء لم تحافظوا عليها كالرجال.. ربما لو كانت أم أبي عبدالله الصغير حية بين أظهرنا لهمست بها في آذان ثوار تونس اليوم، كما همست من قبل في أذن ابنها أبي عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس... ضاعت الأندلس بحسن الظن بأعداء الله فترامى العبادلة الصغار في أحضان الإفرنج على أمل أن يُمدد في أعمار سلطانهم.
تماماً كما قال الشاعر العربي


ولا تشك إلى خلق فتشمته =شكوى الجريح إلى الغربان والخرم


اليوم يُحسن ثوار تونس الظن بفلول زين الهاربين ويسلمونهم تاج ثورة كانت مفجرة ثورات العرب ومفخرتهم، فأتى الانتقام على قدر حسن الظن بهم حيث توجهوا إلى سفاح الشام وطاغيتها الذي يعدُّ بتقييم كل أرباب الثورات المضادة الخط الدفاعي الأول والأخير لراهنهم ومستقبلهم، ولذا نرى الترامي عليه ودعمه من سيسي مصر إلى حوثيي اليمن وحفترات ليبيا.
يعلن سبسي مصر أو سيسي تونس لا فرق عن إعادة فتح سفارة السفاح في تونس الخضراء ويستعد لاستقبال سفير الإجرام، ضارباً عرض الحائط بأخلاق ثورة تونسية عظيمة قامت ضد الظلم والاستبداد التونسي المغسول مليون زوم كما يقولون في الشام عن ظلم طغاة تونس، ويضرب معه بقرارات الجامعة العربية، ويتشدقون بالتذرع بأن ذلك لمصالح التونسيين الموجودين في سورية، وكأنهم كانوا يعملون ضد هذه المصالح على مدى سنوات من الإغلاق، ويردُّ عليهم الحر الجزائري أنور مالك إن كان المعيار هو الجالية التونسية فثمة ثلاثة آلاف مقاتل تونسي مع تنظيم الدولة «داعش» بحاجة إلى تعيين سفير لرعاية مصالحهم أيضا.
ولكن للتذكير جاء هذا الموقف التونسي المنسجم مع عودة الفلول إلى الحكم مع قرار آخر منسجم أيضاً مع فلول مصر حين رفع السيسي علم طاغية الشام في مؤتمر القمة العربية الأخير رافضاً استقبال وفد المعارضة السورية، ومصراً على استقبال وفد النظام لولا الموقف السعودي، فتحايل على الصفعة السعودية بقراءة رسالة طاغية الكرملين في القمة فردّ عليه الأمير سعود الفيصل.
لم تقف الحكومة التونسية عند هذا الحدّ للأسف في الافتئات على الحقيقة والواقع، وإنما ذهبت إرضاءً لأسياد المتوسط كما زعموا زوراً وبهتاناً، وهم أنفسهم من يحلمون بإمبراطورية ساسانية أو فارسية مستغلين كل شيعي عربي وعجمي وقوداً لإمبراطورية نارهم، وقد ابتلعت تونس الواقعة على المتوسط الطعم واتهمت الحلقة الأضعف كما تظن تركيا بتسهيل حركة المقاتلين التونسيين إلى سورية جرياً على اتهامات غربية وإيرانية، ومعفية نفسها من التورط أو التواطؤ أو التغافل لا فرق ما دامت النتيجة واحدة من خروج ثلاثة آلاف تونسي إلى الشام لإفساد ثورة الشام العظيمة بالتحاقهم مع داعش، حيث يشكك الكثيرون أن مخابرات زين الهاربين اخترقتها منذ اليوم الأول، وقد تجلى ذلك بإعدام داعش نفسها لبعض العناصر التونسية في صفوفها لتورطها بالتجسس ضدها.
تطوف بي الذكريات بعيداً إلى القرن التاسع عشر يوم أن عين السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله خير الدين التونسي صدراً أعظم أي رئيس وزراء للخلافة العثمانية، لم يكن تعيينه من فراغ فقد سبق أن كتب كتابه القيم «أقوم المسالك إلى معرفة الممالك» الذي قال عنه المستشرقون لم يؤلف مثله في الشرق، قرأ يومها خير الدين جيداً تضاريس سياسة الشرق والغرب ومسالكها ومعابرها، ووجد أن الاستبداد هو أسّ البلاء كما قرأه مفكر الشام عبدالرحمن الكواكبي، لكن اليوم حكام تونس الجدد المغتصبين لثورتها يشدونها إلى الاستبداد والاستعباد، وبدلاً من التواصل التاريخي مع أحفاد بني عثمان ها هم يتهمونهم بما ليس فيهم..
لكن ربما من حسن حظ حكام تونس الجدد أنهم وجدوا ضعفاً ثورياً أمامهم حين تذرع ثوار تونس بالتحاكم للديمقراطية وحرية الاختيار ونحوهما، بينما الكل يعلم أن من يتحكم بمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والإعلامية والتربوية والمالية وووو... هم أرباب الثورات المضادة فكيف سيكون الذئب أميناً على الأغنام، وكيف ستكون اللعبة الديمقراطية سليمة.
لم تخجل مؤسسات الحكم القديم التي لا تزال موالية للطاغية زين العابدين من بث برنامج وثائقي تتحدث عن إنجازاته، وكأنها تسعى إلى إعادة الاعتبار له على حساب البوعزيزي ورفاقه، وتجريم الثورة والثوار، وربما قد تصل بهم الوقاحة إلى المطالبة بالاعتذار للطاغية التونسي أيضاً.
لا بد للثوار أن يعووا أن شرعيتهم وشرعية كل ثورات الأرض على مدى التاريخ لم تأت من صناديق الاقتراع وإنما من شرعية ثورة عظيمة تم التضحية بخيرة شبابها وشاباتها، ولذا فلابد من تشكيل مجالس ثورية في كل مدينة وقرية ومحلة لتكون هي الأمينة والوصية والحامية للثورة، وإلا فإن الحرس القديم المتجذر بهذه الدول هو من سيقوم بفرض رأيه، وهو ما حصل واقعاً في كل دول ثورات الربيع العربي، الثورة تعني قطع رؤوس الظلم والاستبداد والإجرام وما لم تتدحرج رؤوس لتشرد بهم من خلفهم، فلا مستقبل للربيع العربي..لا ثورات كيووووت في التاريخ الإنساني.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين